القائمة إغلاق

تحقيق المناط .. واختلاف العلماء

تحقيق المناط .. واختلاف العلماء

بقلم المهندس: أسامه حافظ

في حوار مع المستشار طارق البشري – حفظه الله – سألناه عما يراه قصورا فكريا كان في فكر الجماعة الإسلامية قبل المبادرة قال إن الجماعة لم تكن تحمل خللا فكريا متطرفا قبل المبادرة بالعكس كان فكرهم معتدلا وسطيا لا خلل فيه .. وإنما الخلل حقيقة كان في توصيف الواقع.
نبهتني كلماته المقتضبة الي باب في الأصول قل من يعطيه حقه في الاهتمام و التنظير من الباحثين وهو باب تحقيق المناط.
اختلف العلماء وما أكثر ما اختلفوا .. والخلاف وان كان يحمل بين جنباته السعة والرحمة كما ذكر الإمام احمد إلا أننا مندوبون للسعي لمعرفة أسبابه لإزالتها للاجتماع علي كلمة سواء .. وفد صنف العلماء في أسباب الخلاف كتبا متنوعة وأفاضوا في شرحها وتقسيمها فمنها مسائل حول ثبوت النص ومنها حول فهمه ودلالاته ومنها حول حقيقة وصوله للمجتهد وغير ذلك من أسباب .. ولكن القلةهم الذين تحدثوا عن تنزيل هذه النصوص علي الواقع بعد ثبوتها وفهمها كسبب من أسباب الخلاف رغم أن أكثر اختلافات أهل العلم تكون حول هذا السبب وهو ما يسميه العلماء ” تحقيق المناط ” وهو موضع حديثنا المقتضب اليوم .
وهذا المصطلح وان كان لا يخلوا منه كتاب من كتب أصول الفقه إلا أن الفضل في بسط الحديث عنه والتوسع في بيان معناه ومدلولات ألفاظه وتقاسيمه الفنية ومكانته وموضعه في الاجتهاد إنما يرجع إلي الإمام الشاطبي في سفره العظيم ” الموافقات ” علما بأن الغزالي هو الذي اخترع هذا الاصطلاح وتكلم عنه ولفت أنظار العلماء لأهميته .
وترجع أهمية هذا الأمر إلي أن الحكم الشرعي التكليفي يتسم – كما يقول القانونيون – بصفتي التجريد والعمومية .. والمقصود بالتجريد أن معناه قائم بالذهن متعقلا بمدركه.. أما العموم فمعناه أنه لا يخص شخصا بعينه أو واقعة بعينها وإنما يشمل كل المخاطبين به.. والنظر في تحقيق المناط هو الذي يعول عليه في إخراج الحكم من تجريده و عمومه إلي حيز الفاعلية والتنفيذ فيقوم بعملية الوصل بين النص والواقع.. ولأنه هو الوسيلة لتطبيق أحكام الشريعة علي الوقائع فان الاجتهاد فيه لا ينقطع حتى قيام الساعة.. بل ولا يستغني أي مكلف عنه يريد أن يلتزم أمر الله ويجتنب مزاجره .
والآن ما هو تحقيق المناط؟.. وما هي صوره؟.. وكيف ينشأ الخلاف بسببه ؟
تحدث العلماء في تعريفه بقدر ما تعرضوا للحديث عنه وأكثر التعريفات تدور حول اعتباره المرحلة التالية لإدراك الحكم الشرعي وهو تعيين محله – كما أشار الشاطبي – وأن هذا لا يقتصر علي فروع القياس وإنما علي كل كلية أو عموم يشتمل علي مفردات غير معينة عند تطبيقها .. وهو جزء هام من أجزاء الاجتهاد ينبغي أن يتدرب عليها جيدا كل من يتصدي للإفتاء لأنها كما يقولون شطر القياس .
لذلك كان العلماء يضعون شرطا هاما لمن يتصدي للافتاء وهو أن يتدرب علي أيدي الشيوخ علي كيفية تنزيل الاحكام التي درسها من الكتب واستنبطها من الأدلة علي الوقائع محل الفتوي ولايكتفي بالدرس المجرد لعلوم الفقه والاستنباط من الكتب وتعلمها علي أيدي الشيوخ 
ولا يخفي أن انطباق العلة علي الفرع أو مضمون القاعدة الشرعية الكلية علي فروعها يتفاوت ظهورا وخفاءا من صورة لأخرى فمثلا أن ثبت أن السرقة يشترط لإقامة الحد فيها أن تكون من حرز مثله فهذه قاعدة فقهية معروفة فلو سرق اللص نقودا من خزينة فهذه ظاهرة في المسألة فحرز النقود هو الخزينة أما أن سرق كفنا من قبر أو سرق نقودا من حافظة محمولة فهذه موضع نظر واختلاف هل القبر والجيب يعد حرزا أم لا.. وكذا لا نزاع أن الغرر الكثير مبطل للعقود وان الغرر اليسير معفو عنه فبيع الطير في الهواء والسمك في الماء ظاهر الغرر لا يصح عقده أما بيع الزروع المغيبة في باطن الأرض مثل اللفت والجزر والبطاطس فهذا موضع نظر إذ أبطله البعض للجهالة وصححه آخرون زاعمين أن أهل الخبرة يمكنهم تحديده و ضبطه بما ينفي الجهالة ويصير الغرر قليلا يعفي عنه .
