القائمة إغلاق

آفات العمل السري (1-2) .. آفات تربوية

بقلم الشيخ أسامة حافظ

لم تكن فكرة العمل السري تلقي رواجا ً في بدايتها بين أبناء
الجماعة.. إذ اعتدنا ممارسة دعوتنا بصورة علنية عامة.. وكنا نخطب وندرس ونكتب
بصورة واضحة.. نشارك الناس ويشاركونا دعوتنا لا يقلق المجتمع منا.. مع ما قد يحدث
من تجاوزات منا أو منه ولا نقلق منه ولا يقلق منا.

وكنا نجتمع ونتخذ قراراتنا.. كبرت تلك القرارات أو صغرت في غرفة
المسجد.. أو في مدرج الجامعة أو في حجرات المدينة الجامعية دون تخف أو احتراز..
ودون أن نخشى أن يتسمع أحد على ما نقوله أو يسعى لمعرفته.. فلم يكن فيما نقول سرا
ً نخشى أن يعرفه أحد.

– فلما ظهرت فكرة العمل السري في أواخر السبعينات في بعض قيادات
الجماعة لم يستجب لها في البداية إلا القليل.. بينما تلقاها البعض باستهانة متوقعا
ً أن ينصرف عنها أصحابها عندما تقابلهم عقبات التنفيذ ومشاكلهم.

بينما استنكر البعض الآخر الفكرة وهاجموها وحذروا منها بشدة حذرا ً
من النتائج المترتبة عليها.

وحتى نهايات سنة 1981م كان أصحاب الدعوة للعمل أو التنظيم السري
قلة بالنسبة لعموم الجماعة.

– ثم لما نجحت عملية اغتيال “الرئيس السادات” هذا النجاح
المذهل غابت تحت تأثير نشوة هذا النجاح اعتراضات المعترضين.. وأخطاء التخطيط وآفات
العمل السري لتصبح فكرة العمل السري مطروحة وبشدة على الواجهة.. وليدخل في تكوينها
كجزء أساسي في عمل الجماعة.. وخاصة بعد كثرة المداهمات والمواجهات والتحقيقات
والاعتقالات.

وهكذا استمرت الجماعة سنوات عدة بعد ذلك تمارس العمل السري المسلح
وتجعله جزءً من دعوتها وعملها و.. و.. و..

وهو وإن لم يكن عملها الأساسي إلا أنه كان أكثر أعمالها ضجيجا ً وإثارة للمجتمع. 

– ثم جاءت مبادرة وقف الأعمال القتالية لتطرح قضية العمل السري على
بساط البحث ضمن ما طرحت من قضايا.. خاصة بعد أن أعلنت الجماعة حل ذلك التنظيم
السري أو العسكري.

وكان طبيعيا ً أن نحرص على نقل تجربتنا مع العمل السري للأجيال من
بعدنا.. لكي لا يبدأوا من حيث بدأنا.. وإنما ليستفيدوا من تجربة من سبقوهم.. ولكي
لا يقعوا فيما وقعوا فيه من أخطاء.. ولكي يثمروا ويطوروا ما كان في أعمالهم من
صواب.

– والحق أنني لم أفكر في الكتابة في هذا الموضوع إلا وقد درست
تجارب السابقين من أبناء الحركة الإسلامية الذين مارسوا العمل السري ما استطعت إلى
ذلك سبيلا.. لكي نعمم الأفكار والإفادة قدر الاستطاعة.

إذ أن العمل السري استهوى كثيرا ً ممن سبقونا ابتداءً من تنظيم
الإخوان المسلمين السري.. وحتى تجربة الجماعة الإسلامية مرورا ً بتنظيمات يحيى
هاشم ومحمد البرعي وصالح سرية وشكري مصطفى.. وعشرات من التنظيمات المتنوعة.

– ورغم أن تنظيمنا العسكري أو المسلح هو أكثر هذه التنظيمات إصابة
من المجتمع وإصابة فيه.. إلا أن تجارب الآخرين كان فيها من ثراء التجربة الشيء
الكثير ولكن لم تطرح بالقدر الكافي ليستفيد منها الجميع.. أو طرحت ناقصة أو مليئة
بالتبريرات التي تشوش على المعاني المطلوب الإفادة منها.

