تشهد مدينة شرم الشيخ هذه الأيام مؤتمرا شبابيا حاشدا وضخما تحت عنوان “منتدى شباب العالم” ، ويحضره آلاف الشبان والشخصيات من مختلف أنحاء العالم ، والحقيقة أنه حتى الآن لم يعط أحد جوابا شافيا لسبب انعقاد هذا المؤتمر الضخم والمكلف ماليا وأمنيا على بلد يعاني مثل مصر ، مديرة المنتدى السيدة جيهان الحديدي قالت للصحف المحلية والدولية (إن الهدف من استضافته هو أن نحقق قصة نجاح في الإعداد والتنظيم لنثبت للعالم قدرة الكوادر الشبابية على العمل الجيد التطوعي المنظم بكفاءة بالغة، وهو ما حدث بالفعل عن طريقة خلايا النحل التي تكونت من المجموعات الشبابية التي تعمل بشكل متواصل ومعطاء، وهي تتمتع بإمكانيات كبيرة وأفكار واعدة وعزيمة وإصرار غير عادي، وتعمل بروح الفريق مما يبشر بتحقيق النجاح) ، وهذا الشرح الحماسي الطويل لا يوفر إجابة منطقية أو مفهومة ، ربما يناسب الحديث عن رحلة لفرق الكشافة ، ولكن لمؤتمر دولي ضخم بهذا الشكل ويكون لمجرد إثبات أن شباب مصر قادرون على العمل التطوعي المنظم ، فهذا كلام غريب ، وأن يصدر من مديرة المنتدى فهذا يعني أننا لا نملك ما نقوله لأهلنا في مصر أو للعالم عن هدف أو مبرر منطقي لهذا المؤتمر الباذخ .
عبد الفتاح السيسي تحدث للإعلام الأمريكي عن هذا المؤتمر وبرر الدعوة إليه بقوله : (أن المنتدى يُعد فرصة متميزة لمد جسور الحوار والتواصل بين الشباب من كافة أنحاء العالم، منوهاً إلى أن المجتمع المصري ذو قاعدة شبابية عريضة ، حيث أن أكثر من نصف تعداد مصر هم من الشباب دون الأربعين عاماً) ، والحقيقة أن هذا الكلام لا يناسب إطلاقا ظروف دولة مثل مصر لها قائمة أولويات هائلة في الاقتصاد والسياسة والأمن والتنمية قبل أن تصل إلى مرحلة أن يكون في أولوياتها صناعة جسور التواصل بين شباب العالم ، كما أن هذا التبرير يمكن أن يمثل إحراجا للسيسي ، لأنك إذا كنت تعمل في أولوياتك على صناعة جسور التواصل بين شباب العالم ، فإن البديهي أن الأكثر أولوية أن تصنع جسور التواصل مع شباب وطنك وبلدك ، والذي يرى العالم كله أنها جسور مقطعة وملتهبة وشديدة التوتر وتواجهك صحافة العالم كله بها في أي رحلة لك خارج مصر لتصبح السؤال الأول والضروري ، ما معنى أن يهتم رئيس بلد بالحوار مع شباب العالم كله ، إلا بلده ، ولا يغني عن ذلك اصطناع الأجهزة لعدة لقاءات مع شباب مختارين بعناية لصناعة صورة مزيفة عن حوار شباب مصر والتقاط الصور ، فالعالم كله يعرف الآن أن آلاف الشباب المصري داخل السجون على خلفية أسباب سياسية ، وأن كثيرا من نشطاء ثورة يناير التي تأسست عليها الشرعية التي أتت بالسيسي نفسه هم في السجون الآن ، وأن هناك نشطاء ومعارضين يموتون داخل السجون أو أقسام الشرطة وهم رهن الاحتجاز ، ولعل أحدثهم الناشط النوبي جمال سرور ، رحمه الله ، الذي مات في أحد أقسام شرطة مدينة أسوان ، وكان معتقلا ، أومحتجزا ـ حسب التعبير المصري الخاص ، على ذمة اتهامه بالتظاهر السلمي والضرب على الدفوف والغناء ! .