القائمة إغلاق

محاضرة في مدخل إلى علم السياسة الشرعية

                 د. عبد الآخر حماد

أولا: تعريف علم السياسة الشرعية:

                

             هو علم يبحث في الأحكام التي تنظم بها مرافق الدولة وتدبر بها شؤون الأمة، مع مراعاة أن تكون متفقة مع روح الشريعة، نازلة على أصولها الكلية محققة أغراضها الاجتماعية ولو لم يدل عليها شيء من النصوص التفصيلية الجزئية الواردة في الكتاب والسنة.[السياسة الشرعية والفقه الإسلامي للشيخ عبد الرحمن تاج 1/12]

أو هو : علم يبحث فيه عن الأحكام والنظم التي تدبر بها شئون الدولة الإسلامية التي يرد فيها نص أو التي من شأنها التغير والتبدل، بما يحقق مصلحة الأمة، ويتفق مع أحكام الشريعة وأصولها العامة )).[ المدخل إلى السياسة الشرعية د. عبد العال أحمد عطوة ص: 54]

أرى أن يضاف إلى ذلك أمران: الأول شؤون الجاليات المسلمة في بلاد الغرب ، والثاني ما يخص الحركات الإسلامية وبخاصة تلك التي تهدف إلى إقامة نظام إسلامي في ديار المسلمين.

ثانياً : أهمية الأخذ بالسياسة الشرعية:

                     لما كانت النصوص الشرعية متناهية وكانت وقائع الناس وأقضيتهم غير متناهية، وجب الاجتهاد لتحصيل ما يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وقد قال الشهرستاني في الملل والنحل ( 1/ 198): ( والنصوص إذا كانت متناهية والوقائع غير متناهية وما لا يتناهى لا يضبطه ما يتناهى علم قطعا أن الاجتهاد والقياس واجب الاعتبار حتى يكون بصدد كل حادثة اجتهاد ) .

وقال ابن القيم في الطرق الحكمية ( ص: 13) : ( قال ابن عقيل في الفنون : جرى في جواز العمل في السلطنة بالسياسة الشرعية : أنه هو الحزم ، ولا يخلو من القول به إمام ،فقال شافعي : لا سياسة إلا ما وافق الشرع . فقال ابن عقيل :السياسة ما كان فعلا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح ، وأبعد عن الفساد ، وإن لم يضعه الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولا نزل به وحي ، فإن أردت بقولك: إلا ما وافق الشرع أي لم يخالف ما نطق به الشرع : فصحيح ، وإن أردت : لا سياسة إلا ما نطق به الشرع : فغلط ، وتغليط للصحابة فقد جرى من الخلفاء الراشدين من القتل والتمثيل ما لا يجحده عالم بالسنن ، ولو لم يكن إلا تحريق عثمان المصاحف، فإنه كان رأيا اعتمدوا فيه على مصلحة الأمة ، وتحريق علي رضي الله عنه الزنادقة في الأخاديد وقال : لما رأيت الأمر أمرا منكرا أججت ناري ودعوت قنبرا

ونفي عمر بن الخطاب رضي الله عنه لنصر بن حجاج . ا هـ ) .

ثالثاً : مسائل هذا العلم :

       أكثر ما تجري فيه السياسة الشرعية يتعلق بالأنظمة الآتية:

1-الوقائع المتعلقة بنظام الحكم في الإسلام من علاقة الحاكمين بالمحكومين ،بتحديد سلطة الحاكم وبيان حقوقه وواجباته وحقوق الأفراد وواجباتهم وبيان السلطات المختلفة في الدولة ،ويقابله في القوانين الوضعية القانون الدستوري .

2-الوقائع المتعلقة بعلاقة الدولة الإسلامية بغيرها من الدول والكيانات ،ويقابلها القانون الدولي العام .

