القائمة إغلاق

ما عمت به البلوى

 

بقلم / الشيخ أسامه حافظ 

هي أحدي قواعد التيسير العبقرية التي تميزت بها شريعتنا الغراء.. ولقد اجتهدت أن أجد كتابا عند علمائنا السابقين تخصص في الحديث حول هذا الموضوع فلم أجد وإنما هي على عادة القدماء من علمائنا شذرات منتشرة في فتاواهم وأبحاثهم لم يسع أحدهم أن يجمع هذه الشذرات في نظرية عامة أو قاعدة جامعة وكان هذا حافزا لبعض شباب الباحثين ليجتهد في جمع هذه الشذرات للخروج بنظرية عامة حول هذا الموضوع ومنها اختصر مبسطا هذا المقال.

فعموم البلوى هو “شمول وقوع الحادثة ـبحيث يعسر احتراز المكلفين أو استغناؤهم عن العمل بها الا بمشقة زائدة تقتضي التيسير والتخفيف.. أو يحتاج جميع المكلفين ـ أو كثرتهم ـ إلي معرفة حكمها.

فهي بهذا قاعدة فقهية يستشهد بها الفقهاء لبيان أحكام طارئة ـ حسب الظروف الزمانية أو المكانية ـ لبلاء عام.

وعليه فإن عموم البلوى طبقا لهذا التعريف يظهر في موضوعين:

الأول: مسيس الحاجة في عموم الأحوال بحيث يعسر الاستغناء عنه إلا بمشقة..

الثاني: شيوع الوقوع والتلبس بحيث يعسر على المكلف دفعه عنه..

فهو كما هو ظاهر منضبط بأمرين عموم البلاء ومشقة الاحتراز.

وقد استدلوا على هذا القاعدة بأدلة كثيرة نسوق منها:-

حديث المرأة التي اشتكت للنبي ـ صلي الله عليه وسلم ـ أن طريقهن للمسجد طريق منتنة تزداد بنزول المطر فقال ـ صلي الله عليه وسلم ـ “أليس بعدها طريق أطيب منها”.

إنه ـ صلي الله عليه وسلم ـ كان يلبس من ثياب أهل الكتاب ويأكل في أنيتهم من طعامهم دون سؤال أو بحث عنها.

هم عمر ـ رضوان الله عليه ـ بالنبي عن ثياب كانت تصبغ بالبول لولا أن أبي بن مالك أعترض بأن النبي ـ صلي الله عليه وسلم لبسها ولم ينه صحابته عن ذلك.

وغير ذلك من أدله كثيرة تبين كيف أن التخفيف كان مصاحبا لانتشار البلوى بين الناس.. ولا يخفي أن هذا الانتشار وهذه الغلبة التي تصلح عذرا في الأحكام ليس المراد بها الغلبة المطلقة إنما يكفي ـ كما يقول الغزالي ـ أن يكون الاحتراز أو الاستغناء عنها فيه مشقه وصعوبة نظرا لاشتباهه بغيره من الحلال والمباح واختلاطه به وامتزاجه معه بحيث يصعب الانفكاك منه كما هو ظاهر في بعض صور النجاسات والمستقذرات واختلاط الأموال.

وقد وضع الفقهاء شروطا لضبط هذه القاعدة بعيدا عن غلو يحرم المسلمين فائدتها ويضيق عليهم.. وتفريط يحل الحرام ويضيع الحدود وأهم هذه الشروط:-

1. أن يكون عموم البلوى متحققا لا متوهما.

2. ألا يعارض نصا شرعيا.

3. أن يكون عموم البلوى من طبيعة الشيء وشأنه وحاله.

4. ألا يكون معصية ظاهرة.

5. أن يكون الترخص بقدر الحاجة مقيدا بها وجودا وعدما.

وخلاصة ذلك أن عموم البلوى يقتضي التخفيف فيما ليس حراما مقطوعا بحرمته أو يحظي بإجماع يقيني.

فقد كان الفقهاء القدامى يخففون في مثل هذه الأشياء مثل قبول فقهاء الأندلس شهادة عاري الرأس بعد أن كانوا يردون شهادته لانتقاء مروءته نظرا لانتشار كشف الرأس بين مسلمي الأندلس لاحتكاكهم بالأسبان هناك ونسوق بعضا من الأمثلة المعاصرة التي تعرض لها العلماء المعاصرون كنماذج تطبيقية لهذه القاعدة:-

1. استخدام التقويم في تحديد مواعيد الصلاة.

2. الطواف في الأدوار العليا من الحرم.

3. بيع المعلبات المغلقة دون الاطلاع على ما بداخلها.

4. الحكم باستخدام بعض القرائن الحديثة مثل البصمات وتحليل D.N.A .

5. إطالة الثياب في غير مخيلة.

6. قبول شهادة حالق اللحية المعروف بالصدق والعدالة.

7. مشاهدة التليفزيون والاستفادة مما يبثه من مفيدات وعدم الإعراض عنه للقول بحرمه الصور.

8. عمل المرأة وحاجة المجتمع إلي اقتحامها كثيرا من المجالات التي تحتاج لوجودها استئناسا بقصة ابنتي شعيب وعدم تغليب خوف الفتنة كسبب لمنعها من ذلك واقتصارها على البيت.

9. مشاركة المرأة في حاجات البيوت وعدم الاقتصار على الرجل لعموم البلوى بمصاعب المعيشة التي قد يعجز الرجل عن سد الاحتياجات الضرورية وحده.

10. نقل الأعضاء والاضطرار أحيانا لشرائها لإنقاذ حياة مريض أو علاجه من حالة مستعصية.

والحق أن هذه القاعدة عانت كثيرا من فريقين فريق توسع فيها حتى أحل بها المحرمات المقطوع بها والمنصوص عليها متذرعا بعموم بلواها وانتشارها وهذا خطأ كبير إذ انتشار الحرام المجمع عليه لا يعطيه مشروعية مهما انتشر وعمت به البلوى.

وفريق أخر بالغ في منع استعمالها حتى في المسائل التي لا نص فيها ولا إجماع والتي يسبب التشدد فيها حرجا بالغا للأمة ومشقة لا تخفي على الناظر.

والقاعدة وسط بين الفريقين تيسر وترفع الحرج بشروطها وتكشف عن عظمة شريعتنا الغراء في التعامل مع الواقع المتغير بكل ما فيه من متغيرات بالطريقة التي تحفظ مقاصد ومصالح الشريعة وتحميه من المفاسد.

التعليقات

موضوعات ذات صلة