من الأمور المقررة في ديننا الحنيف أهمية اتعاظ المسلم بمرور الزمان وانصرام الشهور والأعوام ، وأن يعلم العبد أنه إنما هو أيام ، كلما ذهب يومه ،ذهب بعضــه ، وأن كل يوم يمضي من عمره يجب أن يكون حافزاً له لتذكر أن له نهاية لا بد منها ،وأن له موقفاً بين يدي الله عليه أن يعد العدة له ، كما قال تعالى : ( أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير ).[ فاطر: 37]
وقد عنً لي أن أوازن بخصوص هذه القضية بين موقِفَيْ أديبين معاصرين هما : عباس محمود العقاد ،ومصطفى لطفي المنفلوطي ، رحمهما الله تعالى ، لنرى كيف كان كل منهما ينظر إلى فكرة مرور الزمن وانقضاء الأعمار .
وإن مما وقفت عليه في تراث المنفلوطي رحمه الله أنه لما بلغ الأربعين كتب مقالاً بعنوان ( الأربعون ) وفيه يقول: ( الآن وصلت إلى قمة هرم الحياة، وبدأت أنحدر في جانبه الآخر ،ولا أعلم هل أستطيع أن أهبط بهدوء وسكون حتى أصل إلى السفح بسلام ،أو أعثر في طريقي عثرة تهوي بي إلى المصرع الأخير هوياً … ) إلى أن قال رحمه الله : ( أما اليوم -وقد بدأت أنحدر من قمة الحياة إلى جانبها الآخر- فقد احتجب عني كل شيء ،ولم يبق بين يدي مما أفكر فيه إلا أن أعد عدتي لتلك الساعة الرهيبة التي أنحدر فيها إلى قبري ). ويقول : ( وكان كل ما أفكر فيه أن أن أشيد لي بيتاً جميلاً أعيش فيه عيش السعداء الآمنين في مدينة الأحياء ، فأصبحت وكل ما أفكر فيه الآن أن أبني لي قبراً بسيطاً يضم رفاتي في مدينة الأموات ) .[ النظرات ص: 3/255 وما بعدها]
وفي مقابل هذه النظرة الدالة على عمق العقيدة الدينية وما تحويه من الإيمان بالموت وما بعده ، نجد جُلَّ اهتمام العقاد إذا عالج مثل هذه القضية أن ينظر نظراتٍ فلسفية حول ما يراه الناس بخصوص مضي السنين والأزمان ، فنجده عند بلوغ الأربعين يكتب مقالاً بعنوان : ( بعد الأربعين ) يشير فيه إلى ما هو شائع عند الناس من أن التفكير عند الشباب يبدأ خيالياً ثم يصير إلى الواقع شيئاً فشيئاً ، ويذكر أنه بالنسبة له هو كان الأمر على خلاف هذه القاعدة ، وأنه وهو في سن الأربعين صار أقل إيماناً بما يسمونه التفكير الواقعي مما كان عليه في مستهل شبابه ، ثم يذكر أنه يرى بالنسبة للمسائل النفسية أن الزمن لا يغير عناصر النفس الأصيلة ولا ينقص منها ويقول : ( فكل ما كان في نفسي من أخلاق وأطوار وشهوات أحسستها في إبان الشباب الأول لا تزال قائمة هناك أراها في العشرين ،وفي الخامسة والعشرين ،وفي الثلاثين وفي الأربعين ، كل ما اختلف أنها كانت في حالة الفوران ،ثم هي جانحة قليلاً إلى الاستقرار ….).[ عباس محمود العقاد : أنا ص: 189 وما بعدها]
وحين بلغ الخمسين من عمره كتب مقالاً عنوانه (وحي الخمسين) بدأه بعبارة لبعض المفكرين الغربيين يقول فيها : ( إن الخمسين شيخوخة الشباب ،ولكنها شباب الشيخوخة ) ، ويشرح ذلك بما يبين أن الأمور نسبية ،وأن ذا الخمسين شاب بين الذين نيفوا على السبعين أو الثمانين . [ المرجع السابق ص: 194]
وهكذا كتب مقالتين بعنوان : (وحي الستين )،و( وحي السبعين ) ،يمكن الرجوع إليهما في الكتاب المشار إليه آنفاً ، وهما حافلتان بمثل ما رأيناه فيما سبق من النظرات العقلية الفلسفية ،دون أن يجد القارئ فيها شيئاً من الاتعاظ بمرور السنين أو تذكر الموت وما بعده .
وفي محاولة منا لرصد بعض أسباب هذا التباين بين نظرتي العقاد والمنفلوطي لهذه القضية يمكن رصد مجموعة من الاختلافات بينهما ربما كان له أثرها في هذا التباين :
1-الفروق الثقافية : أول ما يبدو لنا من الفروق هو اختلاف ثقافتي الرجلين ، فالمنفلوطي أزهري النشأة والتكوين ، وتكاد ثقافته تنحصر في علوم الشريعة والأدب العربي وما يتعلق بهما ، حتى إن الروايات التي طُبعت مترجمة منسوبة إليه كرواية ماجدولين ،وفي سبيل التاج وغيرهما إنما كان بعض أصدقائه ممن يجيدون الفرنسية يترجمها له ، ثم يتولى هو إعادة كتابتها وصياغتها بأسلوب أدبي جميل ، وأما العقاد فقد كان موسوعي الثقافة ،وكان يجيد اللغة الإنجليزية ويقرأ بها ،ولذا كان محصوله من الثقافات الغربية وغيرها محصولاً وفيراً ، ومن هنا رجحت لديه النظرة العقلية الفلسفية على حساب النظرة الدينية الأخروية .
