من الدروس المهمة التي يثيرها حدث الهجرة النبوية الشريفة قضية ارتباط الإنسان بأرضه وموطنه ، وأنه كان من سنن الأنبياء والمرسلين التضحية بمثل هذا الارتباط إذا كان في ذلك مصلحة الدين والعقيدة . ففي سبيل الله ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أرضاً نشؤوا عليها وعاشوا في كنفها ردحاً طويلاً من الزمن، وساروا إلى أرض أخرى لم يألفوها من قبل، فوُعِك بعضهم وأصابتهم الحمى، وكانوا يحنون إلى مكة ويشتاقون إلى العودة إليها، حتى كان بلال رضي الله عنه يقول
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلةً بوادٍ وحولي إذخِر وجليلُ
وهل أرِدَنْ يوماً مياه مِجَنَّة وهل تَبدوَنْ لي شامةٌ وطَفيلُ
[ إذخر وجليل نبتان ينبتان بمكة ، ومجنة موضع على مقربة من مكة ، وشامة وطفيل جبلان حولها ]
فعند ذاك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، اللهم بارك لنا في صاعنا وفي مدنا، وصححها لنا وانقل حُمَّاها إلى الجحفة…) [ أخرجه البخاري ومسلم من حديث عائشة ]. ثم إنه كان من تمام هجرة أولئك المهاجرين أن مُنعوا من الإقامة بمكة بعد أن فُتحت وصارت دار إسلام، وذلك لكي تتم لهم هجرتهم ويكون لهم الثواب الجزيل الذي وعد الله به من هاجر في سبيله ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو الله تعالى أن يُمضي لأصحابه هجرتهم ويتأسف على من مات منهم بمكة؛ فيقول : ( اللهم أمضِ لأصحابي هجرتهم، ولا تردهم على أعقابهم، لكن البائس سعد بن خوْلة، يَرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن توفي بمكة).[ متفق عليه من حديث سعد بن أبي وقاص].
ولما كانت قضية الانتماء للأوطان مما يكثر اللغط حوله في كثير من بلاد المسلمين ، بحيث صارت تهمة عدم الولاء للوطن تهمة جاهزة يُتهم بها كل من يدعو لوحدة المسلمين ويراهم أمة واحدة ، فإن من المهم أن نؤكد على النظرة الشرعية لهذه القضية والتي يمكن إجمالها في النقاط الآتية :
1-حب المرء لوطنه والموضع الذي نشأ فيه وترعرع من الأمور التي جُبل الناس عليها ، وهذا الذي رأيناه من حنين المهاجرين إلى مكة مما يدلل على صحة ذلك ، فلذا لا نماري في هذا الأمر ولا نجادل فيه ، ولكن يجب التأكيد على أن هناك فارقاً بين الحب المشروع للأوطان ،وبين تقديسها والتعصب لها بالحق والباطل ،وجعلها معقد الولاء والبراء؛ والتغنى بأمجادها وتاريخها حتى لو كان ذلك التاريخ مما يخالف شرعة الله تعالى ،بل على المسلم أن يبرأ من المعصية وأهلها ،ولو كانوا أقرب الناس إليه ، كما في حديث أبي ريحانة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من انتسب إلى تسعة آباء كفار يريد بهم عزاً وكرامة، فهو عاشرهم في النار ) [ أورده الهيثمي في مجمع الزوائد وقال: رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط وأبو يعلى ورجال أحمد ثقات ) .
وفي البخاري (4905) ومسلم (2584) عن جابر بن عبد الله قال : ( كنا في غزاة فكسع-أي ضرب –رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار فقال الأنصاري: يا للأنصار ، وقال المهاجري: يا للمهاجرين ، فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( ما بال دعوى الجاهلية ؟ ) قالوا : يا رسول الله كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار ،فقال : دعوها فإنها منتنة ) .
