القائمة إغلاق

حسابات المؤمنين

حسابات المؤمنين

الكاتب : محمد مصطفى المقرئ

يُوعِدون ويتوعدون، وكأن الكون في قبضتهم، وإنما هم والكون جميعاً في قبضة من لا يغفل ولا ينام، {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} [النمل: 79]، حمق يسوقهم إلى قدرهم المحتوم، ولو شاء ربك ما فعلوه، فذرهم وما يتوعدون، قلقٌ يسود بين البعض مما قد يكون، وإنما هي أقدار ستوقظ الغافلين جبراً وتنبه المخدوعين دهراً {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: من الآية216]، والناس في الأزمات فريقان: متثبت بالإيمان، ورعديد جبان، فكن من {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173].

حساباتنا نحن المؤمنين ليست كحسابات غيرنا، ذلك أنها تشتمل على مفردات خاصة ذاتية، وتنبني على اعتبارات إسلامية ربانية، وسواء هذه أو تلك، فهي أمور وراء المحسوس، ولا يمكن إخضاع أيها لقواعد الحسابات البشرية، ولا يتسنى ترجمتها بلغات الكومبيوتر، فإن تسل كيف ولماذا؟؟

قلت: إنه سر الإيمان، ونفحة هذا الدين العظيم {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد: 11].

في علوم الحرب وصراع القوى؛ يمكن للخبراء العسكريين والقادة السياسيين أن يتنبئوا بنتائج المعارك مسبقاً، وغالباً ما تصيب توقعاتهم وتوافق حساباتهم، وليس ذلك بالبعيد، فإنه لا يتطلب سوى عقد مقارنة بين قدرات الجيشين المتحاربين، بالإضافة إلى اعتبارات أخرى، كالروح المعنوية، وطبيعة الأرض، وخبرة الجند، وقوة التحمل والمثابرة، بالقياس إلى أحوال الطقس ومدة استمرار الحرب، إلى آخر ما يتطلبه وجوب استقصاء المقدمات للحصول على نتائج صحيحة.

كل ذلك وارد فيه صحة التوقعات، في الأغلب الأعم، ولا سيما مع التطور الهائل الذي تشهده التقنية الحديثة على مختلف الأصعدة وفي جميع المجالات، حيث يمكن إدخال أرقام وقياسات كلا طرَفَي معركةٍ ما لجهاز حاسوب، فيعطيك نتيجة فورية مفصلة بنتائجها قبل نشوبها، ولكن هذه التقنية الباهرة، تقف عاجزة كل العجز أمام إخضاع مفرداتنا الخاصة كمؤمنين لحساباتهم كبشر، فحينما يكون أحد المعسكرين المتحاربين معسكر الإيمان، تفشل الحسابات البشرية – ولا شك – في التوصل إلى توقعات صائبة، بل تكون حساباتها تلك من باب العبث والدجل لأنها تتأسس – حينئذ – على مقدمات خاطئة أو ناقصة، لم يحط بها استقصاء كلي جامع.

فما هي المفردات التي يختص بها المسلمون؟ إنها مفردات ربانية لا تُمنح لجنس تفضيلاً له على آخر، وإنما يختص بها أهل الإيمان أينما كانوا، وأياً كان جنسهم أو لونهم، وذلك بمقتضى ميزان العدل الإلهي، الذي لا اعتبار فيه لمعايير البشر العنصرية والمادية، والتي تتحيز لفريق دون آخر لمجرد الهوى، أو لحمية حمية الجاهلية، أو لالتقاء المصالح “ميكافيلية”، فالاعتبار الوحيد في ميزان الله: هو الحق والعدل، وعلى أساسه يُمنح المسلم وحده تلك المفردات والخصائص التي تميزه على غيره وتجعله فوقه {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139].. {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم: 35، 36]، {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [صّ: 28].