2-الاختلاف السلوكي : الفرق الثاني الذي نراه بين الرجلين -والذي ربما كان جانبٌ منه راجعاً إلى الفرق الأول – هو اختلافهما من حيث الالتزام بالسلوك الإسلامي في العبادات وغيرها ، فالذي يظهر لنا من حال المنفلوطي أنه كان من المحافظين على السلوك الإسلامي المتزن ، وهو -كما يقول أحمد حسن الزيات – : ( رقيق القلب عف الضمير ، سليم الصدر ، صحيح العقيدة ، نفاح اليد ، موزع العقل والفضل والهوى بين أسرته ووطنيته وإنسانيته ) .[مجلة الرسالة عدد 210 في 12/ 7/ 1937م ]
أما العقاد فرغم ما عرف في كثير من كتاباته من دفاعٍ عن الإسلام ورموزه ،إلا أنه فيما يظهر من حاله وما قرأناه عنه لم يكن يهتم كثيراً بالتزام السلوك الإسلامي في حياته ، فعلى سبيل المثال كان صالونه الأدبي يعقد صباح يوم الجمعة وينتهي عند الثانية ظهراً دون أن يؤدي صلاة الجمعة ،كما ذكر أنيس منصور في كتابه في صالون العقاد حيث قال : ( أما كيف تنتهي الندوة عادة فكانت بأن ينهض الأكبر سناً ،وبأن ينظر بعضنا إلى بعض بما يؤكد أن الساعة قد اقتربت دون أن ندري من الثانية وأن هذا موعد تناول غداء الأستاذ وبعد ذلك نومه ثم المشي في شوارع مصر الجديدة ثم العودة إلى البيت ).[ أنيس منصور ، في صالون العقاد كانت لنا أيام ، ص: 9]
3-قضية الفهم الإسلامي : كان المنفلوطي في الجملة ملماً بالأصول الإسلامية ،صحيح الاعتقاد ،فلا تجد في كتاباته مخالفات ظاهرة للنصوص الشرعية المحكمة ،أما العقاد فبرغم ما أشرنا إليه من كتابته في الإسلاميات إلا أن الدراسة المتأنية لكثير مما كتب تدل على أنه كانت تغيب عنه كثير من بدهيات الإسلام التي ربما لا تغيب عن عوام المسلمين ، فعلى سبيل المثال كان العقاد يقول بما يسميه ترقي الإنسان في العقائد ،وأن البشرية قد مرت في اعتقادها بأطوار ثلاثة بدأت بطور تعدد الآلهة ،ثم طور التمييز والترجيح ،ثم انتهت إلى طور الوحدانية. [ كذا في كتابه : الله ، ص: 19] . ويقول : (ترقى الإنسان في العقائد كما ترقى في العلوم والصناعات ، فكانت عقائده الأولى مساوية لحياته الأولى ، وكذلك كانت علومه وصناعاته ،فليست أوائل العلم والصناعة بأرقى من أوائل الأديان والعبادات ).[ المرجع السابق ، ص: 10]
والحق الذي لا يجوز أن يشك فيه مسلم أن البشرية بدأت بالتوحيد وعبادة الله وحده منذ أهبط آدم عليه السلام إلى الأرض ، ثم طرأ الشرك على الناس بعد ذلك ، وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما : ( كان بين نوح وآدم عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ).[ أخرجه الحاكم في مستدركه (2/ 546) ، وقال صحيح الإسناد]
وفي كتاب ( في صالون العقاد ) يذكر أنيس منصور أن العقاد نبههم ذات مرة إلى أن مقولة : إن الإنسان ترقي في العقائد كما ترقى في العلوم ،هي أخطر ما جاء في كتابه: ( الله ) وذلك ( لأنه يريد أن يقول إن المفهوم الديني يتغير من عصر إلى عصر ،وهو صحيحٌ في كل عصر ، فالذين آمنوا بأن الله صنم لم يكونوا على خطأ ، فهذا أقصى ما يستطيع العقل الإنساني أن يدركه في ذلك الوقت، والذين يرون أن الله اثنان أو ثلاثة فهذا أيضاً ما يتفق مع قدرة العقل وطبيعة العصر والمرحلة التاريخية التي يعيشها هؤلاء المعتقدون ،والذين أنكروا وجود الله لا بد أن لهم أسباباً منطقية ).[ أنيس منصور: في صالون العقاد ، ص: 46]
بل ينقل أنيس منصور عن العقاد ما يشكك -إن صح -في اعتقاده الديني ، حيث يقول : ( وكان الأستاذ يزلزل وجودنا عندما يغضب من الدنيا فيقول : ما هذا الكون؟ ما هذه الدنيا ؟ أعطني المادة الأولية لهذا الكون ، وأنا أصنع لك واحداً أفضل منه ، وكنا نتصور أن السقف سوف يقع فوق رؤوسنا ،أو ينهدم الكون لمثل هذه العبارة التي التقى فيها الغرور والغطرسة وعقدة العجز وضلال الغضب….).[ المرجع السابق : ص: 21]
يتبع بإذن الله
* عضو رابطة علماء المسلمين
التعليقات