تشكلت ضفيرة متكاملة من النتائج والتداعيات، التي كانت حصادًا مباشرًا للأزمات السياسية والاقتصادية العنيفة في مصر والعالم العربي عمومًا، ولا شك أن استفحال حالة الإلحاد وتناميها، وتغلغل تأثيراتها العميقة، كل أولئك كان جزءًا من هذه النتائج الناجمة عن عنف الأزمات وحدتها، حيث ترسخ الإحباط وغابت البوصلة، وتبدد الهدف الجمعي أو الفردي وتبخر الحافز الذي من أجله يكون النشاط والجهد الإنساني ، وتوطد -مع هذا كله- “المعنى العدمي” وترسخت الرسالة، التي يمكن تلخيصها في كلمة: “عبثية العالم ولا جدواه”! ويضاف إلى هذا كله نجاح “الخطاب الإعلامي” في ضرب كل الرموز الكبيرة، دفعة واحدة، وفي الصدارة منها “الرموز الدينية” بصورة خاصة. فتلفت الشباب (المحبط أصلاً بتأثير المجرى السياسي للأحداث) يمنة ويسرة، فلم يجد وجهًا “كاريزميًا” يحتذيه ويسير على مثاله، ولم يأنس شيخًا مهيبًا يمكن أن تسكن نفسه إلى خطابه التصالحي، ولم يجد قطبًا وطنيًا أو حزبيًا، يمكن أن يمثل نموذجًا لنظافة اليد وسلامة الوجهة والنقاء النسبي في سيرته الذاتية أو جهده الإصلاحي، وظلت ماكينة الإعلام تستبيح الجميع بفجور، وتشهر علنًا بكل الوجوه والأطياف دون سقوف أو حدود، في كرنفال استباحة شاملة، طال الجميع، ومسح بـ”الأستيكة” (الممحاة) أية صورة -ولو محتملة أو نسبية- لـ”قدوة كبيرة” يلتف حولها الشباب. فاكتفى الشباب -مؤقتًا- بالالتفاف حول اللاعب الشاب محمد صلاح، متابعًا عروضه المشرفة مع “ليفربول” ومعتبرًا “ابن بسيون” قدوة وحيدة برغم مرور اللاعب نفسه بفترة تعثر ملحوظة أثرت على مردوده! وهو ما ضاعف من أسباب خفوت الشحنة الدينية في النفوس، بالتدريج، وصولاً إلى غيابها تمامًا، في شكل “إلحاد صريح” دار حول فكرة غياب العدالة من العالم، وتصدر الأقزام للمشهد دون منطق!.
طفحت التغريدات على الفضاء الأزرق والتعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي بتعليقات من نمط: “إذا أردتم أن تكونوا كالصين، فلا مفر من اعتناق البوذية!” أو “العيب ليس في تفسيرات الفكرة، بل في الفكرة الأصلية!” (وهما تعليقان لإعلامي مصري شهير سجلهما على صفحته!) أو قول أحدهم: “الدين وحده هو من جرنا إلى هذا الكم من الهزائم!” (وهو تعليق لروائي مصري شهير) أو في قول شخص آخر محبط: “فلنحاول الخروج من الأزمة والعمل، طلبًا للجنة، إذا كان هناك جنة بالفعل!” (وهي مقولة لروائي مصري آخر، تجده دائمًا ملطوعًا في مقاهي وسط البلد!).. وهكذا دواليك دون التنبه إلى أن أسباب الانتكاس الحالية “سياسية” في جوهرها وهي من صنع هذا الجيل -عقيم الموهبة والخيال- من القيادات الفكرية والسياسية والاقتصادية، لأن هذا الدين نفسه هو من وصل بـ”مصطفى مشرفة” و”عبد الرحمن بدوي” وسواهما من العقليات النابهة إلى نتائج مشرفة، إنجازات لا يختلف اثنان حول قيمتها وجدواها. فالدين لم يقل أبدًا للاقتصاديين: “عيشوا على القروض”، ولم يطالب بعض القيادات، بتقطيع الخصوم بالمناشير، ولم يطالب أحدًا بالركوع -حد الانبطاح- للمستعمر المتغطرس ودفع الإتاوة له عن طيب خاطر، والدين لم يفرض علينا الرشوة لتكون هواء نتنفسه، ولا الفساد المالي ليقتات ثلة فاجرة من رجال الأعمال من دماء المهمشين والبسطاء، والدين لم يطالب أحدًا بالبلطجة في الشوارع والتهجم على الأبرياء و”تثبيتهم” في الطرق بالمطاوي والسنج! والدين لم يطالب مسئولاً بتهريب ألوف من قطع الآثار إلى “إيطاليا” أو غيرها! بل إن الدين نفسه، بمنهجه ورمزية رجاله، كان من جملة الأهداف التي تعرضت لحالة الاستباحة الشاملة القائمة، التي لم يكن الدين أبدًا سببًا لها!
ومع ذلك كله، فإن بعض مثقفي وسط البلد، مازالوا يعاقرون حشيشًا مغشوشًا، ويصرون على أن الدين -وحده- هو من صنع بنا كل هذا، وهم بذلك ينسبون خطايا المرحلة إلى عنصر وحيد “مهيض”، فرارًا من اجتياز مناطق أخرى ملغومة من المعارضة، قد تكلفهم ثمنًا باهظًا، فلا بأس من استباحة الحائط الواطئ -وهو الإسلام وحده- من باب البقاء في مساحات المعارضة المأمونة! ولا مفر من الإقرار بأن الشباب دفع الثمن الباهظ، لهذا التخبط والفوضوية والاستباحة الشاملة، فزادت نسب الإلحاد، بتأثير الانتكاسات الداخلية والخارجية المتكررة، ووصلت جامعة “ميتشجان” الشرقية بنسبة الملحدين في مصر إلى “ثلاثة” بالمائة، أو نحو مليوني ملحد تقريبًا، فرختهم المرحلة المتخبطة عربيًا، وهو ما أكدته مؤسسة بورسن مارستلير بنيويورك، وأكدته بعض بحوث د.منصور معادل ود.تقي أزدار مكي الأستاذان بجامعة ميتشجان! وقد تكون النسبة جالبة للحزن الثقيل والإحباط المضاعف، لكنها كفيلة بأن تؤكد لنا، أن حلحلة الأزمة السياسية، والتخفيف من ضغوط المرحلة المأزومة، جزء عضوي من الحل، والمواجهة الشاملة لحالة الإحباط الرهيب المتغلغلة في نفوس الشباب، والتي خلقت بدورها حالة إلحادية لدى بعض القطاعات، قد تتطور لما هو أسوأ، إذا لم نبادر إلى مواجهتها بحلول ناجعة. أما أسباب الإلحاد وطرائق مواجهته، مصريًا وعربيًا، فهو ما نتناوله -بإذن الله- في المقالة القادمة، مكتفين في هذه المقالة بالتأكيد على أن ضغوط الأزمات السياسية والاقتصادية الرهيبة، كانت من أقوى أسباب الإلحاد ودواعيه. وهو ما لخصه “أبو ذر” -رضى الله عنه- قديمًا حين قال: “إذا دخل الفقر إلى بلد قال له الكفر: خذني معك”! وللحديث بقية…
التعليقات