الشيخ أحمد حسن الباقوري ( 1907- 1985م) واحد من مشاهير رجالات الأزهر المعاصرين ، الذين قُدِّر لهم أن يكونوا مشاركين في صنع الأحداث والتأثير فيها ،ففي مطلع شبابه قاد حركة طلاب الأزهر المطالبة بعودة الشيخ المراغي لمشيخة الأزهر ، وقد عرضه ذلك للفصل من الأزهر والسجن والتشريد . ثم انضم لجماعة الإخوان المسلمين وكان له دور بارز فيها إلى أن قامت ثورة 1952 فصار مقرباً من رجالها ،وفي سبتمبر 1952م عُيِّن وزيراً للأوقاف على غير رغبةٍ من مرشد الإخوان وقتها ( المستشار حسن الهضيبي) ،وهو ما أدى إلى استقالة الباقوري من مكتب الإرشاد ومن كل مؤسسات الجماعة .
وقد عُرِف عن الشيخ الباقوري رحمه الله ميله إلى التيسير في الفتوى ، وأُثرت عنه أقوال ومواقف اعتبرت نوعاً من التساهل في الفتوى والأخذ بالشاذ من الأقوال ،وهو ما عرَّضه لانتقادات كثيرة بلغت حد القسوة والتطاول عليه .وقد تتلمذت عليه في أواخر حياته عاميين دراسيين في معهد الدراسات الإسلامية بالقاهرة ، واستفدت من علمه وأدبه . وقد تبين لي من خلال سماعي لدروسه وقراءتي لكثير من آثاره أنه كان ذا طبيعة متسامحة لا يحب أن يعادي أحداً ،ولا أن يدخل في خصومة مع أحد ، لذا لم يكن يهتم كثيراً بالرد على منتقديه والمتطاولين عليه .
ولا شك أن الشيخ الباقوري كغيره من أهل العلم يؤخذ من قوله ويُرد ،وأن له من الأقوال والمواقف ما قد لا نوافقه عليه ، ولكن قد استوقفني جانب من مواقفه وآرائه أحسب أنه لم ينتبه إليه الكثيرون ممن عاصروا الشيخ أوكتبوا عنه ،ألا وهو موقفه من البدع ومحدثات الأمور ،وبخاصة ما يتعلق ببدع المساجد ،وإقامة الأضرحة على القبور ،حيث تبين لي أن رأيه فيها أنها ليست من الدين ،وأنه يجب إزالتها والقضاء عليها .
ويمكننا في هذا السياق الإشارة إلى المواقف الآتية :
1-أول ما نبدأ به الإشارة إلى فتوى صدرت عنه حين كان وزيراً للأوقاف وذلك رداً على استفتاء ورد إليه من بعض الجهات الإسلامية في الهند بخصوص تزيين القبور وإقامة الأضرحة عليها ، وقد أجاب الشيخ الباقوري رحمه الله عن تلك الأسئلة إجابة مطولة أثبت نَصَّها الشيخ محمد الغزالي رحمه الله في كتابه : ليس من الإسلام (ص: 256 وما بعدها ) تحت عنوان : ( فتوى رسمية ) ،وبحسب ما جاء في الكتاب المذكور فإن الشيخ الباقوري استهل إجابته فيما يتعلق بتزيين القبور وإقامة الأضرحة عليها (( بأن هذا العمل ضرب من الوثنية وعبادة الأشخاص، وقد منعه الإسلام، ونهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم وحث على تركه، فقد رُوى عن جابر رضي الله عنه قال: ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يُبنى عليه ).وقال علي رضي الله عنه لأحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوصيه: ( ألا أبعثك على ما بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تدع تمثالا إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته) .وإذا كان المسلمون اليوم يتخذون من تزيين القبور مجالاً للتفاخر والتظاهر، ويمضي بعضهم في الشطط حتى يقيم الضريح على القبر إظهاراً للميت بأنه من أولياء الله ،أو بأنه من سلالة فلان أو فلان استغلالا لهذه الرابطة على حساب الدين؛ فإن ذلك حرام في حرام )). ثم ذكر الشيخ في تتمة فتواه كيف استغل المستعمرون والمحتلون جهل المسلمين بدينهم وحبهم لإقامة الأضرحة والقباب على القبور ، وأن أولئك المحتلين كانوا يعتنون بإقامة الأضرحة والقباب في ربوع البلاد، حتى ينصاع لهم الناس ويطيعوهم راضين ، ثم أشار إلى أمثلة من ذلك منها ما حدثه به أحد كبار المستشرقين عن بعض أساليب الاستعمار في أسيا (( من أن الضرورة كانت تقتضي بتحويل القوافل الآتية من الهند إلى بغداد عبر تلك المنطقة الواسعة إلى اتجاه جديد للمستعمر فيه غاية ،ولم تُجدِ أية وسيلة من وسائل الدعاية، تجعل القوافل تختاره، وأخيراً اهتدوا إلى إقامة عدة أضرحة وقباب على مسافات، وما هو إلا أن اهتزت الإشاعات بمن فيها من الأولياء وبما شوهد من كراماتهم ،حتى صارت تلك الطرق مأهولة مقصودة عامرة )) .