في نفس الأسبوع الذي يعقد فيه السيسي مؤتمره هذا للحوار بين شباب العالم وليثبت أن مصر واحة الحرية والحوار والسلام ، أصدرت خمس دول أوربية كبرى ، منها بريطانيا وألمانيا بيانا مهينا يندد باعتقال مصر لمحامي وناشط مدني ، وشمل البيان الذي وزع على نطاق كبير وأعادت نشره سفارات تلك الدول في القاهرة نفسها ، على دعوة لوقف التعذيب وانتهاكات حقوق الإنسان واحترام الحريات العامة ، هل شباب تلك الدول سيصدقون خطبك الجميلة الحانية في شرم الشيخ ويكذبون بلادهم ؟ ، وهل هذه الدول هي التي ستقنعها بجدية مؤتمرك وإخلاصه لقضايا الشباب والحوار والسلام ؟ .الاحتفالية الكبيرة في شرم الشيخ جارحة لمشاعر ملايين المصريين ، الذين يعانون الفقر والمذلة من أجل توفير قوت أولادهم أو الحصول على خدمة أساسية لهم كبشر ، قبل أن يكونوا مواطنين ، مثل رعاية صحية لائقة أو تعليم جيد لأولادهم ، فبينما يعترف الرئيس نفسه أمام العالم بأننا لا نملك تعليما جيدا ولا صحة جيدة ولا فرص عمل ولا إسكان ويبرر ذلك بضيق ذات اليد ، نجده ينفق عشرات الملايين وربما مئات الملايين على احتفالية مثل هذه ، يرتع فيها شباب وشخصيات من أنحاء العالم في الخير المنتزع من قوت الفقراء ، ويعيشون أياما وليالي من ليالي ألف ليلة وليلة في شرم الشيخ ، أكل ومرعى ـ كما يقول العامة ـ وسهرات غنائية باذخة ورحلات سياحية مجانية وإقامات فاخرة مجانية في أفخم الفنادق وحراسات ضخمة من آلاف الضباط والجنود ، ثم نطرب في إعلامنا برأي أحدهم وهو يتغنى بمصر وشرم الشيخ ، طبعا يتغني ، وهل بعد هذا “الدلع” والرفاهية والسياحة المجانية سيقول لك أنه مستاء مثلا .البعض في الدولة المصرية يحاول أن يواجه العالم بوجهين ، وجه للخارج مشبع بالحوار والاحترام والترف والغنى واحترام الإنسان والتعددية السياسية وحرية الصحافة والإعلام ، ووجه للداخل يقوم على العين الحمراء وسوط الجلاد والقمع والسجون ومحاصرة الأحزاب وخنق منظمات المجتمع المدني وغلق المواقع الإخبارية بما فيها مواقع الصحف المعارضة وكراهية الحوار ولغة المسكنة والفقر “أجيب منين” والتنكر لفكرة حقوق الإنسان من جذرها ، غير أن هذه الازدواجية ربما كانت تصلح قديما ، عندما كان العالم القريب والبعيد لا يعرف أخبار مصر إلا من إذاعة صوت العرب أو صحيفة الأهرام الرسمية ، وليس في عصرنا الحالي الذي يتواصل فيه الناس شعوبا وملوكا ورؤساء وأمراء عبر قارات العالم الست في نفس اللحظة والثانية عبر شبكات الانترنت والفضاء المفتوح وسرعة انتقال المعلومة صوتا وصورة ونصا مكتوبا بصورة مذهلة ، وتكاتف مؤسسات المجتمع المدني والحقوق الإنسانية وتساندها عبر العالم يوميا ، العالم يعرف جيدا ما يجري عندك ، فقط أنت تفكر بنمط قديم عفى عليه الزمن .
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر عن رأي الموقع بالضرورة
التعليقات