بقلم الشيخ / أسامة حافظ
بهذه العبارة العبقرية صاغ الفاروق عمر طبيعة العلاقة بين الولاة ورعيتهم ممن وافقوهم أو خالفوهم .. الكل في بلاد الإسلام أحرار سواسية تنتهي حريتهم أمام الشريعة والقانون .. يستوي في ذلك كبيرهم مع صغيرهم ..وعظيمهم مع حقيرهم .. وأسيادهم مع مواليهم .. المساواة والعدل هما القيمة العظمي التي قامت عليهما شرائع الإسلام بل وشرائع السماء جميعا .
وقصة هذه العبارة كما يحكيها كتاب السير ( ابن عبد الحكم في فتوح مصر والكندهلوي في حياة الصحابة وابن الجوزي في سيرة عمر والأبشيهي في المستطرف وغيرهم ) أن مصريا سابق ابن والي مصر وفاتحها عمرو بن العاص فسبقه فأغضبه ذلك فعلاه بالسوط وهو يقول ( أتسبق ابن الأكرمين )
هي مجرد أسواط ضربها ابن الوالي الفاتح المنتصر لرجل من رعيته لم تذكر الكتب له اسما أو مكانة وإنما هو كما يبدو مجرد رجل من عامة الناس حدث معه ما حدث وما أكثر ما يحدث ذلك
ولكن الرجل – ويا للعجب – حمل ظلامته وانطلق يقطع الفيافي حتي وصل إلي المدينة ليشكو الوالي في هذه الأسواط إلي عمر
ويزداد عجبنا ونحن نري عمر رضوان الله عليه يرسل في استدعاء واليه ليحاسبه علي هذه الأسواط
ويحضر عمرو ومعه ولده فيعطي عمر السوط للرجل ويقول له ” اضرب ابن الأكرمين ” .. يقول انس راوي الحديث ” لقد ضربه وكلنا يشتهي أن يضربه ” فكلهم يكره الظلم ويحب العدل ويضرب الرجل ويضرب حتي قال انس ” فلم ينزع حتي أحببنا أن ينزع من كثرة ما ضربه ” وعمر يردد ” اضرب ابن الأكرمين ” حتي قال الرجل ” لقد استوفيت وشفيت “
ثم تأتي القصة إلي الدستور العمري بل الإسلامي يقوله عمر لواليه بعد أن فعل به ما فعل ” متي تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا “
والحق أنني وأنا أقرأ هذه القصة لم أتعجب فقط من عدل عمر الصارم رغم انه تربي في مجتمع العرب الذي يتغني بقول شاعره زهير ” ومن لا يظلم الناس يظلم ” .. ولم أتعجب أيضا من عدم انحيازه إلي واليه ليسكت المصري أو حتي يسترضيه بصورة أو بأخرى رغم انه رضي الله عنه تربي في مجتمع يباهي بقول شاعره
لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات علي ما قال برهانا
نعم فسمعة الفاروق في عدله وتجرده وبعده عن مثل هذا الانحياز الأعمى أعظم من أن يظن به مثل ذلك .. وإنما العجيب في هذا أمران آخران :
الأمر الأول في ذلك : المصري الذي يسافر كل هذه المسافة في الصحراء القاحلة ليأخذ حقه في بضعة أسواط ضربها رغم أنه وقبل سنوات قلال كانت بلاده ترزح تحت حكم الرومان بكل ما يحكي عنهم من ظلم وجبروت .. كيف شفيت آثار سياط الرومان عن جسده وقومه وكيف جفت الأرض من دمائهم وكيف استعاد هو وسكان البلاد المفتوحة كبرياءهم واعتزازهم بأنفسهم في هذه السنوات القلال رغم السنين الطوال التي عاشوها في القهر والذل .. بل كيف تحول المجتمع هذا التحول العجيب بهذه السرعة .. لقد احتاج بنو إسرائيل ورغم وجود نبي الله موسي بينهم إلي أربعين سنة يتيهون فيها في الأرض لكي تذهب من نفوسهم آثار ما عاشوه من ذل ويوافقوا علي دخول الأرض المقدسة فكيف صار شعب مصر بهذه العزة والكبرياء ورفض الضيم حتي أن الرجل لم يرتض الذل وأبي إلا أن يبحث عن حقه ويسعى في طلبه.
أما الأمر الآخر وهو أعجب من سابقه .. كيف اكتسب حكام الإسلام هذه الثقة بين رعيتهم من البلاد المفتوحة في عدلهم وإنصافهم رغم ما ألفوه من حكامهم قبل ذلك وعبر السنين الطوال من قهر وظلم وعسف .. وكيف صدق ذلك المصري عن قوم حاربوا أهله وفتحوا بلاده عنوة أن شريعة المنتصر في دينهم هي العدل والإنصاف بينما ألف الناس علي مر التاريخ أن شرعة المنتصر هي ” ويل للمغلوب “.
كيف صدق الرجل أنه إذا ضرب أكباد الإبل كل هذه المسافة ليذهب إلي عمر أنه سينصفه وسيرد له حقه وممن من واليه الفاتح المنتصر القائم علي أكبر أمصار الدولة الفتية .. وكيف لم يتصور الرجل أن ينتصر الخليفة لواليه علي هذا النكرة المجهول ليحفظ هيبة واليه بين الرعية فيصده أو يطرده أو حتي يسترضيه بصورة أو بأخرى ليس بينها أن يقتص من ضاربه.
كيف وثق الرجل في حكامه الجدد بهذه السرعة بينما لم ير من حكامه السابقين إلا أسوأ ما يري الإنسان من حكامه حتي أن الرومان في حصن بابليون لما أمهلهم المسلمون ثلاثة أيام للجلاء عنه أضاعوا منها يوماً كاملاً ليستخرجوا فيه المصريين المسجونين لديهم ليقتلوا ويصلبوا ويقطعوا الأيدي والأرجل ليتركوا بصمتهم عليهم قبل انصرافهم.لقد غير الإسلام الناس فاعتزوا بكرامتهم وطالبوا بحقوقهم وغير علاقتهم بحكامهم فصاروا يثقون فيهم وينتظرون منهم العدل والنصفة وبمثل هذه الشعوب وهؤلاء الحكام قامت دولة الإسلام طوال هذه القرون
متي تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً

التعليقات