القائمة إغلاق

الحركة الإسلامية والوسطية 3

الحركة الإسلامية والوسطية 3
بقلم الشيخ ؛ محمد مصطفى المقرئ (أبي إيثار)

الوسطيّة والجهاد في سبيل الله

إنّ الجهاد فريضة شرعيّة لا تحتمل الإنكار أو التأويل، وحتميّة لم يعد يُختلف عليها بين أكثر العاملين للإسلام، حتّى أولئك الذين عارضوه بالأمس، فقد قنعوا اليوم أنّه لا طريق غيره، وقد سُدَّت في وجوههم كلّ الطرق سواه، ولكن عاد الشيطان يحرش بينهم، وينفذ إلى جمعهم، ويخرق إجماعهم من طريق الاستطاعة واختيار الظرف المناسبين.
والسؤال هنا: أليست تلك مسألة اجتهاديّة، تتفاوت فيها العقول، وتختلف فيها التقديرات؟
ولماذا يكون أحد التقديرات ملزماً للآخرين، ولا سيّما إن كان صاحبه لا يملك تجربة، ولا يحيط بمعطيات تجارب الآخرين، ولا يمكن أن يكون أدرى بواقعهم من أهل الميدان الذين يعايشونه ويدركون أدقّ تفاصيله؟
إنّ الجهاد الذي ندعو إليه ليس جهاداً مطلقاً من سنن الله التي تقضي بمرحليّة النمو وترتيب أطواره واشتداد عوده، وبلوغ تمامه.
ولا هو مطلق من أحكام العقل، التي تقضي بأنّ رفع البناء يلزمه أسس وقواعد وعماد.
ولا هو مطلق من قياسات المصالح والمفاسد، ما كان ذلك في إطار الشرع، وبصدق مع الله وصدق من النفس.
لكن هل أنت متروك أن تبني وأن تؤسّس، دون أن يحاول أعداؤك أن يهدّوا كلّ مرحلة من مراحلك فيردّوك إلى أوّل أمرك بلا قاعدة أصلاً؟
متى يبلغ البنيان يوماً تمامه إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم؟
لا شكّ هي معادلة صعبة، والوسطيّة فيها: أن لا تُهْمِلَ ما ذكرنا من قيود مع واقعيّة في التطبيق، والواقعيّة التي نعنيها: هي أن تبلغ ما ترجو – ولو بأقلّ حدّ ممكن من القدرة – قبل أن يقطع عليك عدوّك بلوغه، ولقد تكون المفاجأة المذهلة له – حين يكتشف قوّتك بعد فوات الأوان – وإحدى صور هذه المفاجأة: أن يجتمع على فريضة الله أهلُها، في اللحظة التي يعتقد الناس فيها أنّهم فرقاء متخاصمون.
فماذا بقي للذين يعطّلون الجهاد أن يحتجّوا به، وهم قد منعوه مطلقاً، إمّا لشبهة شرعيّة لا يجيزون الجهاد معها أصلاً، وإمّا لشبهة الاستطاعة التي ينبغي الحذر منها أشدّ الحذر، إذ قد تكون مجرّد تلبيس شيطانيّ يخفي فيه المرء ركونه وتثاقله إلى الأرض، أو حيلة نفسيّة تخدّر لوم النفس وتسكن تأنيب الضمير.
أمّا شبهتهم الشرعيّة فأعظم أركانها أمران:
الأوّل: أنّ هؤلاء الحكّام لا يكفرون!!
وليس في كفرهم تنحصر علّة الخروج عليهم ومجاهدتهم، وفي ما يلي جوابهم:
ما يبايع المسلمون إماماً إلاّ ليقيم فيهم كتاب الله.. وما شُرِعت الإمامة أصلاً إلاّ لغرض إقامة الدين وسياسة الدنيا به، فإذا جاء من يريد أن يحكم المسلمين بغير شريعة الله لم تنعقد له إمامة. وإن تخلّى عن حكم الله وفوّت هذا الشرط بعد انعقاد الإمامة انعزل ووجب خلعه ولو بالمقاتلة، فإنّ الله تعالى لم يشرع قتال الكافرين ويأمر بقاتل أئمّتهم إلاّ ليزيل مناهج الكفر ويقضي على الفتنة وليكون الدين كلّه لله.. قال تعالى: {وقاتلوهم حتّى لا تكون فتنة ويكون الدين لله} [البقرة: 193]
لقد دلّت نصوص الشارع الحكيم على أن الطاعة لا تجب لكلّ حاكم مطلقاً، سواء في ابتداء العقد أو استدامته، أو كان الحاكم متسلّطاً تولّى الحكم بالقهر لا بالعقد
قال الله تعالى: {يا أيّها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} [النساء: 59] فمن لم يكن من المؤمنين، أو لم يطع الله والرسول بأن حكم في الناس بغير الإسلام، فلا سمع له ولا طاعة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّ هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلاّ كبّه الله على وجهه، ما أقاموا الدين» [البخاري].