3-الوقائع المتعلقة بالنظام المالي للدولة الإسلامية مثل موارد الدولة الإسلامية ومصارفها، ونظام بيت المال ،وقابل ذلك علم المالية العامة.

4-الوقائع المتعلقة بالنظام الا قتصادي في الإسلام من تداول المال واستثماره ومدى تدخل الدولة في ذلك ،ويقابله : علم الاقتصاد.

5-الوقائع المتعلقة بالنظم القضائية من طرق القضاء والإثبات وإجراءات التقاضي ويقابله قانون المرافعات وبعض مباحث القانون الدستوري . [ المرجع السابق ص: 56 بتصرف].

رابعاً : شروط الاجتهاد في السياسة الشرعية

الشرط الأول : أن يكون الاجتهاد متفقاً مع الأحكام العامة للشريعة ، بمعنى أن يندرج ذلك الاجتهاد تحت دليل من الأدلة الشرعية المعتبرة في السياسة الشرعية كسد الذرائع ،والعرف ، والمصالح المرسلة ،أو يندرج تحت قاعدة من القواعد الفقهية الكلية أو ما يتفرع عنها مثل قاعدة أن الضرر يزال ، وقاعدة أن اليقين لا يزول بالشك ، أو أن نظر الإمام في أحوال الرعية منوط بالمصلحة وغير ذلك .

الشرط الثاني : عدم مخالفة النصوص الشرعية من الكتاب والسنة لأن الأصل هو التمسك بالنصوص الشرعية لقوله تعالى:( وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ۚ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ

) [ التغابن : 12] ،( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا

[ الأحزاب: 36] وغير ذلك من الآيات والأحاديث الداعية إلى طاعة الله تعالى ورسوله.

وإنما اشترطنا ذلك لأن النظر في القواعد الكلية قد يؤدي إلى القول بإباحة شيء ما لكن يوجد نص تفصيلي خاص بالمسألة يمنع من الأخذ بتلك المبادئ العامة ، كمن يقول مثلاً بإباحة الربا لمن يودع أمواله في البنوك بحجة انعدام الضرر وأن البنك لا يمكن أن يخسر ،وأنه حين يحدد تلك الفائدة الربوية يعتمد على حسابات دقيقة لا تكاد تخطئ فإن كل ذلك مردود بالأدلة القطعية المحرمة للربا مهما كان شأنه.

وكذلك لا يقبل قول من قال إنه لا مانع من تولي المرأة رئاسة الدولة بحجة أنها مثل الرجل في الكفاءة والمقدرة وأن هناك أمثلة في التاريخ أثبتت أن المرأة قادرة على قيادة الدولة كالرجل ، وذلك لوجود نص تفصيلي في الموضوع وهو قوله صلى الله عليه وسلم : (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ) [أخرجه البخاري (7099) من حديث أبي بكرة ] ، ولا يصح الادعاء بأنه خاص بالفرس ، أي لأنه صلى الله عليه وسلم إنما قال ذلك لما بلغه أن الفرس قد ولوا عليهم ابنة كسرى ، أقول لايصح ذلك الادعاء لأن العبرة بعموم اللفظ ،فقوله قوم نكرة في سياق النفي فهي تفيد العموم كقوله ( وما من دابة )، كما أن هذا هو فهم الصحابي راوي الحديث أبي بكرة نفيع بن الحارث حيث قال كما في صحيح البخاري (7099) : ( لقد نفعني الله بكلمة أيام الجمل لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن فارساً ملكوا ابنة كسرى فقال : لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) .

ونظير ذلك قول حذيفة : رضي الله عنه في آية الحاكمية : ( نعم الإخوة لكم بنو إسرائيل إن كانت لكم كل حُلْوة ولهم كل مُرَّة ، ولتسلُكُنَّ طريقَهم قِدَى الشِّراك . (تفسير الطبري : 10 / 348) . وقال الحسن : نزلت في اليهود ، وهي علينا واجبةٌ . وقال إبراهيم النخعي : نزلت في بني إسرائيل ، ورضي لكم بها ) [تفسير الطبري : 10/357 ].