2- وفي عام 1953 أثيرت قضية طواف الموتى ،وكون الميت يأبى أن يدفن إلا في موضع معين ، وذلك بمناسبة ما نشرته الصحف آنذاك عن رجل ممن يعتقد العامة فيهم الولاية والصلاح بمحافظة بني سويف ،وأنه لما توفي وحمله المشيعيون فإنهم لم يستطيعوا أن يتجهوا به نحو المقابر ، فظلوا يطوفون به ،أو ظل هو يطوف بهم –كما يزعمون- ساعات طويلة ،وأنه حتى لما جاءت الشرطة لم تستطع أيضاً منع الجثمان من الطواف ، وهنا كان للشيخ الباقوري رأيه الذي سجله في مقال نشرته جريدة الاثنين (العدد 1017 ) ، ونقلته مجلة الهدي النبوي (عدد ربيع الثاني 1373ه ) وقد ذكر في ذلك المقال أنه كان في قريته (باقور بمحافظة أسيوط ) رجل عابد اسمه (الشيخ فارس) ،وكان قد اعتزل في نخيل قرب البلدة يعبد الله وحده ، وأنه لما مات ذلك الرجل حمله أحباؤه ومريدوه وراحوا يطوفون بجثمانه أرجاء القرية ومن خلفه الطبل والمزمار والأعلام ، قال الشيخ : (( وقد أنكرت على القوم هذا ، وكنت يومئذ طالباً في معهد أسيوط الديني ، وكادت تحدث فتنة لولا أنني تقدمت باقتراح انتصر له وجوه القرية وأعيانها ، ويتلخص هذا الاقتراح في أن يُترَكَ لي اختيارُ أربعة أشخاص يحملون نعش الميت ، على أن يكونوا من المعروفين بالبعد عن الهوى واحترام الواقع ، فإن سار النعش معهم في هدوء كان ذلك دليلاً على التلاعب ، وإن أبى المسير في هدوء وسكينة كان ذلك دليلاً على صدق الدراويش والمريدين. وحملنا الشيخ وسرنا به في هدوء بعض الوقت ، ولما رأى المريدون أن حيلتهم كادت أن تنكشف هاجوا وماجوا ، وكادوا يحدثون معركة معنا ، ومنذ ذلك اليوم وأنا أومن أشد الإيمان أن هذه الحركات مصنوعة وأنها من تلاعب الحاملين ، وقد رجعت إلى كتب الدين فلم أجد نصاً واحداً يدل على شرعية هذه الادعاءات …. ولهذا اعتقد أن هذه الحادثة من نسج الخيال وأدعو سائر المواطنين أن ينصرفوا عن هذا اللغو ، وأن يقبلوا على ما هو نافع ومفيد ، وحسبنا ما ألصقه الخيال بديننا فصرفنا عن العمل الجاد ، وجعلنا أضحوكة العالمين …)).
3-وبتاريخ 11/ 12/ 1953م نشرت جريدة الجمهورية خبراً مفاده أن الأستاذ الباقوري وزير الأوقاف أمر بتحويل المال المخصص في أحد الأوقاف لبناء مدفن إلى بناء مسجد ، وسئل الوزير عن الأسباب التي من أجلها رأى عدم تنفيذ شرط الواقف فقال : (( إن الأضرحة أمر يتصل اتصالاً وثيقاً بالوثنية ، وواجبنا أن نطارد الوثنية في أي صورة من صورها ،وسياستنا قائمة على عدم الاهتمام بالأضرحة والقباب ، وتزويد المقابر بوسائل الترف الدنيوي ، ثم أضاف قائلاً : إن هذه الأموال التي تنفق على الموتى خير لها أن تنفق على الأحياء فهم بها أولى وأحق )) .
4-وفي تلك الفترة أيضاً صدرت فتوى شرعية تلزم الإذاعة بالاكتفاء بالأذان الشرعي وعدم زيادة الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم بالكيفية التي كانت تبث بها وقتذاك ، وتعقيباً على هذا الموضوع نشرت مجلة الهدي النبوي في عدد جمادى الثانية 1373هـ نقلاً عن جريدة الأخبار تصريحاً للشيخ الباقوري تحت عنوان : ( الأذان الشرعي بالإذاعة : تصريح لوزير الأوقاف ) جاء فيه : (( سأل مندوب الأخبار الأستاذ أحمد حسن الباقوري وزير الأوقاف عند انصرافه من مجلس الوزراء عن موضوع صيغة الأذان الشرعي في محطة الإذاعة وما أثير حوله من آراء تنادي بإذاعته بصوت حسن . فقال الوزير: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأنس بالصوت الحسن ويستزيد منه ، ولكنَّ هناك فرقاً بين الصوت الحسن والتخنث . أما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عقب الأذان بالطريقة التي يذاع بها فهذه لا يقرها الدين ، لأنها دخيلة عليه ، ثم قال : إن الصيغة الجديدة للأذان سيقبلها الناس وسيألفونها ، وحينئذ سيرفضون الصيغة الأولى للأذان إذا أذيعت مرة أخرى )).
وبعد : فإنه يلاحظ أن كل المواقف التي ذكرناها للشيخ الباقوري إنما كانت في فترة توليه وزارة الأوقاف ، وهو ما يُظهر أنه كان يحاول من خلال منصبه العمل على تنقية الدين من البدع أو التقليل منها إن لم يستطع منعها ، بخلاف كثيرين ممن تولوا الوزارة من قبله أو من بعده ، فإن عدداً غير قليل منهم كان همهم تثبيت تلك البدع إرضاءً للعامة وحرصاً على عدم إثارتهم ، بل إن منهم من عُرف عنه قبل توليه الوزراة أنه كان من المنكرين لبدع الموالد وما يحدث فيها من المنكرات ،فلما تولى الوزارة صار يشارك في افتتاح تلك الموالد والاحتفال بها . رحم الله الشيخ الباقوري وعفا عنه وغفر لنا وله ولسائر المسلمين .
عبد الآخر حماد
عضو رابطة علماء المسلمين
16 / 2/ 1440هـ – 25/ 10 / 2018م
الشيخ الباقوري .. مواقف في إنكار البدع والمحدثات

التعليقات