بسم الله الرحمن الرحيم
بقلم فضيلة الشيخ: إسماعيل محمد
من مفردات اللغة : الأسماء والأفعال والحروف ، يشكل المتكلم عباراته ويعبر الكاتب عن معانيه ويجسد الشاعر عالمه الخاص فتتحول المفردات الجامدة إلى تجربة وأحاسيس وانفعالات دافقة ولكن الشعر اليوم يمر بمحنة لا تخفى على متابع فالعلاقة بين الشعراء والقراء انقطعت منذ عقود واختص كل شاعر بمفرداته ورموزه وصارت القصيدة أشبه بهذيان محموم ولم يعد النقد يمتلك أدوات للتقييم ولهذه المحنة جذورها المتشعبة : بدأت بالتخلي عن خصوصيتنا وهويتنا وإتباع الغرب رغم أن العرب تميزوا منذ الأزل ببلاغتهم ونضج لغتهم وغزارة مفرداتها ولها ثمراتها متنوعة المرارة :
بعض الشعر يبذل غاية جهده في توفيق مفرداته على قواعد النحو والعروض حتى إذا أتم توفيقها صارت كلماته ميتة وأحاسيسه وعواطفه متيبسة جامدة ومعانيه متكررة متشابهة ولا جدال أن رص القوافي والأوزان قد تدنى بصورة كبيرة لاسيما في آخر قرنين قبل أن يعيد البارودي ومن سار على هديه إلى الشعر رونقه القديم فمن يملك أن يحذو حذوه فقد أحسن وأجاد ، بينما ينشغل بعضه الآخر في تنفيث تجربته ولا يحفل بما يبلغ المتلقي من معانيها وحسب معانيها أن تطربه هو، وبعض الشعر من يتعامل مع قصائده كأنها فئران معمل فإن قيل قصيدة التدوير دورها وإن قيل الرمز رمزها وبعض الشعر يحتفظ بنفس تعبيرات الأولين فعنده الخيل والليل والبيداء والسيف والغزال ، ومن الشعر مالا يقيم نحواً ولا عروضاً وليس هذا من الشعر في شئ وسواء اعتبر القواعد قيوداً يجب التخلص منها أم عجز عن الالتزام بها فلا ينبغي أن يعد نفسه في الشعراء حتى يحسن أدواته ، إنما الشعر ما تحركت له عاطفة المتلقي بنفس ما أودعه الشاعر فيها وخلصت مفرداتها لابتكار الشاعر ، والشاعر من يمتلك أدوات فنه في لغته من مفردات وقواعد نحوية وعروضية وبلاغية فيجسد من خلالها كل ما يعانيه من تجارب وأحاسيس في خط إبداعي متصاعد يصل بك إلى قمة التأثر والمشاركة الوجدانية ولا يعيبه هاهنا أن يمزج التراث بألوان العصر ولا أن يدس الخيال في ثنايا الواقع ولا أن يرسم المستحيل أمام عينيك كأن واقع طالما أنه يوظف ذلك كله لخدمة فكرته ونقلها حية إليك والشاعر حين يختزن تجربته بكل فورانها ثم ينقلها في إتقان إلى كلمات وحروف” دون أن يتوقف على سواحل الأبيات الأولى ثم تراه ينحت الصخر ليتمها فتخرج جنيناً مبتسراً حسب تعبير أحد النقاد “إنما عليه أن يتأنى حتى تنضج تجربته ويسيل عسلها وينبغي للشاعر أن يسأل نفسه عما أراده وهل به نفس التجربة التي تألم فيها وهل تصاعدت فكرتها مع تتابع أبيات القصيدة فإن هو نجح في ذلك فقد أجاد وإلا فهو معاناة تضاف إلى الشعر وفي الشعر على مر الأجيال تجارب خلدها الصدق وعاشت في قلوب المتلقين سنين كأزهى ما تكون التجربة ولك أن تترنم معي بهذه الأبيات وتفيض على قائلها مثلي مديحاً وثناءً :
نم يا صغيري إن هذا المهد يحرسه الرجـــــــاء
من مقــــــلة سهرت لآلام تثور مع المســــــــــاء
أشدو بأغنيتي الحزينة ثم يغلبني البكاء
وأمد كفــــي للـســماء لأستحث خــــطى السماء
نم لا تشاركني المرارة والمحن
فلسوف أرضعك الجراح مع اللبن
أو اسمع لرائعة أمل دنقل التي يصف فيها تجربة رؤية بنت الفتاة التي كان يتمنى أن يتزوجها وقد
رأى طفلتها فقال يناجيها :
لا تفري من يـــدي مختبئة خبت النار بجوف المدفــــــأة
أنا لو تدرين مـن كنت له طـــفلة لولا زمــــــان فجــــــأه
كان في كفي ما ضيـــعته في وعــود الكلمات المرجـــأة
كان في جنـــبي لم أدر به أو يدري البحر قـدر اللــــؤلؤة
إنما عــمرك عمـر َضـــــــائع من شبابي في الدروب المخطئة
كلما فزت بعام ، خــــــسرت مهجتــي عاما …… وأبقت صدأه
ثم لم نحمل من الماضي سوى ذكريات في الأسى مهترئة
نتعزى بالدجى ، إن الدجى للذي ضــل منـــــــاه….. تكأة
أو رائعته : ” البكاء بين يدي زرقاء اليمامة “
أيتها النبية المقدسة
لا تسكتي …. فقد سكت سنة فسنة
لكي أنال فضلة الأمان
قيل لي اخرس فخرست وعميت وائتممت بالخصيان
ظللت في عبيد عبس أحرس القطعان
أجتز صوفها …. أرد نوقها
أنام في حظائر النسيان
طعامي الكسرة والماء وبعض التمرات اليابسة
وها أنا في ساعة الطعان
ساعة تخاذل الكماة والرماة والفرسان
دعيت للميدان
أنا الذي ما ذقت لحم الضان
أنا الذي لا حول لي أو شان
أنا الذي أقصيت عن مجالس الفتيان
أدعى إلى الموت ولم أدع إلى المجالسة
***********
إن اتفاق كل الأذواق على روعة هذا الشعر يعني ببساطة أن للشعر جيد وردئ حتى مع اختلاف المدارس والأزمنة وإذا قال المتأخرون أمل دنقل قلنا جميعاً “نعم الشعر شعره “وإن لم يبق على عمود الشعر في كتاباته والحديث عن أوزان الشعر يجرنا إلى الحديث عن تفعيلة الشعر الحر ..إنها فرضت نفسها لأنها الأسهل على الشعراء حتى يتجنبوا الحشو في بناء البيت والاضطرار إلى قافية عاجزة عن مسايرته في أفكاره فظهرت أولا القصيدة ذات التفعيلة متعددة القوافي..ثم تطور الشعر كما سنرى.