فأى اجتهاد يتعارض مع النصوص الشرعية القطعية وإجماع الأمة لا اعتبار له، كما هو حال سعيد العشماوي الذي يقول بوقتية الأحكام ويطعن في قاعدة أن العبرة بعموم اللفظ وليس بخصوص السبب ،ولأجل ذلك يرفض الحجاب ،وكذلك قوله هو ونصر أبو زيد في قضايا المواريث ..ومن ذلك طعن آمنة ودود في حد القطع وقولها إنه وحشية .

ويتحقق هذا الشرط بأمرين :

الأول عدم وجود نص تفصيلي في المسألة ، وذلك كجمع أبي بكر للمصحف ،لأنه لم يخالف نصاً، وإن توقف فيه في أول الأمر هيبة من أن يفعل شيئاً لم يفعله النبي ، لكن عمر ما زال يقول له : هو والله خير ، حتى اقتنع .

وكذلك تدوين عمر للدواويين ،لم يخالف نصاً ولا إجماعاً.

الثاني : أن يوجد نص في المسألة يخالف مخالفة ظاهرة لما قد يؤدي إليه الاجتهاد في السياسة الشرعية ،لكن يعلم دليل على أن ذلك النص لا يقصد به الشريعة الدائمة بل هو أمر مؤقت أو كان مرتبطاً بمصلحة معينة طارئة ويمكن إجمال ذلك فيما يلي :

1-التفرقة بين ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم باعتباره رسولاً مبلغاً عن ربه وبين ما فعله باعتباره حاكماً وإماماً ، وقد عقد القرافي في الفروق فصلاً لذلك وهو الفرق السادس والثلاثون ،جعله للفرق بين تصرفه صلى الله عليه وسلم بالقضاء ،وتصرفه بالفتوى والتبليغ ،وتصرفه بالإمامة ، حيث بين أن كل ما قاله صلى الله عليه وسلم أو فعله على سبيل التبليغ كان ذلك حكماً عاما على الثقلين إلى يوم القيامة ، وأن كل ما تصرف فيه عليه السلام بوصف الإمامة لا يجوز لأحد أن يقدم عليه إلا بإذن الإمام اقتداءً به عليه السلام ، وما تصرف فيه صلى الله عليه وسلم بوصف القضاء لا يجوز لأحد أن يقدم عليه إلا بحكم حاكم اقتداءً به صلى الله عليه وسلم ، وذكر من أمثلة تصرفه بوصف الإمامة بعث الجيوش لقتال الكفار والخوارج ومن تعين قتاله وصرف أموال بيت المال في جهاتها وجمعها من محالها وعقد العهود للكفار ذمة وصلحاً ، فمتى فعل صلى الله عليه وسلم شيئاً من ذلك علمنا أنه تصرف فيه بطريق الإمامة دون غيرها ، ومتى فصل بين اثنين في دعاوى الأموال أو أحكام الأبدان ونحوها بالبينات أو الإيمان والنكولات ونحوها علمنا أنه إنما تصرف في ذلك بالقضاء دون الإمامة العامة وغيرها ،وكل ما تصرف فيه في العبادات بقوله أو بفعله أو أجاب به سؤال سائل عن أمر ديني فهذا تصرف بالفتوى والتبليغ ثم ذكر بعض المواطن التي وقع الخلاف في فهمها ومنها قوله : ( من أحيا أرضا مواتاَ فهي له ) هل هو من باب الفتوى ( مالك والشافعي ) أو من باب الإمامة فلا يجوز لأحد ان يفعل ذلك إلا بإذن الإمام ( أبو حنيفة) ، وكذا قوله لهند بنت عتبة : ( خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ) هل هو من باب الفتوى ( الشافعي ) أو من باب القضاء فلا يحل ذلك لأحد إلا بحكم قاض ( مالك ) ، وهي مسألة الظفر بالحق .[ الفروق : 1/ 357 وما بعدها]