وكذا من المفيد أن نوضح أن تحقيق المناط قد يكون عاما لكل المخاطبين بالتكليف وقد يكون خاصا بشخص أو واقعة معينة إذ أن حال كل واقعة يحتاج لنظر خاص لمعرفة مداخل الشيطان ومداخل الهوى وليتحرز المفتي من مثل هذه المداخل علي المستفتي فيضيف للحكم العام قيودا تخص هذا الشخص أو هذه الواقعة ليتوصل إلي تحقيق الحكمة من هذا الحكم .. وفي هذا المعني يقول الشاطبي ” فهو – يعني المجتهد – يحمل علي كل نفس من أحكام النصوص ما يليق بها بناء علي أن ذلك هو المقصود الشرعي من تلقي التكليفات فكأنه يخص عموم المكلفين والتكاليف بهذا التحقيق لكن ما ثبت عمومه في التحقيق الأول العام يقيد ما ثبت إطلاقه في الأول أو يضم قيدا أو قيودا لما ثبت له في الأولي بعض القيود ” .
وتستطيع أن تدرك هذا المعني من الإجابات النبوية علي السائلين عن أفضل الأعمال أو أي الإسلام خير أو مثل ذلك فانه كان يجيب احدهم ” الصلاة لوقتها ” ويجيب الآخر ” عليك بالصوم فانه لا عدل له ويجيب الثالث بقوله ” تطعم الطعام وتقرأ السلام ” وهكذا وفي هذا يعلق العز بن عبد السلام – سلطان العلماء – في كتابه الرائع ” قواعد الأحكام ” فيقول ” وهذا جواب لسؤال السائل فيختص بما يليق بالسائل من الأعمال لأنهم ما كانوا يسالون عن الأفضل إلا ليتقربوا به إلي ذي الجلال فكان السائل يسال أي الأعمال أفضل لي فقال “بر الوالدين” لمن له والدان يشتغل ببرهما وقال لمن يقدر علي الجهاد “الجهاد في سبيل الله” وقال لمن يعجز عن الجهاد والحج “الصلاة لأول وقتها” ويجب التنزيل علي مثل هذا لئلا يتناقض الكلام في التفضيل ” .
ومثاله أيضا رد ابن عباس رضوان الله عليه علي من جاءه يسأل عن توبة القاتل بأنه لا توبة له ولما استغرب تلامذته إجابته هذه وكان قد أخبرهم من قبل بعكس ذلك فقال لهم ” إني أحسبه رجلا مغضبا يريد أن يقتل مؤمنا ” فكان كما قال .. فقد راعي ابن عباس هنا المناط الخاص بالنظر إلي حال الرجل وأدرك بثاقب نظره أن الرجل إنما يسال عن توبة القاتل من اجل ارتكاب جريمة قتل فأفتاه بما أفتاه ليرده عن عزمه .
ومن خلال ما سبق ندرك أن عملية تحقيق المناط تحتاج إلي معرفة دقيقة بالواقعة المطلوب تنزيل الحكم عليها والتي قد تحتاج في كثير من الأحيان إلي رأي أهل الخبرة والاختصاص لتكوين تصور صحيح ودقيق قبل أن ينزل الحكم عليها وكذا ينبغي أن يعرف الشخص محل الفتوى والظروف التي تدفعه للاستفتاء لأثرها الهام في الفتوى ولا يكتفي بإطلاق الحكم الشرعي للمسألة منسلخا عن واقعها وظروفها مكتفيا بما سطرته الكتب من الاحكام مجردا عن ظروف الواقعة محل الفتوي ولا يخفي كما أشرنا آنفا إلي أن من أكثر الأسباب شيوعا للاختلاف بين العلماء هو اختلافهم علي تحقيق المناط – تنزيل الحكم علي الواقعة – مع اتفاقهم علي الحكم .. ولعل هذا يخفف كثيرا من حدة وجسامة هذا الخلاف حين يظهر أن هناك اتفاق حول أصل الحكم ومناطه وأن الخلاف إنما في التنزيل علي الوقائع .
والآن وقبل أن نغادر نستطيع مما سبق أن ندرك أن الفتاوي لايصح تعميمها أو القياس عليها كما نفعل مع الأحكام والنصوص المجردة إذ الفتاوي هي مزيج بين الحكم المجرد والوقائع المتغيرة محل الفتوي لذا فكل واقعة يراد الافتاء فيها تحتاج إلي نظر جديد 
وبعد
فالموضوع يحتاج إلي المزيد من البحث والاهتمام من سادتنا العلماء لوضع المزيد من القواعد والضوابط لتوضيح هذا الباب ووضعه في مكانه اللائق بأهميته
والله من وراء القصد.

التعليقات

موضوعات ذات صلة