أشرنا في المقال السابق إلى طرف من تعامل كل من المنفلوطي والعقاد مع قضية مرور الزمن وتعاقب السنين ،وكيف أن المنفلوطي كانت تغلب عليه النزعة الدينية في الاتعاظ بمرور السنين فيتذكر لقاء الله عز وجل والوقوف بين يديه ، بينما كانت النظرة العقلانية الفلسفية تغلب على الأستاذ العقاد فلا يهتم كثيراً بالموت وما بعده ، وقد اجتهدنا في تلمس أسباب ذلك التباين بين الرجلين ، فعرجنا على شيء يتعلق بالخلفية الثقافية لكل منهما ،وكذا قضية الاختلاف السلوكي بينهما ، ثم قضية الفهم العام للإسلام ، ونمضي اليوم في ذكر بقية ما نظنه من أسباب لهذا التباين فأقول وبالله التوفيق :
4- السمات الشخصية : كان المنفلوطي كما يظهر من كتاباته متواضع النفس غير ميال للخصومة والجدال ، وقد قال عنه الأستاذ الزيات : ( كان صحيح الفهم في بطء ،سليم الفكرة في جهد ،دقيق الحس في سكون ،هيوب اللسان في تحفظ ، وهذه الخلال تظهر صاحبها للناس في مظهر العيي الجاهل ،فهو لذلك كان يتقي المجالس ويتجنب الجدل ويكره الخطابة ، ومرجع ذلك فيه إلى احتشام التربية التقليدية في الأسرة ، ونظام التعليم الصامت في الأزهر وفرط الشعور المرهف بكرامة النفس…….).[ مجلة الرسالة عدد 210 في 12/ 7/ 1937م ]
بينما كان العقاد معتداً بنفسه إلى درجة قد تصل إلى الكبر والغرور ، ففي كتاب ( في صالون العقاد ) يذكر أنيس منصور أنه لما قيل للعقاد يوماً : إن الجامعة تفكر في إعطائك الدكتوراة الفخرية غضب العقاد قائلاً: ( ومن الذي يمتحن العقاد؟ ) ،ولم يكن يعرف كما يقول أنيس : ( أن الدكتوراة الفخرية لقب ،وليست رسالة يقدمها ويناقشونها ،وبعدها يحصل على اللقب). [ أنيس منصور ، في صالون العقاد ، ص: 121] .
وفي كتاب : ( بقايا ذكريات ) يذكر الشيخ أحمد حسن الباقوري أنه اقترح على الرئيس عبد الناصر في سني ثورة يوليو الأولى أن يرتب له في بيته –أي بيت الباقوري – لقاءً مع مجموعة من ذوي الألسنة والأقلام ، فيتحدث إليهم عبد الناصر بما يجعلهم يطمئنون إلى الثورة ويدافعون عنها ، وكان العقاد من أول من فكر الباقوري في دعوتهم إلى ذلك اللقاء ، وقد ذكر الباقوري أن العقاد وافق على حضور ذلك اللقاء ،ولكنه اشترط أن يكون حضوره بعد أن يتكامل المدعوون وقال له : ( إنَّ ما حملني على هذا الشرط علمي بأن صاحبك – أي عبد الناصر- شديدُ الكبرياء ، وقد يصافحني بغير اكتراث ،مَضْياً على السنة التي آثرها لنفسه ،فإذا دخلت فتراخى في القيام لمصافحتي ،فلا تؤاخذني إذا ملكني الغضب ،فلعنت في وجهه اليوم الذي جمعني به ،ثم انصرفت غير آسف على شيء ) . وكان هذا الشرط كافياً في أن يتراجع الباقوري عن الفكرة من أساسها .[ أحمد حسن الباقوري بقايا ذكريات ، ص: 214 ، وما بعدها ].
كما أن حياة العقاد حافلة بالمعارك الأدبية والخصومات الفكرية ، ولا شك أن من كان هذا شأنه أبعد عن التفكير في الموت وتذكر الآخرة ممن طبعه الخمول والتواضع ولين الجانب .
5-فلسفة العقاد وعفوية المنفلوطي وسلاسة أسلوبه : كان العقاد ميالاً إلى فلسفة الأمور والإكثار من النظر العقلي عند معالجته لأي موضوع ، بينما كان المنفلوطي يميل إلى السهولة في الفكرة والبلاغة في الكلمة من غير تنطع أو تقعر ، وكان كما وصفه الزيات ( أديباً موهوباً ، حظ الطبع في أدبه أكثر من حظ الصنعة ).[ مجلة الرسالة ، عدد: 214 بتاريخ 9/ 8/ 1937 ].
