القائمة إغلاق

الكمال المأمول والممكن المقدور

الكمال المأمول والممكن المقدور

بقلم: محمد مصطفى المقرئ

تقرر في أصول الشريعة أن “الاستطاعة مناط التكليف” ، ما تفرع عنها ؛ أن خطاب المشرع لنا على مستويين : الأول: خطاب بكمال الامتثال عند تمام القدرة وانتفاء الموانع. والثاني: خطاب بممكن الامتثال عند نقصان القدرة أو لقيام موانع.
وهذه قسمة غير قسمة العزائم والرخص ، لأنها لا تقتصر على أهل الضرورات ، ولأنها لا تخيير فيها للمكلف بين الفعل والترك كما في العزيمة والرخصة ، بل يلزمه أن يعمل بالممكن ـ وإن كان قادراً على امتثال الكمال ـ متى قام مانع أو قُدِر ترتبُ مفسدة على امتثاله ، فإن كان عاجزاً (أي لا تتوفر له الاستطاعة) ؛ لا يقال عنه (هو من أهل الرخص) ، وإن شابه أهل الرخص من جهة كونه لا يثبت في حقه خطاب التكليف غير المقدور أصلاً.
وعلى هذا الأصل كان توجيه أئمتنا لما ورد في السنة وفي فعل الخلفاء ؛ من ترك مأمور ، أو إرجاء ما يتوجب أن يزال ، أو تعطيل إنفاذ حكم لعدم قيام موجبه ، أو لفوات شرط من شروط إنفاذه وإن استوفيت شروط اعتباره بحده شرعاً ، أي عندما لا يجب أصلاً لمانع ، كالسرقة في مجاعة..
أخرج البخاري ـ من حديث جابر بن عبد الله ـ قال: غزونا مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وقد ثاب معه ناس من المهاجرين حتى كثروا ، وكان من المهاجرين رجل لعاب ، فكسع أنصاريا ، فغضب الأنصاري غضبا شديدا حتى تداعوا ، وقال الأنصاري : يا للأنصار ، وقال المهاجري : يا للمهاجرين ، فخرج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : ” ما بال دعوى أهل الجاهلية ؟ ” ، ثم قال : ” ما شأنهم ” ، فأخبر بكسعة المهاجري الأنصاري ، قال : فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ” دعوها فإنها خبيثة “. وقال عبد الله بن أبي سلول : أقد تداعوا علينا ، لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، فقال عمر : ألا نقتل يا رسول الله هذا الخبيث ؟ لعبد الله ، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ” لا يتحدث الناس أنه كان يقتل أصحابه ” (1).
وفي صحيح مسلم ؛ من حديث أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ ؛ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: ” يا عائشة ! لولا أن قومك حديثو عهد بشرك، لهدمت الكعبة، فألزقتها بالأرض، وجعلت لها بابين بابا شرقيا وبابا غربيا ، وزدت فيها ستة أذرع من الحجر ، فإن قريشا اقتصرتها حيث بنت الكعبة ” (2).
وقال ابن القيم ـ في “إعلام الموقعين” : (3/17) ـ بعد أن ذكر أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أسقط القطع عن السارق في ذلك العام ـ : ” قال السعدي: حدثنا هارون بن إسماعيل الخزاز ، ثنا علي بن المبارك ، ثنا يحيى بن أبي كثير ، حدثني حسان بن زاهر ؛ أن ابن حدير حدثه ـ عن عمر ـ قال: لا تقطع اليد في عذق ، ولا عام سنة ، قال السعدي: سألت أحمد بن حنبل عن هذا الحديث ؟؟ فقال: العذق النخلة، وعام سنة المجاعة، فقلت لأحمد: تقول به ؟ فقال: إي لعمري ، قلت: إن سرق في مجاعة لا تقطعه ؟ فقال: لا، إذا حملته الحاجة على ذلك ، والناس في مجاعة وشدة ، وقد وافق أحمدَ على سقوط القطع في المجاعة الأوزاعي “.
وجدير بالتنويه أن هذا تعطيل للحد في واقعة حال لا عموماً ، وفي حق من كان مثل من ذكر ، وليس تعطيلاً مطلقاً بإلغائه أو ترك إنفاذه بغير موجب.
والشاهد ؛ أن الكمال بإقامة الحد على كل من سرق نصاباً من حرزه امتنع في عام الرمادة ، وصار الخطاب بالتكليف بإقامة الحد مقتصراً على سوى من سرق للحاجة زمن المجاعة.
وهذا الميزان الدقيق هو مقتضى الفهم الصحيح لقول الله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا) [التغابن : 16]. أي: ابذلوا جهدكم وطاقتكم في تقواه تعالى. أي: غاية ما يسعكم بلوغه من منتهى مراد الشارع ، ويصح أيضاً أن يكون المعنى؛ اتقوا الله في حدود ما أنتم فيه من قدرة عظمت أو وهنت ، ما يعني اشتمال النص على الخطاب بالكمال والممكن في لفظ واحد.
يبينه الفارق بين الامتثال في المأمور به ، والامتثال في المنهي عنه ، وفي الصحيح ـ من حديث أبي هريرة ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ” ما نهيتكم عنه فاجتنبوه . وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم ” (3).
فلأن امتثال المنهي عنه ترك محض ؛ قال: (اجتنبوه) ، ولأن المأمور به منوط بالقدرة ؛ قال: (ما استطعتم).
كذلك الأمر في الأحوال الاستثنائية ـ في عموم التكاليف الشرعية ـ يمتثل للممكن فيما لا يمكن بلوغ المنتهى فيه ، إما من جهة فوات القدرة ، وإما من جهة قيام مانع أو ترتب مفسدة أو لانسداد أبواب الامتثال أو بلوغ التمام فيه.
على أنه ينبغي أن تبقى عين المكلف على بلوغ كمال الامتثال ، وأن لا يستنيم إلى حال العجز ، بل عليه أن يجتهد للخروج من ذلك العجز ، ويعمل على إزالة الموانع شيئاً فشيئاً ، ويسعى لتغيير الحال الواقع بما يهيئه لاستيفاء الشروط ، ولتقبل ما لم يكن يتقبله بغير مفسدة ترجح على المصالح المرجوة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) “
صحيح البخاري” : (3518).
(2) “
صحيح مسلم” : (1333).
(3) “
صحيح مسلم” : (1337).

التعليقات

موضوعات ذات صلة