2-التفرقة بين حكم عام وحكم معلل بعلة ظاهرة يدور معها وجوداً وعدماً .مثال ذلك النهي عن السفر بالمصحف لأرض العدو فقد أخرج البخاري (2990) ومسلم (1869) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : (( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو ))،وفي إحدى الروايات عند مسلم : زيادة ( مخافة أن يناله العدو ) وفي أخرى : (فإني لا آمن عليه العدو ). قال النووي في شرح مسلم : (( فيه النهى عن المسافرة بالمصحف إلى أرض الكفار للعلة المذكورة في الحديث وهى خوف أن ينالوه فينتهكوا حرمته فإن أمنت هذه العلة بأن يدخل في جيش المسلمين الظاهرين عليهم فلا كراهة ولا منع منه حينئذ لعدم العلة هذا هو الصحيح وبه قال أبو حنيفة والبخاري وآخرون … )) .

ومن ذلك اجتهاد عمر في مسألة دية القتل الخطأ وجعلها على أهل الديوان وليس العاقلة، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية توجيه ذلك في المجموع ( 19/ 255) بما حاصله أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الدية على العاقلة أنهم كانوا هم الذين ينصرون الرجل ويعينونه ، إذ لم يكن على عهد النبي ديوان ولا عطاء فلما وضع عمر الديوان كان معلوماً أن جند كل مدينة ينصر بعضه بعضا ويعين بعضه بعضاً وان لم يكونوا أقارب فكانوا هم العاقلة ، قال ابن تيمية : ( وهذا أصح القولين وأنها تختلف باختلاف الأحوال وإلا فرجل قد سكن بالمغرب وهناك من ينصره ويعينه كيف تكون عاقلته من بالمشرق في مملكة أخرى ولعل أخباره قد انقطعت عنهم … ).

ومن ذلك في واقعنا المعاصر : النظر في قضية الإقامة في بلاد الكفر : وما ورد في النهي عن ذلك مثل حديث : ( أنا برئ من من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين، لاتراءا ناراهما ) [أخرجه أبو داود(2645) والترمذي ( 1604) من حديث جرير بن عبد الله ، والحديث تكلم فيه بعض أهل الحديث ، ونقل الترمذي عن البخاري أنه مرسل ، وصححه بعضهم وأورده الألباني في صحيح سنن أبي داود ].

لكن أخرج البخاري (3900) عن عطاء بن أبي رباح قال :زرت عائشة مع عبيد بن عمير الليثي فسألناها عن الهجرة فقالت : (( لا هجرة اليوم،كان المؤمنون يفر أحدهم بدينه إلى الله تعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم مخافة أن يفتن عليه،فأما اليوم فقد أظهر الله الإسلام واليوم يعبد ربه حيث شاء ولكن جهاد ونية)) .قال الحافظ في شرحه : (( أشارت عائشة إلى بيان مشروعية الهجرة وأن سببها خوف الفتنة والحكم يدور مع علته فمقتضاه أن من قدر على عبادة الله في أي موضع اتفق لم تجب عليه الهجرة منه وإلا وجبت ومن ثم قال الماوردي إذا قدر على إظهار الدين في بلد من بلاد الكفر فقد صارت البلد به دار إسلام فالإقامة فيها أفضل من الرحلة منها لما يترجى من دخول غيره في الإسلام)).[ فتح الباري ج: 7 ص: 229]

وقال شيخ الإسلام (27/39) : بعد أن ذكر أن الأصل الجامع أن يقيم الإنسان في الموضع الذي يكون فيه أطوع لله ورسوله وأفعل للحسنات والخيرات ثم قال : (( فقد يكون مقام الرجل في أرض الكفر والفسوق من أنواع البدع والفجور أفضل إذا كان مجاهداً في سبيل الله بيده أو لسانه آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر بحيث لو انتقل عنها إلى أرض الإيمان والطاعة لقلت حسناته )).