هذه المفردات التي نعنيها، هي كما يلي:

أولاً: أن المقادير كلها بيد الله وحده؛ فلا يكون شيء في كونه إلا بمشيئته {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} [الإنسان: 30]، وهذه الأسباب الظاهرة إنْ هي إلا محلٌ لابتلاء الله لعباده واختباره لهم، فهي من جهتهم: عمل بمقتضى التكليف الشرعي، والتزام بالسنن الكونية التي تربط الأسباب بمسبباتها لا غير، وإن كانوا على يقين أن الأسباب لا توصل إلى مسبباتها إلا بإذن الله، قال تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [لأنفال: من الآية17]، وقال تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران: من الآية126]، وأوضح من هذا أنه قد تتخلف الأسباب الظاهرة أو تضعف، ومع ذلك يمتن الله بنتائجها على من يشاء من عباده المؤمنين، كما قال تعالى: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249]، وقال تعالى: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} [آل عمران: 13]، فلا اعتبار بالكثرة، ولا قيمة لها إن كانت على الباطل، كما قال تعالى – مخاطباً الذين كفروا -: {وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [لأنفال: من الآية19]، {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ} [الملك: 20].

ثانياً: أن مدد الله لعباده المؤمنين خيرٌ وآكد من الأسباب ذاتها؛ فمتى أخذوا بالأسباب ما استطاعوا، وبقيت مع ذلك دون مكافئة قدرات العدو، كمَل الله لهم قدراتهم بمدده الذي لا يقهر، وتمم لهم أسبابهم التي ليست في طولهم بأسباب لا تتخلف نتائجها، فذانك مددان – التكملة والتتمة – لا يخضعان لحسابات البشر أبداً… {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [لأنفال: 9]، {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةُ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران: 125].

فهذه أمور ثلاثة هي من الأسباب الشرعية التي أمرنا بها، بل هي كالشروط لمدد الله جل وعلا:

1) الاستغاثة بالله تعالى: كما في الآية آنفاً: {إذ تستغيثون ربكم}، وكما في فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر، لما طلع المشركون وتراءى الجمعان، قال صلى الله عليه وسلم: (اللهم هذه قريش جاءت بخيلائها وفخْرِها، جاءت تُحادُك، وتُكَذِبُ رسُولكَ)، وقام، ورفع يديه واستنصر ربه، وقال: (اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إِنَي أَنشُدُكَ، عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ)، فالتزمه الصديق من ورائه، وقال: (يا رسول الله! أبشر، فوالذي نفسي بيده، لَيُنجِزَنَ الله لك ما وَعَدَكَ) [قطعة من حديث أخرجه مسلم]، وفي رواية عن عمر رضي الله عنه: فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة يهتف بربه: (اللهم أنجزْ لي ما وعدتني. اللهم آتِ ما وعدتني..) [رواه مسلم في “الجهاد” / 1763 باب: 18 / الإمداد بالملائكة في غزوة بدر].

ومعلوم أن الدعاء عند التقاء الصفين سنة ماضية، وهو في هذا الموضع مقبول مجاب، كما في الحديث: (اطلبوا استجابة الدعاء عند التقاء الجيوش) [رواه الشافعي، والبيهقي في”المعرفة” عن مكحول مرسلاً، وصححه الألباني في “الصحيحة” رقم 1469].

2 و3 – الصبر، والتقوى: كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200] فعلق هنا الفلاح على الصبر والتقوى، كما علق المدد عليهما هناك، وكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (واعلم أن النصر مع الصبر) [رواه أحمد 1/293، وأبو يعلى 2556، والترمذي 2516]، وبالصبر تتضاعف قوة المؤمنين، وتكتب لهم الغلبة على عدوهم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [لأنفال: 65، 66].

ثالثاً: تثبيت الملائكة للذين آمنوا: كما قال تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ} [لأنفال: 12 – 14]، {ذلكم فذوقوه} أي: ذوقوا هذا العذاب والنكال في الدنيا قبل يوم القيامة، وهو معنى قول الله تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} [التوبة: 14، 15].

وهذا التثبيت من الملائكة للذين آمنوا: يحتمل أن يكون مادياً ومعنوياً:
مادياً: بمشاركتهم في القتال وتكثير سوادهم.
ومعنوياً: بتذكيرهم وحضهم وتخزيل الشياطين والكافرين عنهم.

كما أن في مجرد مشاركة الملائكة لهم في القتال تثبيتاً وتقوية ليقينهم بالحق الذي هم عليه، وبنصر الله الذي وعدوه، كما قال تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لأنفال: 9، 10]، وقال تعالى: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران: 126].