أي أن الانتساب إلى المهاجرين أو الأنصار مع كونه انتساباً شرعياً وشرفاً عظيماً ،إلا أنه إذا جاء على وجه الحمية والعصبية فإنه يكون مذموماً ، لذا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك التعصب وسماه دعوى الجاهلية ، فكيف بالتعصب لما دون ذلك من أرض أو قبيلة أو بلد ؟
أما ما يذكره بعضهم من أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (حب الوطن من الإيمان)، فإن ذلك لا يصح ،بل هو حديث موضوع [ كما نقله العجلوني عن الصغاني في كشف الخفاء ( 1102) ، وكذا حكم بوضعه الألباني في السلسلة الضعيفة (36) ] .
2- ثم إن الأنظمة الظالمة المستبدة تستغل دعوى الوطنية لصالحها، وتشوه استناداً إليها صورة من عارضها ، فكلما انتقد إنسان نظاماً أو حاكماً أو خالفه في بعض ما يقول انطلقت أبواق الضلالة لتَصِمَ ذلك المخالِف بأنه كاره لوطنه وأنه ليس عنده انتماء حقيقي له، فكأنما اختصروا الدولة والوطن في شخص الحاكم الفرد .وأذكر في هذا الصدد أنه كان لنا صديق مصري توفي باليمن في تسعينيات القرن الميلادي المنصرم ، وكان رحمه الله خطيباً مفوهاً يخطب في أحد مساجد صنعاء ،وقد اشتهر بانتقاده لنظام حسني مبارك وبعض الأنظمة العربية ، وكان قد أوصى زوجته بأن يُدفن ببلاد اليمن ،وأنه لا داعي لنقل جثمانه إلى مصر ، فلم يَسلَم -رغم موته – من تشهير الأبواق الحكومية به ؛ حيث خرجت مجلة روزا اليوسف وقتها تتهمه بأنه عاقٌّ لوطنه كاره له ،بدليل أنه رفض أن يدفن في مصر ، مع أن الرجل لم يقصد من وراء تلك الوصية إلا اختصار الجهد والتكاليف ،وألا يشق على أهله ومحبيه .
3-وأسوأ من ذلك اختراع الأكاذيب وتزوير التاريخ من أجل زيادة هذا التقديس ، ومن ذلك ما يردده البعض من أن الفراعنة عرفوا عقيدة التوحيد قبل نزول رسالات السماء ، ويشيرون بذلك إلى ما يُذكر من أن الملك إخناتون كان داعيةً للتوحيد في مصر القديمة، وأنه دعا الناس إلى عبادة الله وحده، حتى راجت تلك المقولة عند بعض المنتسبين للعلم الشرعي في بلادنا فراحوا يرددونها دون انتباه لما فيها من مخالفة للعقيدة الحقة التي يقتضي اتباعها الإقرار بأن رسل الله تعالى هم الذين عرَّفوا الناسَ التوحيدَ ودعوهم إليه ، من ذلك ما قاله أستاذ للعقيدة في جامعة الأزهر، أعير لإحدى الجامعات السعودية زمناً، فحقق كتاب شرح العقيدة الطحاوية، حيث قال عند ترجمته للإمام الطحاوي : ( وبين لداته وأترابه في قرية طحا أبناء الشعب الطيب المسالم، الذي اهتدى إلى توحيد الخالق وعبادة الواحد الأحد قبل أن تنزل الديانات السماوية الكبرى إلى الأرض كان الطحاوي منفرداً بينهم بقوة حافظته وسرعة بديهته….). [شرح الطحاوية بتحقيق الدكتور عبد الرحمن عميرة: (1/40) ] . والحقيقة التي تدل عليها دراسة آثار الملك أخناتون أنه لم يكن أبداً من دعاة توحيد الله عز وجل ، وكل ما فعله هو أنه وحد الآلهة التي كان يعبدها المصريون فحملهم على عبادة إله واحد، هو قرص الشمس المشعة (آتون)، ويكفي أن نعلم أنه غير اسمه من أمينوفيس الرابع، أو امنحوتب الرابع إلى (أخن-آتون ) الذي معناه (عبد قرص الشمس) .[كما ذكر الدكتور حسين فوزي في كتابه : سندباد مصري ص: 262 ].