3-التفرقة بين حكم عام وبين حكم بني على عرف قد يتغير مثل اجتهاد عثمان في ضالة الإبل وهو ما ذكره مالك في الموطأ عن الزهري : (كانت ضوال الإبل في زمان عمر بن الخطاب إبلاً مؤبلة تتناتج لا يمسها أحد حتى إذا كان زمان عثمان بن عفان أمر بتعريفها ثم تباع فإذا جاء صاحبها أعطي ثمنها ).فقد كان ترك الإبل ومثلها البقر مبنياً على قدرتها على حماية نفسها وتحصيل طعامها وشرابها حتى يجدها صاحبها،وأن الناس كانوا أهل دين وتقوى ،فلما رأى عثمان فساد الذمم وأنه يمكن أن يطمع فيها الطامعون كان ترك ضوال الإبل والبقر إضاعة لها وتفويتاً على صاحبها .

وقريب من ذلك القول بتحريم التجنس بجنسية الدول الكافرة : فقد أفتت اللجنة الدائمة للفتوى برئاسة بن باز: “لا يجوز أن يتجنس باختياره بجنسية دولة كافرة لما في ذلك من التزامه بنظمهم والتحاكم إلى قوانينهم، وتبعيته لهم، وموالاته إياهم، ومن المعلوم أن فرنسا دولة كافرة حكومة وشعباً، وأنت مسلم، فلا يجوز لك التجنس واصبر واحتسب والله المستعان”

لكن الصحيح ما ذكره الشيخ القرضاوي حيث قال : (( في بعض الأوقات كان حمل الجنسية الأوروبية ونحوها يعتبر جريمة ويعتبر خيانة لله ولرسوله وللدين وللوطن وللأمة ،ولذلك علماء تونس في بعض أوقات المقاومة ضد الاستعمار الفرنسي أفتى هؤلاء العلماء بردة من يحمل الجنسية الفرنسية، هذا في وقت [ كان فيه ذلك التحريم ] سبيلاً من سبل المقاومة وسلاح من أسلحة الجهاد، ولكن في الأوقات العادية، المسلم الذي يحتاج أن يذهب إلى هذه البلاد وأصبح موجوداً فيها لاشك أن حمله لجنسية هذه البلاد يقويه ولا يضعفه …فلذلك أنا أقول حمل الجنسية في ذاته ليس شراً ولا خطراً…. فأنا إذا استطعت أن أعيش دون أن يلزمني القانون بشيء يخالف ديني فأبقى وإلا لا معنى للبقاء )).