وقد تضمنت هذه الآية ثلاثة أوجه من تأييد الله للمؤمنين:

1) تثبيت الملائكة للمؤمنين، بمقتضى وحي من الله.

2) معية الله للملائكة: وهي معية للمؤمنين أيضاً، لما عُللت به من إرادة تثبيت الذين آمنوا، وكما قال تعالى في موضع آخر: {وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [لأنفال: من الآية 19] وقد تقدم أن من أسباب تأييد الله لعباده تقواهم، وفي الكتاب العزيز: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128].

3) إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا: كما قال تعالى: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 151]، وقال تعالى: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً} [الأحزاب: 26]، وقال تعالى: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} [الحشر: من الآية2]، وفي الحديث الشريف الصحيح: (نُصرت بالرعب مسيرة شهر) [رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما، والنسائي في “سننه” والسيوطي في”الجامع الصغير” وانظر شرح “فيض القدير” برقم: 1174 وصححه الألباني في “صحيح الجامع” رقم 1056].

رابعاً: إنزال الأمنة والطمأنينة على الذين آمنوا، والربط على قلوبهم، وتثبيت أقدامهم، وإذهاب وسوسة الشيطان وتهويله لشأن الكافرين: كما قال تعالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ} [الأنفال: 11]، وما طمأنينة قلوبهم إلا من بشرى تأييد الملائكة لهم، لما فيه من الدلالة على أنهم هم المنصورون، “{وليريط على قلوبهم} أي: بالصبر والإقدام على مجالدة الأعداء وهو شجاعة الباطن، {ويثبت به الأقدام} وهو شجاعة الظاهر، والله أعلم” [أفاده الحافظ ابن كثير، في”تفسير القرآن العظيم“].

خامساً: يقين المؤمنين بالانتصار على أعدائهم إن هم نصروا الله عز وجل، ونصر الله إنما يتحقق بالانتصار لدينه والذود عن حياضه وصون أعراض أهله، والعمل بطاعة الله، وترك ما نهى عنه: كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]، وقال تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ} [آل عمران: من الآية 160].

والمؤمن في مثل هذه المواقف يستحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر لأصحابه: (سيروا وأبشروا، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، وإني قد رأيت مصارع القوم) [“سيرة ابن هشام” 2/248ـ254، من طريق ابن اسحق، وأخرجه أحمد في “الصحيح المسند” 182/1].

سادساً: توكل المؤمنين على الله وحده: فهو الذي بيده مقاليد السماوات والأرض، وإليه يرجع الأمر كله، ولا يكون في كونه إلا ما أراد وقضى، فلا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، وهو الغني القوي المتين، العزيز الجبار المتكبر، هو الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم الذي لا يغفل ولا ينام ولا يموت، والإنس والجن يموتون، فلا تلتفت لوهن الوهنين، ولا لإرجاف المرجفين {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} [الأحزاب: 48]، {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} [الطلاق: 3]، وقال تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 160]، وقال: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} [النمل: 79]، وقال: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: من الآية 23].

سابعاً: طمع المسلم في الشهادة في سبيل الله: وذلك ما لا يطمع فيه الكافر ولا يناله أبداً، فالمسلم بين أمرين كلاهما حلو، النصر أو الشهادة {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} [التوبة: 52]، إنها الصفقة التي لا خسران فيها، بل الربح كل الربح، وما أدراك ما ربحها {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111].

فكل مؤمن بالله في عنقه بيعة وعهد مع الله: إذ إنه بمقتضى الإيمان قد باع نفسه وماله لمولاه، وليس له لقاء ذلك من ثمن إلا الجنة، فما أروعه من عقد، وما أحسنه من ثمن، وما أعظم المشترِي سبحانه، أفيحل لمؤمن – وقد علم أنه قد باع اللهَ نفسَه وماله – أن يتصرف في المبيع بخلاف مقتضى العهد الذي عاهد الله عليه؟! وإن للشهيد عند الله: ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فعن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (ما من عبد يموت له عند الله خير يسره أن يرجع إلى الدنيا وأن له الدنيا وما فيها، إلا الشهيد، لما يرى من فضل الشهادة، فإنه يسره أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى) [رواه البخاري ومسلم، والترمذي والنسائي].

