الصدمة والذهول في وفاة الدكتور عصام دربالة
الأستاذ: جمال سلطان
كان الخبر مفزعا للغاية لي عندما أبلغني به زميل صحفي في الصباح الباكر ، وفاة الدكتور عصام دربالة ، رئيس مجلس شورى الجماعة الإسلامية ، في سجن العقرب بعد تدهور صحته لمنع الدواء عنه ورفض الداخلية نقله إلى المستشفى.
كنت أعرف الدكتور عصام ، وأعرف مكانته ، وأعرف رمزيته في الحركة الإسلامية ، وبين أبناء الجماعة الإسلامية بالذات ، كان عصام رمزا للاعتدال والحكمة والدعوة إلى السلمية والاعتصام بالنضال السلمي مهما كانت الظروف ، وهو أحد مؤلفي كتب مراجعات الجماعة الإسلامية ، التي كانت السبب الأهم والجوهري في إنهاء مسلسل العنف الدموي في التسعينات الماضية ، وهو المسلسل الذي راح ضحيته مئات القتلى من ضباط الشرطة وجنودها بما فيهم قيادات أمنية رفيعة وكذلك المئات من شباب الجماعة الإسلامية والعشرات من السياح ، وهي الأزمة التي زلزلت حكم مبارك عدة سنوات ، حتى وضع دربالة وناجح إبراهيم وآخرون عدة كتب تدعو الشباب إلى إنهاء العنف والاعتصام بالسلمية والابتعاد عن فتاوى التفكير ، وكانت وزارة الداخلية تشرف بنفسها على طباعة هذه الكتب وتوزعها على المعتقلين والمسجونين من الشباب الإسلامي ، إدراكا من الجهاز الأمني لأهمية أفكارها وتأثيرها الحاسم على الشباب ومدى المصداقية التي يتمتع بها درباله ومن معه ، كما كانت الداخلية تعقد الندوات داخل السجون التي يشارك فيها عصام دربالة من أجل مناصحة الشباب وإقناعهم بالابتعاد عن فتاوى التفكير وحمل السلاح ، وتحملهم الشرطة من سجن إلى آخر ليناصحوا الشباب .
وعندما قامت ثورة يناير ، سارع دربالة وصفوت عبد الغني وآخرون بتأسيس حزب سياسي “حزب البناء والتنمية” ، لكي يكون مفتتح حقبة جديدة من العمل السياسي السلمي الذي يحقق “تطبيع” العلاقة بين الإسلاميين والحياة السياسية ، ويطوي أي أفكار للعنف أو الخروج على الدولة ، وساهم الحزب بقوة في مختلف الفعاليات ، من الانتخابات إلى اختيار لجنة تأسيس الدستور إلى غير ذلك ، وكان مضرب الأمثال في تنازله للآخرين عن مقاعده من أجل الصالح العام ، فلم يكونوا حريصين على منصب أو مكانة ، كانوا فرحين بالروح الجديدة في مصر ، ويتطلعون لمستقبل أكثر رشدا وعدلا وكرامة للمواطن ، وحتى عندما وقع التحول الكبير بعد 30 يونيه 2013 ، أعلن دربالة بعدها احترامه لمن يعارضون مرسي والاحتجاجات التي خرجت ضده في ذلك اليوم ، لكنه رفض القبول بما تم إعلانه يوم 3 يوليو بإسقاط شرعية مرسي وتجميد الدستور وحل مجلس الشورى ، وتفاعل مع ما أطلق عليه “التحالف الوطني لدعم الشرعية” ، غير أنه حرص على أن يسافر في مدن الصعيد وقراه ومختلف الأماكن يحذر الشباب من أي دعوة للانجرار للعنف ، وكان شعاره الذي حمله في كل مكان يذهب إليه “لا للتكفير .. لا للتفجير” ، ولذلك تغاضت عن نشاطه وتحركاته الأجهزة الأمنية مدة تقترب من العامين ، حتى بدأوا يساومونه على تأييد 3 يوليو وخلع مرسي ، لكنه رفض ، فكان قرار اعتقاله قبل حوالي ثلاثة أشهر في سجن العقرب ، أحد أسوأ السجون المصرية على الإطلاق ، ثم كانت المعاملة بالغة السوء وحرمانه من الأدوية الضرورية ، حيث كان مصابا بالسكر والضغط لسنوات طويلة قضاها في السجون أيام مبارك ، فكان طبيعيا أن تتدهور حالته الصحية ليسمع العالم نبأ وفاته صبح اليوم . بيان الداخلية قال أنهم فوجئوا بتدهور حالته وإصابته بنزيف من الأنف وهبوط الدورة الدموية ، وهو كلام لا يليق ، لأن عصام تتدهور صحته منذ أسابيع ، واستغاثات متتالية للداخلية لإدخال الدواء أو نقله للمستشفى ، ومن البديهي أن مريضا بداء مثل السكري والضغط تمنع عنه الدواء تماما أنك ترسله إلى الموت ببطئ.
وكان المؤسف أكثر ، أن دربالة عرض على النيابة ليلة موته للنظر في تجديد حبسه ، وقد قررت مد حبسه دون عرضه على أي طبيب أو تقديم ما ينقذ حياته أو الأمر بدخول العلاج الضروري له ، رغم أنه كان في حالة انهيار تام بادية للعيان ، رجل على شفا الموت ، وتلك سلوكيات لا تصدق في قسوتها . عصام دربالة ليس مجرد سجين سياسي ، ولكنه رمز لتوجه واختيار فكري وسياسي ، وبالتالي فقتله بالبطيء بهذه الصورة المستهترة ، أخشى أن تكون رسالة ، كما أخشى أن يقرأ كل طرف هذه الرسالة بطريقته الخاصة.
وإذا كانت أجنحة في الدولة ضاقت ذرعا بطول فترات الاحتجاج في الشوارع على النظام الجديد ، وإذا كان الإحباط يجعل البعض يفكر بطريقة خلط الأمور التي تنتهي إلى جر بعض الأطراف للعنف ، فإنك لا تدري كيف تكون توابع هذه الرسالة لدى شباب من جيل جديد ، يعيش الصدمة والإحباط أيضا ، ويرى أفقا مسدودا ، كما يرى من كانوا يدعونه للسلمية والبعد عن التفجير والتكفير يموتون بهذه الطريقة في السجون ، وهذا الشباب الجديد ، الذي لا تعرفه أجهزة الأمن أساسا ، ولا تعرف خريطته الفكرية والشعبية والتنظيمية ، ينمو في جو من الفوضى وغياب القدوة والانقسام السياسي والشعبي المروع والمترع بالأحقاد والكراهية والرغبة في الثأر والتصفية للمخالف ، وتيارات العنف عادة تكون أشبه بالبكتريا التي تزداد توحشا وخطورة بسوء استخدام المضادات المناسبة لها ، وقد كان العالم فزعا من تنظيم القاعدة ويراه منتهى الشر ، فإذا به الآن ـ بعد ظهور داعش ـ يترحم على تنظيم القاعدة وأيامه وقياداته ، ويعتبر بعض منظماته النشطة الآن في بعض البلدان من التيارات المعتدلة نسبيا !
رحم الله الدكتور عصام دربالة ، صاحب الخلق الرفيع والأدب الجم ، صوت الاعتدال والرشد في أشد أوقات المحنة سوادا ، لم تخسر بفقدانه الجماعة الإسلامية وحدها ، بل أجزم أن مصر الوطن والأمل خسرت أيضا برحيله خسارة كبيرة ، أسأل الله أن يتقبله في الصالحين .