والتفعيلة هي مقطع البيت أو لبنته المعروفة يكررها الشاعر في السطر الشعري الذي خلف البيت بحسب المعنى الذي يريده ومن الشعراء من يلتزم تفعيلة واحدة لا يبرحها ومنهم من ينتقل بين أكثر من تفعيلة ومن الشعراء من هجرها بالكلية وهو ما يسمى بالشعر المنثور لكنه إلى اليوم لقيط لم يثبت نسبه للشعر وحجة هؤلاء أن اللغة ملك لنا كما امتلكها آباؤنا ومثلما طور الأندلسيون في شكل القصيدة يحق لنا أن نطور لاسيما و قد أقفرت المواهب وتضاءلت قامات المبدعين؛
وبعدما انبعثت القصيدة على يد البارودي وشوقي وبدأت تستعيد عافيتها – لكن بنفس صور وأخيلة العصور الأولى- فتقرأ عند شوقي عن الريم والسهم وكانت هذه أولى المآخذ عليهم ، وقد حاولت مدرسة الديوان أن تحقق في أشعارها ما قالته نقداً فيمن سبق واجترأت على شكل القصيدة من حيث تنويع القوافي وإمكان التنقل بين بحرين وإحياء ما اندرس من هياكل البحور الشعرية ، كما فعل العقاد… فتراه يرثي مي زيادة بقصيدة رائعة مطلعها ( أين في المحفل مي يا صحاب )وفيها أدخل تعديلا طفيفاً في بناء البحر فانتقص تفعيلة واحدة من أحد أبيات المذهب الذي يتكرر في كل فقرة،
لكنهم فيما عدا ذلك التزموا العمود الشعري بينما طوروا مفردات اللغة لتلحق بزماننا بجهد واضح مميز ، وعلى نفس المسار حاول شعراء المهجر أن يطوروا القصيدة ( لاحظ تأثير القرب من أوروبا في شعر الأندلس وشعر المهجر) وقد أصبح شعر المهجر من الشعر الرومانسي فعددوا القوافي كل أربعة أبيات أو بتربيع القصيدة : للشطرة الأولى من كل بيتين قافية وللشطرة الثانية قافية ، ولم تلبث أبوللو أن دخلت في مضمار التجديد وبذلك تدخل القصيدة طوراً مؤثراً في التجديد لم يقف عند حدود المفردات والشكل بل تخطاها إلى الأفكار والأخيلة والموضوعات فاستلهموا الأساطير من الغرب والشرق وأحيوا المثل وأنطقوا الطير والنبات بل والجمادات وحلقوا في آفاق واسعة من الخيال
ثم جاءت المدرسة الواقعية لتصور انفعالات الناس وتتحمس لمشاكل البسطاء وكانت البداية من العراق ( نازك الملائكة )ومن مصر( صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي)ومن الواقعية نبتت الحداثة ..فكانت القشة التي قصمت ظهر البعير وهي رغم صعوبة توافقها مع تربتنا إذ هي نبتة مستوردة إلا أنها أسهمت بالنصيب الأكبر في غربة الشعر اليوم
الثمرات المرة
(1)غموض الشعر: فالمفردات تتحور بحسب المعجم الذاتي للشاعر والإيحاءات قد تأتي من الغرب أو حتى من التراث الفرعوني أو الإغريقي وعلى المتضرر أن يلجأ إلى دائرة المعارف أو المجمع اللغوي ، وبسبب الأفكار الحداثية عليك أن تكتشف أي الأقنعة يستعملها الشاعر في إيحاءاته وعن أي الأزمنة يتحدث وفي أي البلدان…فمن إطلاقات الشاعر الحداثي أن يتنقل بين أقنعة عدة شخصيات وأن يجوب عبر الزمان والمكان
(2) الإلحاد وامتهان المقدسات : وهذا للأسف صار لازمة حداثية وظاهرة وإن لم تشمل الجميع ، لكنها معلم بارز من معالم الحداثة (أدونيس وأحمد عبد المعطي حجازي مثلا) نعم كان في الشعر منذ البداية ملحدون لكنها صارت ظاهرة في الشعر الحداثي
(3)تبني الدعاوى المناوئة لتراث وأصالة الأمة: بخلاف الإلحاد تجد الدعاة إلى الفرعونية أو غيرها من القوميات والتنصل من معطيات الجذور الإسلامية للأمة
………. ولعل الشعراء اليوم يشعرون ببعد زوارقهم عن شواطئ الجماهير العربية