بقلم الشيخ / أسامه حافظ
أعشق شخصية الصحابي الجليل أبى سفيان بن حرب .. وأشعر كلما قرأت سيرته أنه رجل كبير .. ولا أقصد بالكبير أنه رجل مسن – وإن كان كذلك إذ أنه كان أسن من النبي (صلى الله عليه وسلم) بأكثر من سنوات عشر – وإنما أقصد أن طباعه وأخلاقه تمثل طباع وأخلاق الكبار في جاهليته وإسلامه.
فهو مثلا ً يستشعر المسئولية تجاه أهله وعشيرته.. يحب لهم الخير والسلامة.. ولا تأخذه العصبية ولا الأنانية والثأر لنفسه فينسى هذا الخلق من نفسه.
ويستطيع المتتبع لسيرته رضي الله عنه أن يلحظ فيه هذا الخلق في أكثر من مشهد.
فمثلا ً تراه لما نجا بالقافلة من النبي (صلى الله عليه وسلم) سارع فأرسل إلى قومه يدعوهم للرجوع والانصراف عن قتال المسلمين.. فما الحاجة أن يقتتل أبناء العمومة ويسفك بعضهم دماء بعض وقد زال السبب الداعي لذلك وهو القافلة.. ولكن القوم لم يستجيبوا له.
وتراه أيضا ً يسارع إلى المدينة مجازفا بنفسه ومعرضا ًلها للخطر مؤملا ً أن يستجيب النبي (صلى الله عليه وسلم) له في مد المهلة .. وإزالة آثار الجريمة التي ارتكبها بعض الشباب المندفع الأحمق ضد أحلاف النبي (صلى الله عليه وسلم) من خزاعة.. وخوفا مما ينتظرهم جميعا نتيجة ذلك.. ويعرض نفسه للحرج.. بل وللمهانة في سبيل قومه .
وتراه أيضا ً ساعة الفتح يركب خلف العباس – دون صاحبيه اللذين كانا يجالسانه ساعتها – مع ما في ركوبه من مجازفة الدخول في جيش جاء لغزو بلده والتنكيل بأهلها فيدخل دون عقد ولا عهد مع ما يمثله ذلك من خطورة على حياته – وبالفعل كاد عمر ابن الخطاب رضي الله عنه أن يقتله – طمعا ً في أن يأخذ من النبي (صلى الله عليه وسلم) عهدا ً يستنقذ مكة وأهلها من التنكيل لو دخل الجيش مكة عنوة.. وهم لا قبل لهم بقتاله.. دون أن يلتفت لما يمكن أن يلحق به من دخوله في جيش كلهم يكرهه .. ودون أن يسعى في أن ينجو بنفسه أو يفلت بحياته ويترك أهله لمصيرهم المحتوم.
ومن أخلاق الكبار أيضا ً استعلاؤه على خصال الصغار وأولها الكذب .. فقد جلس أمام قيصر الروم ليسأله عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وبينهما وما بينهما من عداء وحرب فأجابه صادقا عن كل ما سأل.. بما فيه من إظهار لمكارم أخلاقه وفضله (صلى الله عليه وسلم).
وكان من السهل أن يكذب كراهة للنبي وتحريضا ً عليه.. ولكنه أبى لأنه لا يليق بمثله الكذب وقال ” وأيم الله لولا أن يؤثروا على ِّ كذبا لكذبت”.. ومن خلق الكبار أن يستعلي عن الأخلاق الدنيئة والتي يمكن أن نسميها أخلاق الصغار.
ومن أخلاق الصغار التي يستعلى عليها مثله أن يؤثر عنه أنه أذي رجلا ً ضعيفا ً أو مثل برجل ميت مهما كرهه وعاداه لأنه لا يملك بموته دفعا ً عن نفسه .
وقد غلبت أبا سفيان نفسه لشدة كراهيته لحمزة ابن عبد المطلب رضي الله عنه وقد قتل من أهله بمفرده من قتل .. فلما رآه ميتا في أحد ضربه بزج رمحه قائلا “ذق عقق ” يعنى يا عاق .. فشهده أحدهم فصاح مستنكرا ً ” انظروا إلى سيد قريش يضرب ابن عمه لحما : يعنى ميتا ، فانتبه أبو سفيان لما فعل وشعر أن هذا خلقا لا يليق به.. فقال للرجل خجلا ً : اكتمها عنى”.
ومن أخلاق الكبار أن يعرف للرجال قدرهم وإن كانوا خصوما ً له يقاتلهم .. فقد قيل له أن محمدا ً قد نكح ابنتك – وكان (صلى الله عليه وسلم) قد تزوج ابنة أبى سفيان – رملة – لما تنصر زوجها في الحبشة – فقال رضي الله عنه ” ذاك الفحل لا يقدع أنفه ” .. بمعنى أنه رجل كريم عالي المكانة والمقام.
لذلك لا نستغرب منه إذا أسلم أن يحسن أسلامه ويرتفع مقامه ” فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام” ويسعى في الإسلام بهمته ومكانته بمثل سعيه في جاهليته للشرك وأكثر.. كيف .. وقد كان صهرا للنبي (صلى الله عليه وسلم) فدخل في موعود الجنة.
وقد كان أحد القلة الذين صمدوا حوله في حنين فأعطاه وابنه يزيد وابنه معاوية من غنائم حنين الشيء الكثير.
وسار في ركب الحبيب (صلى الله عليه وسلم) في حصار الطائف فأصيبت عينه بسهم ففقئت فجاء بها إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال له: “أيها أحب إليك.. عين في الجنة.. أو أدعو الله أن يردها عليك. قال : بل عين في الجنة”. ورمى بها .
وهكذا عاش رضي الله عنه أعور يشارك في المشاهد مع الفاتحين.. ويبلى فيها خير بلاء .. حتى كانت معركة اليرموك فشارك فيها تحت راية ابنه يزيد – وكان أحد قادة الجيوش الفاتحة – ويشارك قادة الجيوش في إعداد خطة المعركة بماله من حنكة وخبرة .
ثم كان له الدور الأكبر – على سنه الذي جاوز الثمانين – في التعبئة.. بل وفى القتال حتى جاءه سهم آخر فأتى على عينه الثانية .. فعاش أعمى حتى مات بعد تسع سنين من ولاية ابن عمه عثمان بن عفان رضي الله عنهما .
رحم الله أبا سفيان
ذكر ابن عبد البر في الاستيعاب أنه ما رفع رأسه إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حياء ً منه .
بكاه أهله لما احتضر فقال لهم : “لا تبكوا على فإني لم اتنطف بخطيئة منذ أسلمت”.
اللهم إنا نشهدك إننا نحب الله ورسوله وصحبه الكرام.
ونرجو أن يحشرنا الله معهم وإن لم نعمل بأعمالهم