وعلى سبيل المثال فقد تناول العقاد والمنفلوطي موضوع رجعة أبي العلاء المعري ،حيث تخيل كل منهما أن أبا العلاء قد عاد إلى الدنيا مرة أخرى ، فكتب العقاد في ذلك كتاباً بعنوان : (رجعة أبي العلاء )، وكتب المنفلوطي عن ذلك فصلاً مطولاً في النظرات بعنوان : (البعث ) .
فأما العقاد فقد طوَّف بالمعري في جنبات الكرة الأرضية من بلاد الجرمان إلى الهند إلى الصين إلى بلاد الإنجليز إلى بلاد العم سام إلى غيرها ،فكان جُلُّ اهتمامه التركيز على أفكار الأمم وفلسفاتها ،وما تتبناه من النظم والمذاهب،فجعل أبا العلاء يلتقي بفئات من المستشرقين ( سمعوا برهين المحبسين فزاروه واستازروه وسألوه وأجابوه ) [ رجعة أبي العلاء ، ص: 45 ]،كما جعله يلتقي ببعض الصحفيين في بلاد الألمان فيحاورونه ويحاول بعضهم أن يوجد بينه وبين الجنس الآري صلة ونسباً [ المصدر السابق ، ص: 47] ، وفي بلاد الإنجليز يجعله يقابل السياسي أنطوني إيدن ويحاوره في أمور السياسة وتدبير الشعوب.[ المصدر السابق ، ص: 77 ].
وفي المقابل نجد المنفلوطي يروي بأسلوبه العاطفي كيف خرج بالمعري حتى وقف به على فلاح فقير يزرع أرض أحد الإقطاعيين الكبار ، ويصف لنا من فقر ذلك الفلاح وسوء حاله وظلم صاحب الأرض له ما لا مزيد عليه ،ومع ذلك نجد هذا الفلاح المسكين راضياً بحالته تلك أشد الرضى ،قانعاً بها أشد القناعة ، بل إنه يذكر لهما أنه قد تمر به وبعياله الليالي ذوات العدد لا يكادون يجدون فيها من الخبز المخشوشب ما يملأ بطونهم ، ومع ذلك لا يجد في نفسه من الحزن والألم مثل ما يجد إذا مرت عليه بضعة أيام لم يتذكره فيها سيده بالزجر والنهر والتأديب ، ويقول : ( وقد أعد لي-حفظه الله وأمتعني بدوام رعايته وعنايته-عِصياً غلاظاً يتعهدني بها من حين إلى حين ،كلما نسيت أمراً من أوامره أو قصرت في رعاية غرض من أغراضه ، فأغتبط بذلك الاغتباط كله ؛ لأني أعلم أني منه على ذكر …. ).[ المنفلوطي ، النظرات ( 3/ 251 )]
وقد كان العقاد من المؤمنين بفلسفة القوة والمبشرين بفكرة البطولة ،لذا لم يكن يعجبه أسلوب المنفلوطي المعتمد على إثارة العواطف واستدرار مشاعر الحزن والأسى ،وكان يزعجه أيام كان يعمل مدرساً أن يرى كراسات الإنشاء عند التلاميذ تفيض بميزاب الدمع تأثراً بأدب المنفلوطي ،وقد بلغت السخرية عنده أن يطلب من طباخ المدرسة أن يجمع مخزون البصل عنده ثم يقدمه للتلاميذ في حصة الإنشاء ،ليستخدموه في استدرار الدموع بدلاً من أدب المنفلوطي ؛فالبصل بحسب تعبيره أولى بمهمة تصريف الدمع من كراسة الإنشاء .[ جمال بدوي ، حكايات مصرية ، ص: 53].
ولا شك أن صاحب التفكير العقلي الفلسفي أقل انشغالاً بقضايا الموت ومحاسبة النفس من صاحب النظرة العاطفية السهلة .
وبعد : فهذا بعض ما استطعنا حصره من أنواع الاختلاف بين هذين الكاتبين مما له علاقة بالقضية التي جعلناها محوراً لحديثنا : قضية الاتعاظ بمرور السنين والاهتمام بالموت وما بعده ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .
عبد الآخر حماد
عضو رابطة علماء المسلمين
التعليقات