4-التفرقة بين حكم مقصود لذاته وما كان مجرد وسيلة لغيره ،فإن الشارع الحكيم قد يشرع حكماً معيناً لكنه لا يحدد طريقة معينة لتطبيقه ، فيسمح بالتوسع في اختيار الوسائل التي يتحقق بها ذلك الحكم ، من ذلك أنه أمر بالشورى ولم يحدد طريقة معينة للقيام بها .ومن ذلك أن أخذ الجزية من الكتابيين في دار الإسلام ثابت بالقرآن والسنة ، لكن الصحابة في عهد عمر فهموا أنه ليس من شرط الجزية أن تسمى بهذا الاسم ،ولذلك قبل عمر أن يأخذها من نصارى بني تغلب باسم الصدقة وضعفها عليهم، قال ابن قدامة : (( وحكم الجزية ثابت بالكتاب والسنة ، في كل كتابي ، عربيا كان أو غير عربي ، إلا ما خص به بنو تغلب، لمصالحة عمرإياهم…)) ثم ذكر وجوهاً تمنع من قياس كل الكتابيين على نصارى بني تغلب قال في آخرها : ((…. أنبني تغلبكانوا ذوي قوة وشوكة ، لحقوابالروم، وخيف منهم الضرر إن لم يصالحوا ،….فإن وجد هذا في غيرهم ، فامتنعوا من أداء الجزية ، وخيف الضرر بترك مصالحتهم ، فرأى الإمام مصالحتهم على أداء الجزية باسم الصدقة ، جاز ذلك ، إذا كان المأخوذ منهم بقدر ما يجب عليهم من الجزية أو زيادة قالعلي بن سعيد : سمعت أحمديقول : أهل الكتابليس عليهم في مواشيهم صدقة ، ولا في أموالهم ، إنما تؤخذ منهم الجزية ،إلا أن يكونوا صولحوا على أن تؤخذمنهم ، كما صنع عمرفينصارى بني تغلب، حين أضعف عليهم الصدقة في صلحه إياهم ، وذكر هذا أبو إسحاقصاحب المهذب ، في كتابه ،والحجة في هذا قصةبني تغلب، وقياسهم عليهم . إذا كانوا في معناهم )).[ المغني : 9/276].ومما يتصل بذلك محاولة الاستفادة من أوضاع الجاهلية وقوانينها في تحقيق المصلحة للمسلمين ، وهذا معترك صعب قد تزل فيه الأقدام ، ولكنا نرى والله أعلم أنه إن كان الأمر مجرد محاولة للاستفادة من وسائل الجاهلية وأنظمتها دون رضى بتلك الأنظمة الجاهلية فإنه لا بأس بذلك ، وقد قبل النبي صلى الله عليه وسلم أن يدخل مكة في جوار المطعم بن عدي ، وأذن للمسلمين أن يهاجروا إلى الحبشة ورضي لهم العيش في ظل حكمه وهو كافر ( قبل أن يسلم ) ، ولكنه كان حاكماً عادلاً ، وقد كان يوسف عليه السلام وزيراً لملك كافر بمصر ، وقد كان لذلك الملك وقومه كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (( عادة وسنة في قبض الأموال وصرفها على حاشية الملك وأهل بيته وجنده ورعيته ،ولا تكون تلك جارية على سنة الأنبياء وعدلهم ،ولم يكن يوسف يمكنه أن يفعل كل ما يريد وهو ما يراه من دين الله ؛فإن القوم لم يستجيبوا له ،لكن فعل الممكن من العدل والإحسان ،ونال بالسلطان من إكرام المؤمنين من أهل بيته ما لم يكن يمكن أن يناله بدون ذلك ،وهذا كله داخل في قوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ

) . [مجموع الفتاوى : 20/56] .وقريب من هذا الفتوى بجواز المشاركة في الانتخابات في بلاد الغرب بشروط والتذكير بفتوى وقد ذكر الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي في تفسير قوله تعالى : قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا ۖ وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ ۖ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ 

هود : 91 أن الله قد يدفع البلاء عن المؤمنين بأسباب كثيرة منها الروابط الاجتماعية بينهم وبين أبناء الوطن الذي يعيشون فيه ولو كانوا كافرين ،ثم قال رحمه الله : (( فعلى هذا لو سعى المسلمون الذين تحت ولاية الكفار وعملوا على جعل الولاية جمهورية يتمكن فيها الأفراد والشعوب من حقوقهم الدينية والدنيوية لكان أولى من استسلامهم لدولة تقضي على حقوقهم الدينية والدنيوية وتحرص على إبادتها وجعلهم عملة وخدماً لهم ،نعم إن أمكن أن تكون الدولة للمسلمين وهم الحكام فهو المتعين ،ولكن لعدم إمكان هذه المرتبة فالمرتبة التي فيها دفع ووقاية للدين والدنيا مقدمة والله أعلم ) [ تفسير السعدي :3/457].

