حاولنا طويلًا أن نهرب من هذه الحقيقة، وتجنبنا في معظم الأحوال، التحديق في عين “الكابوس” الرهيب، الجاثم على صدورنا جميعًا، ومن ثم التعامل معه بواقعية وحذر واجب! لكن وثقنا أن تجارة الأحلام لا تجلب إلا الخراب، والتعلق بـ”يوتوبيا” أو “مدينة فاضلة” عبيطة، أمر لن يكون وراءه إلا الوقوع في قاع البئر دون أمل في العوم فوق سطح الحياة مرة أخرى! جملنا “واشنطن” طويلًا بعشرات الأصباغ والمساحيق، وهي _ دوليًا _ لص شديد الحقارة.
وزينا وجهها “الإجرامي” القبيح بماكياج تجميلي كثيرًا، زاعمين أنها دولة حريات ومؤسسات وأسس أخلاقية موروثة، كما فعلنا بحماقة لا نظير لها في أعقاب تدخلها المجرم في الخليج عام 1991، ثم تدخلها الأكثر إجرامًا في العراق عام 2003، وهي تسكر من دمائنا المراقة كأي عربيد يتطوح بنزق في أرض غير أرضه.
وظهر لدينا في العالم العربي “مجرمون” من العينة نفسها، يبررون لدولة البلطجة، إجرامها السافل، خصوصًا ضد العرب والمسلمين، ويقومون بـ”شرعنة” قتلها العشوائي واستباحتها السوداء لكل شيء، إنساننا ونفطنا وأحزابنا ومياهنا وعقاراتنا وأراضينا دون حساب، وظل “المبررون” هم هم لا يكفون عن التبرير والتغني بـ”الصديق العاقل”! كما حدث معي في ندوة من الندوات حينما رأيت أديبًا وجامعيًا معروفًا “متأمركًا، يؤكد أن أمريكا دولة “مثالية” لا هدف لها إلا تحضيرنا وتمديننا وغرس بذرة الحرية في أراضينا اليباب، لكننا صحراويون لا نريد أن نتشكل بطواعية، كعجينة طيعة منقادة في يدها “المباركة”، التي تحمل قفاز الحداثة والتجديد و”الدمقرطة” لأمثالنا من البدائيين! فقلت له _ ساخرًا _: “.. فعلًا فعلًا، هي كذلك بدليل تدمير 130 محطة كهرباء في الدفعة الأولى من صواريخ “كروز” التي أطلقتها _ بدم بارد _ فوق رؤوس العراقيين عام 2003 ؟!”.
نحن في اللحظة التي نتكلم فيها الآن، واقعون في قبضة “بلطجة دولية” غير مسبوقة في تاريخ العالم المعاصر، بلطجة نحت الأخلاق جانبًا، وطوحت بالدساتير وحريات الشعوب وحقوقها من النافذة، وتحالفت _ علنًا _ مع مجرمين، أفرادًا و جماعات، ولم تعد تبالي حتى بردود الأفعال أو قشرة الاحترام الدولي ولو في الواجهة! الجميع فهم لعبة البلطجة “الدولية” الجديدة، والتعامل مع حريات الشعوب _ خصوصًا الإسلامية _ باستعباط وتظاهر بالبله وعدم الإدراك، الجميع فهم وخطط ونفذ بإجرام إلا نحن! وقد لفت نظري أن الكاتب الكبير “محمود مراد”، قد ناقش فكرة “الشرعية الدولية” _ المصطلح الجذاب الذي افتكسته واشنطن _ ليتحول على يديها إلى باب خلفي للاغتيال الجماعي، وأداة لقتل الشعوب دون ضمير (راجع “محمود مراد”: “سفر الموت / وثائق الخارجية الأمريكية / من أفغانستان إلى العراق” ص 75 و ما بعدها) اقتل أطفالًا ودمر المدن، واستبح المرافق، واقصف حتى الأبرياء في الملاجئ، كما حدث في ملجأ العامرية العراقي، وكله بـ”الشرعية الدولية”!!.
في أي منطق أو شرع أو دستور، تختطف دولة “مسئولًا دوليًا” بدم بارد في طرفة عين، كأنما تلعب البلياردو؟! حدث ذلك مع “مينج هونج وي” رئيس “الإنتربول الدولي” _ أي والله رئيس الإنتربول الدولي! _ كان في زيارة للصين، فاختطفه المسئولون الصينيون، دون أن يبالوا بشيء، أو يتحسبوا لأي ثمن، الهراوة معك والعصا طوع يديك والسلاح جاهز لفقء عين أي معترض، فالنظرية المهيمنة _ إذن _ هي نظرية “.. إذا كان عاجب ..” أو “.. أعلى ما في خيلك اركبه..”، وهي نظرية أي بلطجي، يحوز سلاحًا في حزامه، ويشعر بفارق القوة _ أو بالأدق فائض القوة _ بينه وبين الآخرين!.
