الشيخ الغزالي والعلة القادحة
بقلم: المهندس أسامه حافظ
معركة كتاب السنة بين أهل الفقه وأهل الحديث
الخلو من العلة القادحة هو أحد الشروط الخمسة التي وضعها علماء الحديث لقبول الحديث الآحاد ” عدالة الرواة وضبطهم واتصال السند والخلو من الشذوذ والعلة القادحة “.
ويعرفها أهل هذا الفن بأنها سبب خفي ينقدح في ذهن العالم يدعوه لرد الحديث وإن كان ظاهره السلامة.
بمعني أن الحديث قد يكون ظاهره الصحة ولكن العالم المتمرس بعلوم الشرع ينتبه فيه إلي علة خفية لا تلحظها عين غير المتمرس تقدح في صحته .. وهذه العلة قد تكون في سند الحديث أو في متنه.
والعلة القادحة في المتن كثيراً ما دعت علماءنا لترك حديث ظاهره السلامة في أصح كتب الحديث وبأصح الأسانيد لوجود أدلة أخري ترجحت لديهم مخالفة له.
ومع اتفاق العلماء علي صحة الأصل واستعماله عند كل منهم بصورة أو أخري إلا أنهم قد يختلفون في مفردات الإستعمال والتقدير لوجود هذه العلة.
ونسوق بعضاً من نماذج أهل العلم في استعمال تلك القاعدة من بين المئات منها لتقريب الفكرة للأذهان:
1. ترك الأحناف العمل بحديث ” إذا ولغ الكلب في وعاء أحدكم فليغسله ..” المتفق عليه لأن راوي الحديث كان فقيهاً ولكنه لم يعمل به ولأن الشارع الحكيم أذن في استخدام الكلب في الصيد ولم يأمر بغسل ماجاء به في فمه من صيد.
2. ترك المالكية العمل بحديث ” النهي عن كل ذي مخلب وناب ” المتفق عليه لأنه يتعارض مع أسلوب الحصر والقصر الموجود في الآية ” قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً علي طاعم يطعمه إلا …”.
3. ترك الحنابلة العمل بحديث ” أيما إهاب دبغ فقد طهر “المتفق عليه لأنهم رجحوا عليه حديث ” لا تنتفعوا منها باهاب ولابعصب “
4. ترك الأحناف العمل بحديث المصراة المتفق عليه لتعارضه مع القواعد العامة في الضمان والمستمدة من الآيات والأحاديث ومقاصد الشرع التي تعتبر المثلية في الضمان.
5. ترك الأحناف العمل بالحديث المتفق عليه ” لا يقتل مؤمن بكافر ” لأنه يخالف ظاهر القرآن ” النفس بالنفس …”.
6. ترك المالكية حديث تحية المسجد أثناء خطبة الإمام يوم الجمعة المتفق غليه لأنه لم يرو إلا من طريق واحد رغم أنه في أمر عمت به البلوي وتكرر كثيراً مما يستدعي أن يروي من أكثر من جهة ولأنه يتعارض مع ظاهر الآية ” وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون “.
7. ترك جمهور العلماء العمل بالحديث المتفق عليه في الشفعة ” الجار أحق بصقبه ” وتأولوه لوجود حديث ” الشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة “.
8. ترك جمهور العلماء الحديث الصحيح ” أفطر الحاجم والمحجوم ” لما اعتقدوه من مخالفته لقاعدة الإفطار مما دخل لا مما خرج.
9. ترك الجمهور أيضاً حديث مسلم ” من أكل لحم جزور فليتوضأ ” معتقدين نسخه بحديث ابي داود في ترك الوضوء مما غيرته النار.
10. ترك الأحناف النصوص الصحيحة الصريحة في الطمأنينة في الصلاة والموجودة في أصح كتب الحديث لفهم فهموه من قوله تعالي ” اركعوا واسجدوا “دون أن يذكر الطمانينة.
11. ترك الأحناف لأحاديث قراءة الفاتحة في الكتب الصحيحة في الصلاة لفهمهم للآية ” فاقرؤوا ما تيسر من القرآن “.
12. لم يقبل الشافعية الحديث المتفق عليه بجواز الصوم والحج عن الميت لما فهموه من الآية ” وأن ليس للإنسان إلا ما سعي “.
13. ترك الأحاديث الصحيحة الكثيرة في مسلم وغير مسلم في صلاة الجنازة علي القبر بحديث ” لا تجلسوا علي القبور ولا تصلوا عليها“.
والمتجول في كتب الفقه يجد المئات من الأحاديث التي ظاهرها الصحة ووجدت في أصح كتب الحديث ولكن الفقيه المتمرس الدي قضي حياته غائصاً في بحور العلم من حديث وفقه ومقاصدالشريعة وعلل الأحكام يستطيع أن ينتبه لعلة في الحديث تجعله يرده وينتقل إلي دليل يراه أقوي في الدلالة أو الثبوت فيختاره.