4-إن من محاسن الشريعة كما أسلفنا أنها راعت ما فُطر الإنسان عليه من حب أهله وعشيرته وموطنه ، ولكنها أكدت تأكيداً لا خفاء فيه على وجوب تقديم محبة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم على كل حب ، وأنه عند التعارض لا بد من تقديم الولاء للدين على الولاء للأرض والأهل والمال كما قال تعالى : ( قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين)).[ التوبة: 24 ]. وقال تعالى : ( لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه …. ) المجادلة: 22. ولذلك كان عجبنا شديداً حين صدرت فتوى إبان العدوان الأمريكي على أفغانستان عقب أحداث سبتمبر 2001م بجواز مشاركة المسلمين العاملين في الجيش الأمريكي في قتال المسلمين في أفغانستان ، وذلك حتى لا يكون ولاؤهم لدولتهم -أمريكا- محل شك واتهام بحسب ما جاء في تلك الفتوى التي نشرها الأستاذ فهمي هويدي في جريدة الشرق الأوسط بتاريخ 8/10/2001 ، وذكر أنه وقع عليها الدكتور يوسف القرضاوي وآخرون ،بل إنه حتى لما تساءل أولئك العسكريون عن جواز أن يطلب مَنْ يستطيع منهم تحويله إلى خدمات أخرى غير القتال المباشر ، ،فإن أصحاب تلك الفتوى ردوا بأنه إذا كان هذا الطلب سيترتب عليه الشك في ولائهم لوطنهم ، أو تعريضهم لسوء ظن، أو لاتهام باطل، أو التشكيك في وطنيتهم، فإنه لا يجوز لهم هذا الطلب . فانظر إلى هذه الفتوى العجيبة كيف قدمت ولاءَ المسلم لدولته الكافرة على ولائه لدينه وإخوانه المسلمين، وأباحت له بسبب ذلك المشاركة في قتل أهل دينه وملته ، بل حرَّمت عليه مجرد أن يطلب تحويله إلى عمل غير قتالي إذا خشي التشكيك في وطنيته وولائه لدولة البغي والعدوان .
5-ثم إننا نعلم أن المقصود بالأوطان التي يتغنى بأمجادها دعاة الدولة القُطرية الآن تلك التقسيمات المصطنعة التي هي من إرث الاستعمار الغربي واتفاقيات سايكس بيكو ، ولو دعا داعٍ الآن إلى إزالة تلك الحدود المصطنعة وأن يعود المسلمون دولةً واحدة كما كانوا لقامت عليه قيامة أدعياء الوطنية متهمين إياه بأنه لا يحب بلاده ،أو أنه داعشي الهوى أردوغاني الانتماء ، إلى غير ذلك من التهم الجاهزة الكحفوظة لديهم ،هذا مع أننا نعلم أن مصر تبنت إبان حكم الرئيس عبد الناصر فكرة القومية العربية ، ولا زلنا حتى الآن نذكر أغاني تلك الفترة ومقرراتها المدرسية والتي كان همها الأول تمجيد الأمة العربية والدعوة إلى وحدتها ، ولا يزال دعاة القومية يرددون ذلك إلى يومنا هذا ، ومع ذلك لا نجد مَن يتهم أولئك القوميين بخيانة بلادهم ولا السعي في تخريبها كما يُتهم بذلك دعاة الوحدة الإسلامية.
6-وأخيراً يجب التنبيه إلى أن كثيراً ممن يدَّعون الوطنية لا هم وطنيون ولا يحزنون ، وإنما هم تجار يتاجرون باسم الوطن وآلامه ، بل كثير منهم لصوص ينتهبون خيرات هذا الوطن وثرواته ، وها نحن نسمع كل حين عن قضايا فساد وسرقات يرتكبها أناس كانوا يُصدعون أدمغتنا بحب الوطن ووجوب التضحية من أجله ،وما خفيَ كان أعظم .
عبد الآخر حماد
عضو رابطة علماء المسلمين
التعليقات