وأمل أن تكون هذه الدراسة بداية لحوار متنوع يضفي عليها من المعاني
ما نحتاج جميعا ً إليه.. لتصاغ بعد ذلك بصورة كافية تغني الشباب عن الوقوع فيما
وقع فيه من سبقه من سلبيات.. وتنشئ حوارا ً علميا ً ومجتمعيا ً يجيب عن التساؤل
الهام الذي يتلخص في:

ما هي مشروعية العمل للدين من خلال التنظيمات السرية؟!!

وهل هناك جدوى حقيقية من العمل السري؟!!

– بداية قد يعجب كثير من الشباب بفكرة العمل السري ذاكرا ً
إيجابيات تدور حول الانضباط العسكري فيه.. ومزاياه من وحدة الصف وقلة الاعتراض
وسرعة الاستدعاء والتلبية وحسن أداء المهام والتدقيق في تلقيها.

وقد يعجبه الاهتمام بانتقاء أفراده واستعصائه على الاختراق.. وبشدة
ارتباط أفراده بالعمل والفكرة.. نظرا ً لأنه لا يقبل الانتماء للعمل السري بما فيه
من مخاطر إلا من عنده استعداد لتحملها.. أو يظن به ذلك .. ومن لديه استعدادا ً
للتضحية.

– وهي أشياء قد يحتاج إليها بهذا الاهتمام الجيوش النظامية للدول
أو حركات التحرر الوطني مثل كتائب عز الدين القسام أو شهداء الأقصى فيضطرون إلى
تحمل السلبيات  لحاجة الحرب وأولوية العمل
القتالي لتحرير بلاد المسلمين ورد الغاصبين عنها.. وهو واجب وفرض عين على كل
المسلمين ويحتاج إلى السرية المطلقة.. وهو لا علاقة له بحديثنا اليوم. 

– أما العمل لإقامة الدين فإن حاجته تنصرف إلي أشياء أخرى أكثر
أهمية.. وهذه الإيجابيات أو الأشياء قد توجد في العمل العلني بصورة أقل بعض
الشيء.. ولكنها هي ما يحتاجه الداعية والمربي والمجاهد المسلم عامة.. ولا يحتاج
إلى أكثر من ذلك.

– أما عن الآفات فهي أكثر وأوسع من أن نقارنها بما أشرنا إليه مما
يتصوره البعض من إيجابيات قد تكون في حد ذاتها أضر على الدعوة من فائدتها.

ولنبدأ حديثنا بالآفات التربوية للعمل السري في بلاد المسلمين

1. الوقوع في بعض المخالفات الشرعية

العمل السري يستلزم في إدارته وحاجة أفراده للتخفي كثيرا ً من
المخالفات الشرعية.. كترك الهدى الظاهر والكذب لإخفاء الأعمال التنظيمية..
والمراوغة والخداع وإظهار ما يخالف الباطن.

– وهي أشياء مع تكرارها واعتيادها توهن المعصية في القلوب وتضعف
الالتزام بالدين.. وتخفف من تمسك الفرد بالطاعات وتضعف من تمسكه بالدين.. حتى تصبح
المعصية إلفا ً يراها الأخ فلا ينزعج منها.. ويفعلها فلا يحزن لفعلها.

ولقد رأيت أحد الإخوة يتسلى بالحديث مع أحد رجال الأمن فيكذب عليه
في أمور عادية لا حاجة للكذب فيها.. ويسأل عن ذلك فيجيب “أوليس يجدر الكذب
على الأعداء”.. لقد ألف الكذب حتى صار يكذب حتى دون حاجة للكذب.

وشاهدت آخر يدخن السجائر فسألته فقال “إنها وسيلة للتخفي وعدم
لفت الأنظار”.. وكأن التخفي لا يصلح إلا بالمعصية إن كان ثمة حاجة له أصل.

وهكذا صارت المعصية بشدة إلفها عادة جزءً من السلوك العادي.. وتفعل
دون حرج بحجة الحاجة التنظيمية لها.

2. الحرمان من التربية الجماعية في المساجد وغيرها:-

في العمل السري يحرم الأفراد عادة من التربية الجماعية وذلك حفاظا
ً على السرية.. فيحرم هؤلاء جميعا ً من الاجتماع على قيام الليل وصلاة الجماعة
والاعتكافات ومجالس  العلم والذكر وغيرها..
وهذا يوهن ارتباط الأفراد بالجماعة المسلمة.. بل وبالدين نفسه.