5– ما كان من النصوص مشترطاً لتطبيقه شروطا قد تتخلف في بعض الحالات ، مثل عدم قطع الأيدي في الغزو، أو موقف عمر من سهم المؤلفة قلوبهم ، ويلحق بذلك تغليظ العقوبة إذا رأى الإمام ذلك كفعل عمر فيالطلاق الثلاث.

الشرط الثالث : أن يعتمد فيه على العلماء الربانيين المؤهلين علمياً للقيام بذلك ، وما يذكره البعض من أنه ليس في الإسلام كهنوت ولا رجال دين هو في نفسه قول حق وكلام صحيح ،ولكنه من قبيل الحق الذي يراد به الباطل ،فليس معنى أن الإسلام ليس فيه رجال دين أن يُترك الحديث في الدين لمن هب ودب بغير دليل ولا برهان ،وإذا كان الإسلام لا يعرف رجال الدين بالمفهوم الكنسي فإنه وبكل تأكيد يعرف علماء الدين الذين يستنبطون الأحكام من مصادرها الشرعية والذين يرجع إليهم عامة الناس في معرفة ما أشكل عليهم من أمور دينهم كما قال تعالى : (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ

)،وإذا كان التخصص محترماً في كل علم وفن فلماذا يكون الحديث في الإسلام كلأً مباحاً لكل أحد ، بدعوى أن الإسلام ليس فيه رجال دين ؟

إن عدم وجود هذا الضابط هو السبب فيما نراه من آراء باطلة مخالفة لما أجمعت عليه الأمة كالذي أشرنا إليه في قضية الحجاب ،وكما تقول به المدعوة آمنة ودود في رفضها كون شهادة المرأتين بشهادة رجل واحد ،وأن ذلك كان بسبب القهر الذي كان يمارسه الرجال ضد النساء .وفي نفس الوقت لا يمنع ذلك من استشارة بعض المختصين في المجالات التي يراد دراستها وإبداء الرأي الشرعي فيها ، كما ترجع الآن المجامع الفقهية لآراء الأطباء والاقتصاديين وغيرهم فيما يتعلق بتخصصاتهم من المسائل المراد بحثها.

الشرط الرابع : ألا يكون الهم تبرير الواقع ومسايرة ما ألفه الناس ودرجوا عليه ،فالإسلام ليس مجموعة أنظمة فوقية أنتجتها أدمغة عربية في غابر الأزمان، ثم طال عليها العهد واستنفدت كل ما كان فيها من مبررات عائدة إلى طبيعة ذلك العصر ،كما قال جولد تسيهر في تشبيه الأحاديث النبوية بجالون من البنزين وضع في سيارة فإذا نفد البنزين وجب على من أراد السير بالسيارة بعد ذلك أن يضع هو كمية أخرى من البنزين ، وقد كذب عدو الله ،بل هي -أي الشريعة- تنزيل من حكيم خبير. مثال ذلك القول بأن الإسلام لا يمنع الردة ولا يجرمها مع أن الله يقول : ( وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ وَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ

) البقرة 217 ،والإجماع منعقد على قتله لقوله صلى الله عليه وسلم : ( من بدل دينه فاقتلوه ) ، إلا أن النخعي قال : إنه يستتاب أبداً ، والفهم الصحيح لذلك أنه لا يعني عدم قتله ، يل يعني أن من تكررت ردته يستتاب في كل مرة ، كما بينه الحافظ ابن حجر في فتح الباري ( 12/ 270) . ومن أمثلة ذلك الرضوخ للضغوط الأوربية كما في منع التعدد إلا بإذن القاضي وعدم إيقاع الطلاق إلا عند القاضي.

