القائمة إغلاق

جهودصلاح الدين في نصرة الشريعة:

د/ أحمد زكريا

إزالة الدولة الشيعية الفاطمية من مصر: كان نور الدين محمود يرى إزالة الدولة العبيدية الشيعية هدفًا استراتيجيًّا للقضاء على الوجود النصراني، والنفوذ الباطني في بلاد الشام؛ ولذلك حرص على إعادة مصر للحكم الإسلامي الصحيح، فوضع الخطط اللازمة وأعد الجيوش المطلوبة، وعيَّن الأمراء ذوي الكفاءة المنشودة؛ فتمم الله له ما أراد على يد جنديه المخلص صلاح الدين الذي نفذ سياسة نور الدين الحكيمة الرشيدة. وقد بدأ في إرجاع مصر للخلافة السنِّية العباسية متدرجًا في تنفيذ هدفه النبيل، والذي اشتاقت إليه نفوس المسلمين، فعزل قضاة مصر الروافض العبيديين، وأسند أمر القضاء إلى عبد الملك بن درباس الشافعي، وقطع الأذان بـ”حي على خير العمل”، وأقام الخطبة للخليفة العباسي بعد أن انقطعت الخطبة للعباسيين بمصر 208 سنة، وبشر نور الدين محمود الخليفة العباسي بذلك، وفرح الناس، وقضى صلاح الدين على كل المحاولات الفاشلة لإرجاع مصر للخلافة العبيدية، وأحسن إلى الرعايا إحسانًا كثيرًا (الدولة الفاطمية، علي محمد الصلابي، ص(115)). وقد مدح علماء أهل السنَّة وفقهاؤهم وحكامهم هذا الفعل الجميل لصلاح الدين؛ ألا وهو القضاء على دولة العبيديين الرافضية الباطنية، وأكثر الشعراء القصائد في مدح صلاح الدين؛ فقال بعضهم:

ألستم مزيلي دولة الكفر من بني * * * عبيد بمصر هذا هو الفضل 
زنادقة شيعية باطنية مجوس * * * وما في الصالحين لهم أصل 
يسرون كفرا يظهرون تشيعاً * * * ليستتروا شيئاً وعمهم الجهل

 (البداية والنهاية، ابن كثير، (12/288))

جهاد الصليبيين وتحرير بيت المقدس: وبعد أن استقرت أمور البلاد والعباد في مصر، وأزيلت البدعة، وأحييت السنَّة، وأميتت الفتنة، وانتقل نور الدين إلى ربه الغفور الرحيم، آل الأمر إلى صلاح الدين بعد فتن استطاع أن يقضي عليها، ووحد بلاد الشام ومصر تحت زعامته الفتية، وشرع في تنفيذ الأهداف المرسومة للدولة النورية. وكان من أهداف نور الدين العظيمة تحرير ديار المسلمين من النصارى وتحرير بيت المقدس، حتى إنه هيأ منبرًا عظيمًا لهذه الغاية، ولكنه مات قبل تحقيق هذا الهدف الغالي الذي ادخره الله لصلاح الدين، فعزم صلاح الدين على مواصلة حركة الجهاد المقدس، وفك الحصون والمدن من النصارى بالقوة بخطة واضحة محكمة، فانتصر على الفرنجة في موقعة “مرج العيون” سنة 575 هـ وموقعة “بانياس” وأسر رؤساءهم ودمر حصن الأحزان في صفد، وما زال يناوش الفرنجة وينتزع منهم الحصون حصنًا بعد حصن حتى تجمع عنده جيش كبير في سهل حطين، حيث كانت الموقعة الكبرى التي كسرت عظام الصليبيين ومهدت لفتح القدس. معركة حطين: وكانت موقعة حطين سنة 583 هـ، وركب الصليبيين النصارى غم وهم وحزن ورعب، وزحفت جيوش الناصر صلاح الدين تحرر مدن المسلمين، وتذل النصارى الحاقدين، وتخلص أسرى المسلمين من الأسر الذي طال أمده. وقد بدأت بشائر تلك المعركة المباركة بزحف جيوش صلاح الدين نحو بيت المقدس، الذي استمر ثنتين وتسعين سنة تحت سيطرة النصارى الحاقدين، وضربت جيوش الناصر صلاح الدين الحصار المحكم على بيت المقدس واستمر حصارها. وبعد اشتداد الحصار على النصارى؛ طلبوا الأمان ونزل ملك بيت المقدس يترفق السلطان وذل ذلًا عظيمًا، فأجابهم صلاح الدين، ودخل المسلمون القدس ووفوا بالصلح المضروب مع النصارى، وشرعوا في تنظيف المسجد الأقصى مما كان فيه من الصلبان والرهبان والخنازير، وأعيد على ما كان عليه زمن المسلمين، وغسلت الصخرة بالماء الطهور، وأعيد غسلها بماء الورد والمسك الفاخر، وأبرزت للناظرين، وقد كانت مستورة مخبوءة عن الزائرين، ووضع الصليب عن قبتها وعادت إلى حرمتها، وامتن السلطان صلاح الدين على بنات الملوك ومن معهن من النساء والصبيان والرجال، ووقعت المسامحة في كثير منهم وشفع في أناس كثير فعفا عنهم، وفرق السلطان جميع ما قبض منهم من الذهب في العسكر، ولم يأخذ منه شيئًا مما يُقتنى ويدخر، وكان رحمه الله كريمًا مقدامًا شجاعًا حليمًا. ثم عقد معاهدة مع النصارى، وكانت بنود الصلح التي تمت بين صلاح الدين والنصارى: “أن يسمح لهم بالخروج لمدة أربعين يومًا، يدفع الرجل منهم عشرة دنانير، والمرأة خمسة، والولد اثنين، ومن لم يستطع ذلك فهو أسير”. إلا أن السلطان صلاح الدين تجاوز بند المعاهدة وعامل الصليبيين معاملة عطف ورحمة وإحسان، ليعطي للبغاة المعتدين، والملوك المستبدين الظالمين والصليبية الحاقدة على الإسلام والمسلمين النموذج الطيب، والقدوة الصالحة في السماحة والعدل والعفو عند المقدرة. فأعطى للنصارى العاجزين الذين تركهم أمراؤهم ولم يجدوا من يعينهم أعطاهم أموالًا ودواب لتحمل أثقالهم إلى ما يريدون. وأذن السلطان صلاح الدين لرجال الدين والناس كافة أن يحملوا معهم ما شاءوا من المتاع والأموال، فأخذوا ما شاءوا دون أن يعترضهم معترض، تاركين ما لا قِبل لهم بحمله، فابتاعه المسلمون منهم (يراجع: البداية والنهاية ابن كثير، والروضتين في أخبار النورية والصلاحية، أبو شامة المقدسي، والدولة الفاطمية، علي محمد الصلابي).