أقول هذه المقدمة الطويلة بين يدي تلك المعركة الضارية التي نشبت حول كتاب الشيخ الغزالي رحمه الله السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث ﴾ والذي تعرض فيه الشيخ لهجوم شديد وتطاول وصل إلي اتهام الشيخ في دينه وعلمه ووصفه بأنه متغرب معاد للسنة والشيخ رحمه الله وهو حسيبه أبعد الناس عما اتهموه به.
ما هو سر هذه الحملة الشرسة علي الشيخ وغاية ما فعل أنه استخدم حقه كعالم وفقيه في النظر في الحديث كما نظر الأولون والبحث فيها كما بحثوا فرد من وجهة نظره بعضاً منها لعله رآها قادحة فيها أو لدليل اعتبره أرجح نتفق معه في وجهة نظره أو نختلف كما نتفق أو نختلف مع أي ممن سبقوا من أهل العلم سلفاَ أو خلفاً فيما ردوا من أحاديث كرده .. بل وكما اختلفوا مع بعضهم البعض دون أن يتهم أحدهم الآخر بمثل ما اتهم أنصاف المتعلمين في عصرنا الشيخ الجليل وهو والله حسيبه أبعد الناس عن الإتهام في علمه أو دينه وقد قضي حياته الطويلة مدافعاً عن هذا الدين متحملاً للبلاء في سبيل إعلاء شأنه بل ومات رحمة الله عليه في موقف عظيم في الدفاع عنه.
إذن ما هي المشكلة بالضبط ..؟ فالفكرة الأساسية التي بني عليها الكتاب ليست موضع نقد أو إنكار وهي مشروعية أن يرد العلماء المتمرسون ما يرونه من أحاديث ظاهرها الصحة بالعلة القادحة في المتن من وجهة نظره إن ظهر له ما هو أرجح في القبول منه بشرط أن يكون الفاعل عالماً متمرساً في علمه غير مطعون في دينه وتقواه ونحسب الشيخ من هؤلاء.
وأحسب أن المشكلة فيما يبدو لي تكمن في ثلاثة أشياء:
1. هي اختيارات الشيخ في هذه الأحاديث .. فبعض منها وافق فيه من سبقوه والبعض الآخر انفرد هو بردهم ولم يسبق إليه .. ورغم أننا نتفق أو نختلف مع خيارات الشيخ ولكننا نسلم أن من حق الشيخ أن يختار ومن حق مخالفيه أن يردوا عليه بالأدب اللائق وسواء اتفقوا معه أو اختلفوا فإن ذلك ينبغي أن لا ينتقص منه.
2. أن الشيخ اعتاد إذا اقتنع بفكرة أخلص لها أشد الإخلاص ودافع عنها أعظم دفاع وأغلظ علي مخالفيه إغلاظاً شديدا كثيراً ما كان يمس بعضاً من علماء نثق فيهم ونحترمهم كابن حجر أو النووي أو السيوطي وهو تجاوز لا ينتقص من قدره ولا قدرهم فكثيراً ما كان الحماس دافعاً لبعض علماء سلفنا الصالح إلي التجاوز في الحديث علي رأي مخالفيهم فما قلل ذلك من شأنهما معاً والقارئ لسفر ابن حزم العظيم – المحلي – يجد من ذلك الكثير ولا زال العلماء يتتلمذون علي كتابه القيم دون أن ينقص ذلك من مقامه واحترامه غيرهم.
3. اما الثالثة فهو اهتمام الشيخ بنظرة الآخرين من الغرب للإسلام وحرصه علي أن يدفع عنه ما علق بأذهانهم عنه من أدران وكثيراً ما يصدر حديثه في رد ما يراه من حديث بأن ذلك يسيء للإسلام في عيون الغرب ولكننا نعلم من ثقة الشيخ في دينه وعظيم حملته علي التغريب والدفاع عن هويتنا التي يسعي الغرب لتذويبها فيه الشيء الكثير .. وندرك أن الأمر وإن كان شاغلاً لجزء من جهده الفكري فإنه لا يمكن أن يكون دافعاً وحيداً لرد الحديث أو الطعن عليه حتي لو كان كذلك فإن معرفتنا بالشيخ وعلمه ودينه كانت ينبغي أن تدفعنا لنحسن الرد إن كان ثمة ما يستدعي الرد وحسبنا ما نعتقده من حسن نيته وعظيم جهاده لنصرة هذا الدين.
وبعد .. فالشيخ الغزالي قامة عظيمة في تاريخ ديننا وعلمائنا وأقول دون حرج أنه لا يضيره أن يقدح فيه القادحون أو ينالوا منه حتي وإن كان قد أخطأ فالماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث وحسبنا أنه فيما نحسب لم يرد إلا الدفاع عن الدين ورد العادية عنه
تقبل الله الشيخ في الصالحين وجمعنا به في فسيح الجنان.
.