ولقد يعز على النفوس مفارقة هذه الدنيا، فهلا تأمل هؤلاء في كونهم مغادريها، بالشهادة أو بغيرها ؟ {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ} [آل عمران: 157، 158].

ثامناً: تسخير جنود الله تعالى التي لا تحصى لنصرة عباده المؤمنين: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} [الفتح: 7]، وهي جنود مجهولة تأتي من حيث لا يحتسب البشر، ويستحيل أن ترصدها أجهزة الاستخبارات.. {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر: من الآية31]، وهي قد تكون ملائكة، كما تقدم، وقد تكون سكينة تنزل بها الملائكة، كما في هذه الآية: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} [الفتح: 4]، وقد تكون ريحاً أو إعصاراً أو زلزالاً أو أي ظاهرة كونية أخرى، كما في قول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} [الأحزاب: 9].

تاسعاً: التثبت وذكر الله عند لقاء العدو: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [لأنفال: 45]، وإن التكبير وحده لينزل في قلوب أعداء الله رعباً وهلعاً أعظم من رعبهم وهلعهم بكوارثهم، وما الصومال والشيشان منهم ببعيد.

ثم أيكفينا ما ذكر في هذه النقاط التسع سلاحاً، نكمل به ما ينقصنا عن مكافئة قدرات عدونا؟ لقد كانت جيوش المسلمين في أكثر غزوات النبي صلى الله عليه وسلم أقل من أعدائه عدداً وعدة، ففي بدر: كان عدد المسلمين ثلاث مائة وبضعة عشر رجلاً، ولم يكن معهم من الخيل إلا فرسان، وكان معهم سبعون بعيراً، يَعْتَقِبُ الرجلان والثلاثةُ على البعير الواحد، في حين كان عدد المشركين ثلاثة أضعاف جيش المسلمين، ومعهم نحو مائة فرس، غير البعير، وكذا كان الأمر في أغلب الغزوات، وما كان الصحابة – رضي الله عنهم – في كل مرة – إلا متمثلين لقول الله جل وعلا: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: من الآية249]، وقول الله تعالى: {وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [الأحزاب: 22].

وها هي الأحزاب قد جاءت بقدها وقديدها، تحاد الله ورسوله، وتتوعد الإسلام وأهله، ويزعمون أنهم إنما جاءوا لمكافحة الإرهاب، وتكريس الديمقراطية، ونصفة حقوق الإنسان !! أي إرهاب ذاك الذي يكافحه قتلة البشرية على مدار قرن كامل، والقارة الأمريكية نفسها تدينهم، وعلى جثث الهنود الحمر بنوا حضارتهم، وفي “هيروشيما” و”ناجازاكي” بعض جرائمهم، وفي ليبيا والسودان ولبنان غدرهم وعربدتهم، وفي العراق وحشيتهم ولا إنسانيتهم، وفي “قانا” و”العامرية” والطائرة اللبنانية: نماذج لمجازرهم، وفي فلسطين حدث ولا حرج عن بشائعهم: فهم بناة إسرائيل وحماتها، والداعمون لكل أشكال عدوانها، والرافضون إدانة مجازرها ضد أمتنا، مجرد الإدانة يضنون بها على دماء شعوبنا، لأنها دماء مسلمة وما أرخصها!!

فيا كل مسلم غيور صادق الإسلام:

لقد اتفق فقهاؤنا – قديماً وحديثاً – على أن الزود عن بلاد الإسلام واجب شرعي وفرض ديني أجمعت عليه الأمة سلفاً وخلفاً، وما الدفاع عن أوطاننا وحرماتنا ومقدساتنا إلا مصلحة للمسلمين في عاجلهم وآجلهم، {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت: 6]، فمن نكص عن نصرة أمته، ونكث عهده مع ربه، فإنما ينكث على نفسه، والدين منتصر به أو بغيره.. {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} [التوبة: من الآية 40]، وإنه التاريخ – أمةَ الإسلام – نكتبه اليوم بأيدينا، وغداً يشهد لنا أو علينا

ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: من الآية 40].

التعليقات

موضوعات ذات صلة