– فالدين عندنا نحن المسلمين عمل اجتماعي جماعي يربط أفراده بعضهم
ببعض من خلال الحب في الله والنشاط الجمعي.. والحرمان من العمل الجمعي يضعف رابطة
الحب في قلب الأخ.. ويوهن ارتباطه بالمجتمع المسلم.. فينمو منغلقا ً يحل التنظيم
في نفسه محل الجماعة والمجتمع المسلم ككل.. فينشأ فيه التعصب للرأي الواحد وضيق
الأفق والأنانية.. وعدم قبول الآخر.

– وقد عانت كل التنظيمات التي مارست العمل السري من هذه الآفة..
ومن مشاكل التعصب من خلاف وتمزق وانشقاق.. وقلة الحرص على روح الاجتماع والحب وعدم
قبول الآخر.

3. نشأة التشوهات الفكرية:-

إن من أخطر الأشياء التي تنشأ عن العمل السري التشوهات الفكرية
التي تنشأ عن الانغلاق الفكري.. فالحوار العام واللقاءات العامة والمدارس العلمية
وملاقاة العلماء والسماع منهم تضبط الفكر وتصحح المسار المنحرف وتكشف الأخطاء
وتصححها بالمناقشة والحوار المستمر الذي يثري العقل ويمحص الفكر ويطور الإنسان إلى
الأفضل والأحسن ويوسع أفقه.. وحتى عندما تفشل في التصحيح فإنها تكشف هذا الخلل
للآخرين وتعزل المنحرف.

– أما اقتصار الحوار على المجموعات التنظيمية الصغيرة – الخلية –
وتدارسها هكذا مع نفسها.. ونقاشها منفصلة عن المجموع وعن العلماء بأنواعها.. فإنه
يجعل لتلك المجموعة أو الخلية رأيا ً خاصا ً قد يخالف رأي المجموع مهما احتطنا
لذلك.. ويتبلور بعيدا ً عن رأي القيادة وعينها وعين المجتمع.

– بل قد يتحول هذا الرأي إلي موقف يختلف عن مواقف المجموع وسياسة
الجماعة.. فتتحول هذه الخلية إلي جيب فكري متمرد.. لها فكرها ومواقفها التي تنبع
منها.. خاصة بين الشباب حديث السن قليل العلم سريع التقلب شديد الحماسة.. الذي لا
يعرف من الألوان إلا الأبيض والأسود.. ويتعامل بحدة مع ما يراه خطأ.. وبصورة يصعب
ضبطها أو التحكم فيها.

4. ضعف الولاء العام للمسلمين والمجتمع:-

تعمق السرية ونظام الخلايا الصغيرة روح انتماء الأفراد لهذه
الخلايا وقيادتها الجزئية بما تمارسه هذه القيادات من التفرد بإدارة شئون المجموعة
في حاجاتها حفاظا ً على السرية.

وهذا يضعف بمرور الوقت من الولاء العام للمسلمين وللمجتمع المسلم
وللجماعة بعمومها لصالح هذا الانتماء الجزئي والفرعي.

– وهكذا وعند أول خلاف بين تلك القيادة الفرعية والجزئية وبين القيادة
العامة أو المجتمع يحدث التمزق والانشطار.

إذ يتحول الانتماء للمجموعة الصغيرة وللمسئول الفرعي أو الجزئي
بدلا ً من الولاء العام للإسلام وللمسلمين ككل.. وللجماعة المسلمة.

وهي مشكلة التمزقات التي عانت منها كل الجماعات التي اتخذت من
العمل السري وسياستها فصنعت داخلها ولاءات متعددة ومتنوعة.. كثيرا ً ما كانت تطغي
على الولاء العام.

5. تضخم الذات والغرور:-

وهو أحد هذه الآفات المنتشرة في التنظيمات السرية.. وذلك أنه كثيرا
ً ما يكون في تكوينات البرامج التي يعد بها أفراد خلايا التنظيم إشعارهم بأنهم
إنما يقومون بعمل متميز عن غيرهم.. وأنهم أفراد قد تم اختيارهم من بين الناس
لصلاحيتهم لعمل لا يصلح له غيرهم.