فلم يأمر بطاعتهم مُطلقاً بل جعلها مرهونة بإقامة الدين..
قال الإمام النووي: «قال القاضي عياض: أجمع العلماء على أنّ الإمامة لا تنعقد لكافر وعلى أنّه لو طرأ عليه كفر انعزل. قال: وكذلك عند جمهورهم البدعة.. قال فلو طرأ عليه كفر وتغيير للشرع أو بدعة خرج من الولاية وسقطت طاعته ووجب على المسلمين القيام عليه وخلعه ونصب إمام عادل إن أمكنهم ذلك، فإن لم يقع ذلك إلاّ لطائفة وجب عليهم القيام بخلع الكافر، ولا يجب في المبتدع إلاّ الذين ظنّوا القدرة عليه، فإن تحقّق العجز لم يجب القيام، وليهاجر المسلم من أرضه وليفرّ بدينه» [شرح صحيح مسلم للنووي، 12/242].
فإذا استولى على الحكم في بلاد المسلمين حكّام مستبدلون لشرائع الإسلام (بافتراض أنّ استبدالهم هذا لا يخرجهم من الملّة [ ]) فإنّهم لمجرّد تركهم لحكم الله وإرغامهم المسلمين على التحاكم لغير شريعة الله؛ لا تنعقد لهم إمامة، لأنّه لا تجب لهم بيعة ولا سمع ولا طاعة.. فالإمامة تزول حكماً إذا فات مقصودها من إقامة الدين وسياسة الدنيا به.. فإنّه لو تسلّط على المسلمين يهوديّ، أو نصرانيّ، أو نصيريّ، أو شيوعيّ أو منكر للقرآن، أو أي كافر كان.. فليس أحد من عقلاء المسلمين يقول بأنّه تنعقد له إمامة.
فكذلك من فوّت مقصود الإمامة، وأهدر العلّة من تشريعها، وحمل المسلمين على الخضوع لغير قانون الله.
قال د. محمد نعيم ياسين – في كتابه «الجهاد» – : «إتّفقوا جميعاً (أي: العلماء) على أنّه لا يجوز للمسلمين أن يصبروا على حكم الكافر، ويجب عليهم أن يجتهدوا في التخلّص من حكمه، وتنصيب حاكم مسلم يسوس دنياهم بأحكام الدين. وينطبق على هذا الحاكم الذي يعطّل قاعدة من قواعد الإسلام أو ركناً من أركانه».
كتب عبدالله بن عمر رضي الله عنهما لعبدالملك بن مروان بعد أن اجتمع عليه الناس: إنّي أُقرُّ بالسمع والطاعة لعبدالله عبدالملك ابن مروان أمير المؤمنين على سنّة الله وسنّة رسوله ما استطعت وإنّ بنيَّ قد أقرّوا بمثل ذلك [فتح الباري: 12/194].
قال الدكتور ظافر القاسمي: «وهذا مستند إلى صريح القرآن الكريم، حيث تردّدت آية واحدة ولم يتغيّر فيها إلاّ جزء واحد: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}» [نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي].
قال عبدالله الدميجي في «الإمامة العظمى»: فإذا خاف المبايع هذا الشرط فلم يعمل بما في الكتاب والسنّة أو عمل بما يناقضها فقد انتقضت بيعته لقوله صلى الله عليه وسلم : «المسلمون على شروطهم» [رواه البخاري تعليقاً في باب الإجارة].
أقول: وقد قيّد رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوب طاعة المتأمّر ابتداءً، أو استدامة: بإقامة كتاب الله.. فعن يحيى بن حصين قال: سمعت جدّتي تحدث أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب في حجة الوداع وهو يقول: «ولو استعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوا» [رواه مسلم]، وفي رواية لأحمد: «يا أيها الناس اتقوا الله واسمعوا وأطيعوا وإن أُمّر عليكم عبد حبشي مجدع ما أقام فيكم كتاب الله عز وجل».