وفاته: كانت وفاته في عام 589هـ، وتذكر كتب التاريخ أن أهل دمشق لم يصابوا بمثل مصابه، وود كل منهم لو فداه بأولاده وأحبابه وأصحابه، فعندما كان يُقرأ عليه القرآن وهو في سكرات الموت مر القارئ على قوله تعالى: {هُوَ اللهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الحشر: 22]. فقال صلاح الدين رحمه الله: (وهو كذلك صحيح)، فلما أذن الصبح جاء القاضي الفاضل فدخل عليه وهو في آخر رمق، فلما قرأ القارئ: {لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} [التوبة: 129]. تبسم وتهلل وجهه وأسلم روحه إلى ربه سبحانه، ومات رحمه الله وجعل الجنة مثواه، وكان له من العمر سبع وخمسون سنة، ثم أخذوا في تجهيزه وحضر جميع أولاده وأهله، وكان الذي تولى غسله خطيب البلد الفقيه الدولعي، وكان الذي أحضر الكفن ومؤنة التجهيز القاضي الفاضل من صلب ماله الحلال، وأمَّ الناس عليه ابن الزكي، ثم دفن في داره بالقلعة المنصورة في دمشق، ونزل ابنه الأفضل في لحده ودفنه وهو يومئذ سلطان الشام. ويُقال: إنه دفن معه سيفه الذي كان يحضر به الجهاد، وذلك عن أمر القاضي الفاضل، وتفاءلوا بأن يكونه معه يوم القيامة يتوكأ عليه، حتى يدخل الجنة إن شاء الله (البداية والنهاية، ابن كثير، (5/12)). ويصف القاضي ابن شداد لنا ذلك المشهد المريع إذ يقول: “وكان يوم موته يومًا لم يصب الإسلام والمسلمون بمثله بعد؛ فقد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وغشي القلعة والمُلك والدنيا وحشة لا يعلمها إلا الله تعالى، وبالله لقد كنت أسمع الناس أنهم يتمنون فدا من يعز عليهم بنفوسهم، وكنت أتوهم أن هذا ضرب من التجوز والتخرص إلى ذلك اليوم، فإني علمت من نفسي ومن غيري أنه لو قُبل الفداء لفدي بالأنفس” (النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، ابن تغري بردي، (6/52)

هذا هو الأسد المجاهد الذي تتطلع الأرحام الزكية لحمله،وتتوق النفوس الأبية لرؤيته,ولم تعقم الأمة عن إنجابه،وليمت الجبناء السفهاء بغيظهم.

التعليقات

موضوعات ذات صلة