القائمة إغلاق

من وجوه الإعجاز البلاغي في القرآن الكريم…2

بقلم /أحمد زكريا
وبعد أن تكلمنا في المقال السابق عن اللطائف والعجائب والأسرار البلاغية في الآيتين الكريمتين ننتقل بعد ذلك إلى دقيقة أخرى ولطيفة أخرى من لطائف هاتيْن الآيتيْن:

فانظرْ إلى الدِّقّة القرآنية في التعبير عن إعطاء الأولاد بـ”الهِبة“: (يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ)؛فالتعبير بـ”الهِبة” لأنّ “الهِبة” عبارة عن عطاء بلا مقابل، أو كما قالالراغب الأصفهاني في “مفردات القرآن”: أن تجعل ملكك لغيرك بغير عوَض، أي: بغير مقابل؛ وعلى ذلك، فهذه الهبة تصل المؤمن والكافر والمشرك على حدٍّسواء. ولم يقل القرآن: “يُعطي” أو “يرزق” بدَل {يَهَبُ}. لماذا؟ لأنّالعطاء أو الرزق قد يكون على مقابل، وأمّا “الهِبة” فواضح فيها تماماً منأوّل الأمر أنها بدون مقابل.

وليس هذا هو كلّ ما في الآيتيْنمن الدِّقّة؛ بل نجد من الدقّة القرآنية: أنه عندما تحدّث عن جانب العُقموهو: عدم القدرة على الإنجاب-، لم يقل: “يخلُق”، ولم يقل: “يهَب”، ولكنقال -سبحانه وتعالى-: {وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً} لأنّ الجعْل فيهمعنى التحويل والصيرورة والانتقال من حال إلى حال؛ وهذا هو ما يُؤيِّدهالواقع. فكم مِن عقيم رجلاً كان أو امرأة أنجبا بإذن الله تعالى، مثْل: امرأة سيدنا إبراهيم “سارة”، ومثْل: زكريا -عليهما الصلاة والسلام- عندماقال: {رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُشَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً * وَإِنِّي خِفْتُالْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْلَدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي}؛ فإذاً، العُقم أو عدم القدرة علىالإنجاب، إنما هو: تعطيلٌ للقانون الإلهي أو الأصل في أنّ الإنسان قادرعلى الإنجاب.

فالله -سبحانه وتعالى- هو الذي خلَق الأسباب، والله – سبحانهوتعالى- هو الذي يُعطِّل الأسباب؛ فقد يولد الإنسان ويكون قادراً، ولكنالله يجعله في حُكم العقيم لا ينجب لسبب من الأسباب. وقد يُولد عقيماً،ولكنّ الله يُعطِّل السبب ويجعله قادراً على الإنجاب. وهذا هو الواقع فيعالَمنا المشاهد. ولذلك كان التعبير في جانب العقم بفعل: “الجعل“: (وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً) أي: يحوِّله من حال إلى حال.
ونلاحظ في الآيات الكريمة السابقة: أنه قد ربَط كلّ المخلوقات التييُريدها بقوله: {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ}، ثم قال: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُإِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ}، {وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُعَقِيماً}؛ فقد ربطت الآيات هذه الأحداث بمشيئة الله -سبحانه وتعالى-؛وهذا يشير إلى: أنّ إعطاء الولد في قوله: {وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُعَقِيماً} والمنع منه، إنما هو من تصرّفات الله في ملْكه. فكما أنّالإنسان يؤمن بحالة الإعطاء من الله -سبحانه وتعالى-، فعليه كذلك أن يؤمنبمشيئة الله فيه في حالة المنع، أي: لا يفرح الإنسان بما أوتي في حالةالعطاء، ولا ييأس أو يتمرّد إذا ما مُنع، لأنّ العطاء والمنْع كلّه واقعتحت مشيئة الله. فعلى المؤمن أن يسلّم لله بما يريد.

ثم نجِد لطيفة ثامنة من لطائف هاتيْن الآيتين: فقد أشار الزمخشري في كتابهالكشاف” إلى فائدة تقديم الإناث على الذّكور. هنا قال: {يَخْلُقُ مَايَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُالذُّكُورَ}، يقول الزمخشري: فقدّم الإناث لأنّ سياق الكلام: أنه -أي: الحق -سبحانه وتعالى-، فاعلٌ ما يشاؤه، لا ما يشاؤه الإنسان، يعني: اللهفعّال لما يريد، حتى ولو كان ذلك ضدّ رغبة الإنسان وإرادة الإنسان؛ فكانذكْر الإناث اللاّئي من جملة ما يشاؤه الإنسان أهمّ، والأهمّ واجبالتقديم، ولِيَلِي الجنسُ الذي كانت العرب تَعُدّه بلاءً ذكْرَ البلاء،يعني: هو ذكْر البلاء في قوله في الآية السابقة: (وَإِنْ تُصِبْهُمْسَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإنْسَانَ كَفُورٌ(،فتقديم هبة الإناث على هبة الذكور يحقّق غرضيْن: أنّ الله فاعل لما يشاءوليس ما يشاؤه الإنسان؛ هذه واحدة. الثانية: أنّ العرب كانت تَعُدّ ولادةالبنات من البلاء، والآية السابقة انتهت بالبلاء، فكان ذكْر البلاء بجوارالبلاء مناسباً، وأخّر الذّكور. فـ{إِنَاثاً} عند العرب ولادة غير مرغوبفيها، فكان ذلك مناسباً لأن تكون مجاورة لقوله: (وَإِنْ تُصِبْهُمْسَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإنْسَانَ كَفُورٌ).

فتقديم الإناث فيه دقيقتان: أنها تعبّر عن: أنّ الله فاعل ما يشاء لا مايشاؤه الإنسان؛ هذه واحدة. وأيضاً لكي يتجاور ذكْر الإناث الذي كانت تعدّهالعرب بلاءً مع ذكْر البلاء وهو: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ}، وأخّرالذكور لِما تقدّم. فلمّا أخّر الذكور لهذيْن السببيْن السابقيْن، تدارك –وأظن هذا اللفظ لا يجوز في حق الله تعالى،لأن الله – سبحانه – لاينسى شيئا،ليتداركه بعد ذلك،ولعل هذا يرجع لعقيدة الزمخشري الاعتزالية،وهذا لفظه ذكرته للأمانة العلمية فقط – تأخيرَهم وهم أحقّاء بالتّقدّم فكأنه عوّضهم عن التأخير بتعريفهم، فقال:(يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ)؛فكأنه لمّا قدّم الإناث للسببيْن السابقيْن، عوّض الذكور عن التأخير بأنعرّفهم بـ”اللام”؛ وذلك لأن التعريف فيه تنويهٌ وشهرة، كأنه قال -سبحانهوتعالى-: “ويهَب لمن يشاء الفرسان الأعلام المذكورين الذين لا يخفَوْنعليكم. فالتعريف بـ”اللام” إنما هو لِرفْع شأنهم، ولأنّهم مشهورون،فعوّضهم بهذا التعريف عن تأخيرهم عن الإناث.

ومازال في الآيات كنوز ولطائف،وآمل أن ييسر الله مقالا ثالثا لاستكمال ما بدأناه.

التعليقات

موضوعات ذات صلة