وهذا القيد غير قيد الأمر بالطاعة الذي ورد في نصوص أخرى، فالتقييد بإقامة كتاب الله شرط لوجوب الطاعة والإقرار بإمامته… أمّا التقييد بالأمر بالطاعة فهو بالنسبة لمن وجبت له الطاعة أصلاً، فهي – عندئذ – مقيّدة بأن يأمر بطاعة الله. فالقيد الثاني في الحقيقة هو قيد للقيد الأوّل.
قال عبدالله الدميجي: «فهذا الحديث قيّد الطاعة للإمام الذي يقود رعيّته بكتاب الله، وبناءً على ذلك فلا تجوز طاعة حاكم يحكم بغير ما أنزل الله في حكمه هذا، سواء كان هذا الحكم مخرجاً له من الملّة أو لا – كما سبق بيانه – لأنّه في كلتا الحالتين عاصٍ لا يأمر بالمعروف ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق». [الإمامة: 388].
ومثل هذا الحديث ما رواه الإمام أحمد بسنده إلى عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّه سيلي أمركم من بعدي رجال يطفئون السنّة ويحيون البدعة ويؤخّرون الصلاة عن مواقيتها» قال ابن مسعود: كيف بي إذا أدركتهم؟ قال: «ليس – يا ابن أمّ عبد – طاعة لمن عصى، قالها ثلاث مرّات» [مسند الإمام أحمد، برقم 3790 بتحقيق أحمد شاكر، وقال: إسناده صحيح].
ونحوه ما رواه عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: «سيليكم أمراءٌ من بعدي يعرفونكم ما تنكرون، وينكرون عليكم ما تعرفون، فمن أدرك ذلك منكم، فلا طاعة لمن عصى الله» [رواه أحمد والحاكم وصحّحه الألباني في «الصحيحة»: 2/138].
وفي المسند أيضاً: «لا طاعة لمن لم يطعِ الله»، وعند ابن أبي شيبة «سيكون عليكم أمراءٌ يأمرونكم، فليس لأولئك عليكم طاعة»، وفي رواية: «فلا طاعة لمن عصى»..
وحيث لا طاعة ليس ثمّ ما يمنع الخروج فإنّما يمنع من الخروج وجوب السمع والطاعة.. والسمع والطاعة إنّما يجب بالبيعة أو بتسلّط وتغلّب مسلم يقود الأمّة بكتاب الله فيجب على الأمّة مبايعته والسمع له وطاعته، فلا سمع ولا طاعة إلاّ ببيعة، سواء كانت ابتدائيّة أو بحكم تغلّب من يصحّ أن تنعقد له بيعة.
قال ابن خلدون: «إعلم أنّ البيعة هي العهد على الطاعة كأن المبايع يعاهد أميره على أن يسلم له النظر في أمر نفسه وأمور المسلمين لا ينازعه في شيء من ذلك، ويطيعه فيما يكلّفه به من الأمر على المنشط والمكره» [مقدّمة ابن خلدون، 209].
عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: كنّا نبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والنشط والمكره وعلى أثرة علينا وعلى ألاّ نتنازع الأمر أهله، إلاّ أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان [متّفق عليه].
هذا وكلّ الأحاديث جاءت تأمر بطاعة الأئمة، والصبر على جورهم، وعدم منازعتهم الأمر.. يجب أن تُحمَل على أنّها جاءت فيمن كان مسلماً محقّقاً لمقصود الإمامة. فإنّ أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم تتنزّه عن أن تأمرنا بالسمع والطاعة لمن كان كافراً، أو حاكماً فينا بغير ما أنزل الله، مرغماً لنا على الخضوع لغير شريعة الله.. فهذه الأحاديث إنّما هي فيمن كان فيه شيء من الجور أو الفساد الذي لا يبدّل بمقتضاه أحكام الدين، كأن يكون فيه تقصير في حقوق الدين أو حقوق الآدميين، وهي مع ذلك تقيّد السمع والطاعة بأن يكون في المعروف.
أمّا إذا انسحب فسق الحاكم على أحكام الله، فبدّل شرائع الإسلام، وغيّر قواعد الدين، كما في الحديث «إلاّ أن تروا كفراً بواحاً» فعندئذٍ لا تجوز الطاعة أصلاً، بل يجب الخروج عليه وخلعه.
