إن من عباد الله أناساً اختارهم ليكونوا مصابيح هدى ومشاعل نور، تتوق الأرض لتراب أقدامهم، وتحن السماء إلى طلعتهم، فهم أناس سرائرهم كعلانيتهم بل أحلى.. وأفعالهم كأقوالهم بل أجلى.. ترتفع المناصب بهم.. وتبكي مر البكاء لفراقهم.. فهم يزينون الكراسي.. وهم أزهد الناس فيها.. يصدعون بالحق ولو كان مراً، لا يتملقون أحداً مهما كان على حساب دينهم وضمائرهم.
– ومن هؤلاء العظماء فضيلة الشيخ إسماعيل صادق العدوي – رحمه الله رحمة واسعة – فقد كان الشيخ قوياً في الحق، زاهداً في الدنيا.. ضارباً المثل الصادق للعلماء الربانيين.فمازال الأزهر منبعا للعلماء الربانيين الذين يصدعون بقول الحق مهما كلفهم ذلك من تضحيات غالية،وبرغم حزننا على تساقط بعض العلماء والدعاة ،الذين كنا نحبهم ونتعلم منهم،إلا أن النجوم المضيئة في سماء الأزهر تبدد كل ظلام،وتطهر كل رجس،ومازال مشايخنا النابهون قديما وحديثا يذودون عن حياض الإسلام بكل جسارة،فأمثال الشيخ أحمد شاكر ووالده وأخيه،والشيخ جادالحق،والشيخ كشك،والشيخ عمر عبدالرحمن،والشيخ الغزالي والراوي وغيرهم كثرة كاثرة.وفي وسط تلك النجوم يأتي مولانا الشيخ إسماعيل صادق العدوي،الذي شرفت بسماعه والتعلم منه في الجامع الأزهر في فترة التسعينيات أثناء دراستي في دار العلوم،ولكم تأثرت به خطابة وبلاغة وقوة وجرأة في الحق،بأسلوب ساخر مع خفة ظل رائعة.رأيته قوي البنية،قصير القامة،صاحب صوت أجش قوي يضغط على الحروف كأنها تنفجر انفجارا،فتوقظ الضمائر،وتحي القلوب،وكنت أقلده فترة من عمري أثناء خطابتي للجمعة.وإن أنسى ،فلا أنسى يوم الحرب الصليبية على البوسنة ،وقد حضرت الألوف الحاشدة تستمع خطبة الشيخ،فإذا به نار محرقة،وقوة غاضبة أججت الحماس،وفجرت المآقي بالدموع،وشفت الصدور،وإذا بالجموع تهتف مكبرة داعية لفتح باب الجهاد،وكان يوما مشهودا من أيام الأزهر.ومن مواقفه المشهودة موقفه من شهادات الاستثمار ورده على المفتي وقتها د سيد طنطاوي، وقولته المأثورة عن المفتي: (قد لوث العمامة البيضاء بالمال الحرام)، وقد لقي الشيخ العنت لأجل ذلك فقد نقل من الجامع الازهر إلى جامع مصطفي محمود بعد أن تولي الشيخ طنطاوي مشيخة الأزهر، فطفق ينتقم من معارضيه ومنهم د علي أحمد الخطيب فقد أزاحه عن رئاسة تحرير مجلة الأزهر.ومن مواقفه الرائعة عندما أقيم مهرجان المسرح التجريبي في أوائل التسعينيات،واستهزيء فيه بالكعبة المشرفة وصعدت راقصة ترقص فوق مجسم لها، فزأر أسدنا بمهاجمة المهرجان والقائمين عليه وطالب بمحاكمة القائمين عليه، وعلي رأسهم وزير الثقافة فاروق حسني،وقد أشاد بموقف شيخنا وغيرته الشيخ عبد الله الخطيب علي صفحات آفاق عربية وذكر أنه الوحيد من الأزهر الذي انتفض ضد المسرحية!وقد كان الشيخ يعقد جلسات العلم في داره خلف الجامع الأزهر بعد أن ينتهي من درس الإثنين والأربعاء، ولا ينسي طلابه إلى الآن مذاق القرفه بالحليب التي تقدم للحضور، وحرص الشيخ على مصافحة الحضور كلهم عند الانصراف.ومن مواقفه الطريفة أنه في إحدى حلقات التفسيركان يفسر قوله تعالى: (ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) الأعراف: 34 في درس التفسير الذي كان يلقيه كل يوم اثنين، وكان ذلك مساء يوم الاستفتاء على تجديد فترة ولاية الرئيس مبارك الثالثة، وأراد الرجل أن يتكلم في الموضوع ولو تعريضا، ولكن الآية التي يفسرها لا تمت من قريب أو بعيد بالسياسة، فاحتال الرجل بذكاء الأزهري المحنك، فقال: كنت أركب القطار مع فضيلة الشيخ البنا رحمه الله، وجاءت محطة وصولنا، فقال لي الشيخ البنا: يا شيخ إسماعيل، القطار والسفر كالحياة والموت والمناصب، إذا جاءت محطتك لا بد من نزولك، ثم أخذ الشيخ إسماعيل صادق العدوي يركز ويشدد ويعيد ويكرر، على هذا المعنى بهذه العبارة، قائلا باللغة العامية:يعني إذا جت محطتك انزل، كفايه علينا كده انزل، خلاص محطتك جت (جاءت) انزل، ولا عايز تركب محطتك ومحطة غيرك!!وقد ضج المسجد بالضحك وقد وصلهم المعنى الذي يريده الشيخ، إلا رجل ساذج مسكين، قال: الله يرحمه، فسأله الشيخ العدوي: هو مين؟ قال الرجل: الشيخ البنا، فقال الشيخ العدوي بغيظ: ويرحمك انت كمان!!وقبل وفاته بعدة أعوام انتقل إلى منزل جديد وصغير، وأوقف البيت الكبير معهدا أزهريا.وقد لبى نداء ربه يوم الأربعاء 23 رمضان سنة 1418 هـ الموافق 21 يناير 1998، وصُليَ عليه بالجامع الأزهر صلاة الجنازة عقب صلاة ظهر الخميس، وشيعت جنازته من الجامع الأزهر الشريف إلى مدفنه بمقبرة المجاورين محمولا على أعناق مريديه وتلاميذه وأحبابه، رافضين حمل النعش في السيارة المخصصة، ومشوا خلفه من الجامع الأزهر حتى مقبرته، كما كان دأبهم معه عندما يمشون خلفه من الجامع الأزهر إلى بيته لحضور مجالسه ودروسه العطرة، وقد خسرنا بفقده عالما عاملا آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر، يقول الحق ولا يخشى في الله لومة لائم.
التعليقات