الشرط الخامس : الحذر من تقديم ما يظن مصلحة على النصوص الشرعية. كفعل القاضي الأندلسي يحيى بن يحيى الليثي الذي أفتى الأمير عبد الرحمن بن الحكم لما جامع في نهار رمضان بأن كفارته صيام ستين يوماً لا عتق رقبة ،مخالفاً بذلك الحديث الصحيح في البدء بعتق رقبة قبل الصيام لأن تلك المصلحة ملغاة بحكم النص ،وهكذا كل مصلحة تخالف النصوص المقطوع بدلالتها تكون غير صالحة لأن تكون علة لإثبات حكم،فأولئك الذين يعتبرون المصالح التي استحدثتها أهواؤهم عللاً شرعية تهمل لأجلها النصوص قوم سدى لا يلتفت إليهم على حد وصف الشيخ أبي زهرة .

الشرط السادس : الاتزان والاعتدال في الأخذ بالسياسة الشرعية أو بتعبير الشيخ عبد الرحمن تاج : لزوم الاحتياط وقصد العدالة في أحكام السياسة [ السياسة الشرعية والفقه الإسلامي ص: 37].

وقال ابن القيم في الطرق الحكمية بعد أن ذكر أمثلة من وقائع السياسة الشرعية في عصر الخلفاء الراشدين : (( وهذا موضع مَزَلَّة أقدام ، ومضلة أفهام ، وهو مقام ضنك ، ومعترك صعب ، فرط فيه طائفة ، فعطلوا الحدود ، وضيعوا الحقوق ، وجرءوا أهل الفجور على الفساد ، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد ، محتاجةإلى غيرها ، وسدوا على نفوسهم طرقا صحيحة من طرق معرفة الحق والتنفيذ له ، وعطلوها ، مع علمهم وعلم غيرهم قطعا أنها حق مطابق للواقع ، ظنا منهم منافاتها لقواعد الشرع … فلما رأى ولاة الأمور ذلك ، وأن الناس لا يستقيم لهم أمرهم إلا بأمر وراء ما فهمه هؤلاء من الشريعة ، أحدثوا من أوضاع سياساتهم شراً طويلا ، وفساداً عريضا فتفاقم الأمر ، وتعذر استدراكه … وأفرطت طائفة أخرى قابلت هذه الطائفة ، فسوغت من ذلك ما ينافي حكم الله ورسوله ، وكلتا الطائفتين أتيت من تقصيرها في معرفة ما بعث الله به رسوله ، وأنزل به كتابه ،فإن الله سبحانه أرسل رسله ، وأنزل كتبه ، ليقوم الناس بالقسط ، وهو العدل الذي قامت به الأرض والسموات ، فإذا ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان ، فثم شرع الله ودينه ….. فلا يقال : إن السياسة العادلة مخالفة لما نطق به الشرع ، بل هي موافقة لما جاء به ، بل هي جزء من أجزائه، ونحن نسميها سياسة تبعا لمصطلحهم ، وإنما هي عدل الله ورسوله ، ظهر بهذه الأمارات والعلامات،فقد حبس رسول الله صلى الله عليه وسلم في تهمة ، وعاقب في تهمة ، لما ظهرت أمارات الريبة على المتهم، فمن أطلق كل متهم وحلفه وخلى سبيله – مع علمه باشتهاره بالفساد في الأرض ، وكثرة سرقاته ، وقال : لا آخذه إلا بشاهدي عدل – فقوله مخالف للسياسة الشرعية، وقد منع النبي صلى الله عليه وسلم الغال من الغنيمة سهمه ، وحرق متاعه هو وخلفاؤه من بعده… وعزم على تحريق بيوت تاركي الجمعة والجماعة … ،وقال في تارك الزكاة : ( إنا آخذوها منه وشطر ماله ، عزمة من عزمات ربنا ) …. وأمر بقتل شارب الخمر بعد الثالثة والرابعة ولم ينسخ ذلك ، ولم يجعله حداً لا بد منه بلهو بحسب المصلحة إلى رأي الإمام ، وكذلك زاد عمررضي الله عنه في الحد عن الأربعين ونفى فيها….) .

هذا والله تعالى أعلم

عبد الآخر حماد

التعليقات

موضوعات ذات صلة