قال د. محمد نعيم ياسين: «فإذا قام حاكم وقاد الأمّة الإسلامية بغير كتاب الله عزّ وجلّ، لم يكن له سمع ولا طاعة ولم يجز السكوت عليه.. وعلى هذا الذي قدّمنا يمكن أن تُحمَل جميع الأحاديث التي تنهى عن الخروج على الحكّام المسلمين ويكون المقصود بها أنّه لا يجوز الخروج عليهم ما داموا يقيمون الدين في الأمّة، وإن صدر منهم ما يُعدّ معصية، ولو كان ذلك من الكبائر، ولا يُستثنى من ذلك إلاّ أن يترك الحاكم الصلاة وإقامتها في الناس والدعاء إليها، فإن تركها حاكمٌ وجب القيام عليه حتّى ولو كان يقيم بقيّة أمور الدين في الرعيّة، لأنّ هذه الكبيرة قد ورد النصّ عليها..» وقال: «وأمّا قوله عليه الصلاة والسلام: «إلاّ أن تروا كفراً بواحاً» فالبواح: هو الظاهر البادي من قولهم: باح بالشيء يبوح به بواحاً، إذا أذاعه وأظهره.. وأمّا الكفر المذكور في هذا الحديث فقد اختلف العلماء في المقصود منه: فمنهم من حمله على الخروج من الملّة، ورأى أنّه لا يجوز الخروج على حاكم مسلم ما لم يظهر منه ما يستوجب إخراجه من ملّة الإسلام، ومنهم من قال المراد بالكفر هنا المعصية، وممّن فسّره بذلك الإمام النووي، فقد قال: «والمراد بالكفر هنا المعاصي، ومعنى «عندكم من الله فيه برهان» أي: تعلمونه من دين الله تعالى، ومعنى الحديث: لا تنازعوا ولاة الأمور في ولايتهم، ولا تعترضوا عليهم إلاّ أن تروا منهم منكراً محقّقاً تعلمونه من قواعد الإسلام، فإذا رأيتم فأنكروه عليهم، قولوا بالحقّ حيثما كنتم»، ويؤيّد ما ذهب إليه النووي أنّ هناك بعض الروايات الأخرى للحديث جاء فيه قوله عليه الصلاة والسلام: «إلاّ أن يكون معصية لله بواحاً»، وجاء في رواية عند الإمام أحمد قوله عليه الصلاة والسلام: «ما لم يأمروك بإثم بواحاً».
ويؤكّد – كذلك – هذا التفسير لمعنى الكفر في هذا الحديث أنّه أُطلق في كثير من الأحاديث الأخرى على المعاصي..» إلى أن قال: «وإذا حملنا الحديث على هذا المعنى الأخير للكفر البواح؛ استطعنا التوفيق بين مختلف الأحاديث المتعلّقة بهذا الموضوع، ويكون عندئذ المقصود المعاصي التي تخرق قواعد الإسلام، وتشكّل منهجاً مستقلاً في الانحراف أو الدعوة إلى المنكر والبدعة». ا.ه. [بنصّه مختصراً من كتاب «الجهاد» ص206 – 208].
والمقصود بيان أنّ الحاكم بغير ما أنزل الله ليس بإمام وواجب على المسلمين خلعه سواء أخرجه تركه لحكم الله من الملّة أو لم يخرجه.
قال صاحب الإمامة العظمى وهو يعدّد أسباب عزل الحاكم: وهذا السبب أيضاً كالذي قبله مستوفي الصور من الحكم بغير ما أنزل الله المخرجة لفاعلها من الإسلام، وكذلك الصور التي لا تخرجه من الملّة وقد سبق بحث هذه الصور وتفنيدها.. والذي يدلّ على أنّ هذا السبب موجبٌ لعزل الإمام بجميع صوره المكفّرة والمفسّقة هو ورودها مطلقة في الأحاديث النبويّة الصحيحة الآتية:
1 –
عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبدٌ حبشيّ كأنّ رأسه زبيبة، ما أقام فيكم كتاب الله» [البخاري].
2 –
عن أم الحصين الأحمسيّة رضي الله تعالى عنها قالت: حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجّة الوداع.. إلى أن قالت: ثمّ سمعته يقول: «إن أُمِّر عليكم عبد مجدع – حسبتها قالت أسود – يقودكم بكتاب الله؛ فاسمعوا له وأطيعوا»، وفي رواية الترمذي والنسائي سمعته يقول: «يا أيّها الناس اتّقوا الله، وإنْ أُمِّر عليكم عبدٌ حبشيّ مجدع، إسمعوا له وأطيعوا، ما أقام فيكم كتاب الله» [مسلم والترمذيّ].