أستلقي على ظهري من الضحك _ و هو “ضحك البكا” كما يقول المتنبي! _ حين أجد “عربيًا” طيبًا، يناشد “واشنطن” إطلاق سراح “فلان”، أو تبني قضية “علان” الذي أوقفه المارقون عند المعابر، وكأن “واشنطن” هي “نبي الحريات” وهي _ في واقع الأمر “إبليس الحريات” الأعظم، ولولا تدخلها القذر في الشأن الداخلي العربي، لنعمنا _ منذ عقود _ بالحريات المدنية المزدهرة، كأي شعب محترم! في كل مرة كان العرب بسبيلهم لاقتطاف ثمرة الحريات والكرامة، كانت “واشنطن” تتدخل لتسميم الثمرة، وإدخالنا، مجددًا، إلى حضانتها المخلوطة بالإذلال والمهانة وتصدير الرعب!.
واشنطن مجرم عتيد في الإجرام، وموسكو قبضاي يمارس البلطجة في سوريا، وإيران وإسرائيل تحشدان ترسانة الصواريخ الباليستية، لتركيع دول المنطقة، كأي “متشرد” يحمل “سنجة” أو “مطواة”، وما أجمل كلمة “الحريات” إلا إذا جاءت مقترنة بـ”العرب” و”العروبة” أو بـ”المسلمين” هنا تصبح “فوضى” أو ثمرة “معطوبة” أو “فاكهة مسمومة”!! وهنا رسالتي بوضوح إلى النخب العربية في كل مكان، لا تنتظروا أحدًا، ولا تعولوا على موسكو أو واشنطن أو أية عاصمة أوروبية، فهؤلاء هم مفاتيح أزمتنا، لا حلولها؟! وهذه الحواضر التي نناشدها مساعدتنا _ باسم الإنسانية والمواثيق والعقود _ لا تضيع وقتها منذ عقود لتمديننا أو تمدين غيرنا _ بل تكدس السلاح بلا توقف، فأمريكا _ كما تقول أدق التقارير _ اشترت اثنتي عشرة ناقلة من نوع k . c / 64 ، وبنت تسع سفن جديدة بمواصفات حربية خاصة، وحدثت بصورة جذرية طائرات الهليكوبتر، واستثمرت نحوًا من 12 مليار دولار في تكنولوجيا الحرب، وما سمي بـ”أمن الفضاء الإلكتروني”، وأعدت نظامًا جديدًا للدفاع الجوي والصاروخي المدمج IAMD، ورصدت، وفقًا لمكتب الميزانية في الكونجرس، نحوًا من 350 مليار دولار لتطوير ترسانتها والمحافظة عليها في عقد كامل _ من عام 2015 حتى عام 2025 _ بمعدل 35 مليار دولار سنويًا!.
وروسيا، بعد فترة انكماش دولي، عادت بضراوة مسلحة حتى الأسنان، فأضافت لترسانتها 769 طائرة مقاتلة و462 مروحية هجومية، و55 غواصة و74 فرقاطة و7500 رأس نووية لتنفيذ مبادرة “الضربة العالمية الفورية” (PGS)، فلم تعد مستعدة لتكرار فشلها العسكري الفاحش في “جورجيا” من قبل، بل ظهرت لتقدم لنا عرضًا عسكريًا داميًا في “دمشق”! الجميع يتسلح ويكدس المطاوي والخناجر، للانقضاض والطعن، وقت اللزوم، بوضوح الجميع “يبلطج” في عالم جديد يحترم البلاطجة، وينحني للشبيحة، ويدق الطبول للسفلة، ماداموا “مسلحين”! ويتجدد مع هذا الذي يحدث، نصحنا للقيادات والشعوب العربية، أظهروا الشوكة ولو لمرة، وشمروا عن القوة ولو للحظات، حوزوا القوة بخيار حاسم لا يعرف التردد ولو سحابة النهار فقط، وابذلوا كل الجهد للخروج من “الحضانة الأمريكية” في لحظة “بلطجة دولية” غير مسبوقة وصفها “ترامب” _ شيخ المنصر _ بـ”Stupid days”.. نعم هي “الأيام الحمقاء” في فضاء البلطجة!.
التعليقات