– بل وكثير ما يكون التبرير للعمل السري بما فيه من مخاطر وأضرار
هو الانتقاص من فائدة وجدوى العمل العلني وما يحويه من دعوة وتربية وعمل اجتماعي
وغير ذلك.

وأنهم إنما ينعزلون عن هذا العمل لأنه كلام فارغ لا جدوى من
ورائه.. فيبدأ إحساس هؤلاء الأفراد بتضخم الذات والشعور بالتميز والاستهانة
بالآخرين.. حتى ولو كانوا علماء أو قادة.

 – ومع تزايد هذا الإحساس
يزداد شعور الواحد منهم بصواب منطقه وأفضلية آرائه على غيره.. محتكرا ً اجتهادات
وآراء الآخرين ومزدريا ً لأفكارهم وعملهم.. فتحدث العزلة الشعورية عن المجتمع
ويتولد لديهم الإحساس بالاستعلاء عليهم وهو استعلاءً في غير موضعه ولا مبرر له في
الحقيقة.

– وهذا الغرور ينتج كثيرا ً من التصرفات الشاذة الخارجة على
المجتمع والمنفردة دون الرجوع للقيادة الأساسية للجماعة أو لأهل العلم لضبطها أو
توجيهها.. وما حاجتهم إلي التوجيه والضبط.. وهم أميز وأفضل وأنقى العاملين للدين.

وهكذا تحولت التنظيمات السرية الجهادية إلي قنبلة انشطارية ..
تنقسم إلي مجموعات صغيرة تحوي من القادة والأمراء أكثر مما تحوي من أفراد.. كلهم
يرى نفسه على صواب وكل الناس على خطأ.. ماداموا يخالفونهم الرأي.. وقد يتصور بعضهم
أنهم محور الكون وأكثر من فيه فهما ً وإدراكا ً.

وهذه المشاكل يحلها العمل العلني بالاختلاط بالناس والحوار والنقاش
ومجالس العلماء والقادة وأهل الفضل.. مما يضع كل شخص في مكانه وحجمه.. ويعالج ما
يطرأ عليه من آفات أولا ً بأول قبل استفحالها.

6. الشعور بأن عملهم هو الأولى بالرعاية:-

– من أخطر ما يعاني منه من يمارس العمل السري هو إحساس أفراده
نتيجة ما سبق الإشارة إليه أن عملهم وأشخاصهم هم الأولى بالرعاية والاهتمام والأحق
بالبقاء والحماية.. وأن من عداهم ليس كذلك.

وهو إحساس يجعل من تنظيمهم في نفوسهم غاية.. وليس وسيلة لتحقيق
غاية.

وعليه فإنه يسهل عليهم انتهاك كل شيء.. ووطأ أي أحد أو جماعة
يعتقدون بالحق أو بالباطل ضرره على تنظيمهم.. بغض النظر عن شرعية موقفهم.. هذا إذ
أن الشرعية عادة عندهم هي ما يستمدونه من رأيهم واجتهادهم إذ أنهم ممنوعون من لقاء
العلماء والمربين والقادة وسؤالهم عما يعتمل في نفوسهم.

– وقد شاهدنا مقتل أناس لأنهم أضروا بالتنظيم أو بأفراد منه.. أو
صاروا من وجهة نظرهم خطرا ً عليهم.

وبالتحقيق في هذه الأحداث لم يكن ثمة مبرر شرعي كاف لتبرير ما حدث
إلا الإحساس بالخطر أو بالضرر.

وهذا يعني أنهم يجسدون الإسلام في أنفسهم والإحساس الداخلي بأن من
عاداهم أو خالفهم أو أراد الإضرار بهم إنما هو يعادي ويضر الإسلام والدين نفسه.

وبعد..

– هذه بعض الآفات التربوية التي تنشأ كثيرا ً نتيجة العمل السري..
والتي قد يوجد بعضها أو كلها ثمرة طبيعية له.

وأنا أدعو إخواني من أصحاب التجربة الثرية والطويلة إلى مشاركتي
فيها.. لنستفيد جميعا ً من النقاش والأخذ والرد في هذه المسائل الهامة حسبة لله
سبحانه وتعالى.

ونسأل الله القبول

التعليقات

موضوعات ذات صلة