فهذه الأحاديث واضحة الدلالة على أنّه يشترط للسمع والطاعة أن يقود الإمام رعيّته بكتاب الله، أمّا إذا لم يحكم فيهم بشرع الله فهذا لا سمع له ولا طاعة وقد وجب عزله، وهذا في صورة الحكم بغير ما أنزل الله المفسّقة، أمّا المكفّرة فهي توجب عزله ولو بالمقاتلة كما سبق في السبب الأوّل (ذكر السبب الأوّل قبل هذا وهو أن يطرأ عليه الكفر)، والله أعلم.
سُئل شيخ الإسلام ابن تيميّة: عن رجل تولّى حكومة على جماعة من رواة البندق، ويقول هذا شرع البندق، وهو ناظر على مدرسة وفقهاء، فهل إذا تحدّث في هذا الحكم والشرع الذي ذكره تسقط عدالته؟ فأجاب:
«
الحمد لله، ليس لأحد أن يحكم بين أحد من خلق الله لا بين المسلمين، ولا الكفار، ولا الفتيان، ولا رماة البندق، ولا الجيش، ولا الفقراء، ولا غير ذلك.. إلاّ بحكم الله ورسوله ومن اتّبع غير ذلك تناوله قوله تعالى: {أفحكم الجاهليّة يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقومٍ يوقنون} وقوله تعالى: {فلا وربّك لا يؤمنون حتّى يحكّموك فيما شجر بينهم ثمّ لا يجدوا في أنفسهم حرجاً ممّا قضيت ويسلّموا تسليماً}.
فيجب على المسلمين أن يحكّموا الله ورسوله في كلّ ما شجر بينهم.. ومن حكم بحكم البندق أو غيره ممّا يخالف شرع الله ورسوله وحكم الله ورسوله – وهو يعلم ذلك – فهو من جنس التتار الذين يقدّمون حكم الياسق على حكم الله ورسوله، ومن تعمّد ذلك فقد قدح في عدالته ودينه ووجب أن يُمنع من النظر في الوقف.. (والله أعلم).» [مجموع الفتاوى، 35/407].
يقول الدكتور صلاح دبّوس – في باب أحكام عزل الخليفة – : وكذلك استبعاد وليّ الأمر أو الخليفة الإسلام من توطين الحياة العامّة والخاصّة للجماعة، وكلّ صورة تشابهها ويمكن أن ينتهي منها المسلم العادل للحكم بكفر الخليفة، لأنّ الرسول أمر المسلمين بطاعة ولاة أمرهم ما لم يروا منهم كفراً بواحاً، لقوله صلى الله عليه وسلم – في حديث عبادة بن الصامت – : «إلاّ أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان».
ولا تُثار هنا فكرة الفتنة، إذ لا فتنة أكبر من ظهور كفر الخليفة أو وليّ الأمر، أو استبعاد الإسلام من حياة الجماعة.
وتحت عنوان: «نحو نظرية محكمة للخروج إزاء نظام شرعي».. يقول الأستاذ علي جريشة: «أمّا إذا بلغ الأمر حدّ الكفر البواح؛ فلا محلّ للصبر ولا مناص من الخروج ويتحقّق الكفر البواح في رأينا في نظام إذا تحقّق فيه أحد أمرين:
أوّلاً: أن يعدل عن شرع الله فيمتنع عن إقامته، ويجعل من دونه آلهة أخرى يطيعها من دون الله بتنفيذ نظامها وشرعها.
ثانياً: أن يعدل بشرع الله شرعاً آخراً: فيجعل له نفس مرتبته ونفس قوّته فلا يجعل الشرع ابتداءً لله وحده بل يجعل معه آلهة آخرى يطيعها مع الله بإقامة شريعتها» [كتاب «الخليفة: توليته وعزله» ص373].
والركن الثاني لشبهة القوم: قولهم: «لا يجوز الخروج على الحاكم الفاسق»!!
وقد غلطوا إذ خلطوا بين نصوص الأمّة في الحاكم الفاسق فسقاً لازماً غير متعدّي إلى شريعة الله بالإبطال أو التبديل (من أمثال بعض حكّام بني أميّة ونحوهم ممّن تلبّسوا بفجور أو ظلم مع قيامه في الأمة بشريعة الله)، وبين الحكم على من نحّى شريعة الله بالكلّية وأحلّ محلّها تشريعات البشر.
وجوابهم يأتيك لاحقاً إن شاء الله تعالى، مع الردّ على الرافضة للجهاد، والخوارج المشوّهة لصورته، ثمّ بيان منهج الحقّ في ذلك.. 
والله المستعان وعليه التكلان، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم.

عن مجلة نداء الإسلام

التعليقات

موضوعات ذات صلة