الحمدُ للهِ … والصلاةُ والسلامُ على نبيه ومصطفاه، وعلى آله وصحبه ومن والاه .. وبعد فقد كثر في الآونةِ الأخيرة تراشُق بعض إخواننا بالكلام، وربما بالسبِّ واللَّعن والشتم؛ عند اختلافهم أو تنازعهم في أمر يقبل الجدل، ويدور في فلَك الفكر والنظر ـ ثم ينتهي نزاعهم إلى شحناء أو تطاول وسوء ظن. وقد استقرأت ذلك في أكثر ما يختلفون فيه علي صفحات التواصل الاجتماعي، حتى رأيته سمةً غالبةً، وأمراً واقعاً، ومَرَضاً متفشيِّاً. فأردت أن أُذَكِّر نفسي وأحبتي -والذكري تنفع المؤمنين- بعَشْرِيَّة تُطيِّب الخواطر ، وتجلي الغشاوةَ عن الأبصار والبصائر. راجياً ثوابها ونفعها لي ولمن قرأها ونشرها وعمل بها. وهي نصيحة إن أصابت مُرامها فأنا المسدِّدُ والمقارِب، وإن أخطأَتْ قصدها ولم تؤتِ أُكُلَها؛ فلعجزي عن البيان، أو ضعف الحجة والبرهان، ومالي على الأنفس من سلطان ” إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء “. وهو حسبي وقصدي وبه المستعان، نعم المولى ونعم النصير . أما الأولى: فإنَّ نقد الضعيف وتجريحه شيءٌ يسير يحسنه كل أحد، وليس فيه نوع عناء؛ وأعني بـ”الضعيف” أخاك ومن في معناك ممن تزجره الزواجر، وتحكمه الأخلاق والمباديء، ويتقرب إلى ربه بتقواه فيك. فأنت تجرحه وتشرحه وتعريه، بل ربما تسخر منه، وتسفه رؤيته وفكرته. وتعلم أنه فيك بين مقامات ثلاث: ـ إما أن يعفو ويصفح، فان رأى جهلا أو جهالة قال: “وأعرض عن الجاهلين”، وإن رأى ظلما وقهرا قال “والعافين عن الناس والله يحب المحسنين”. ـ وإما أن يرى حسن مقصودك، وجوهر إرادتك؛ فيرد بالتي هي أحسن، متجاهِلا سوء مقالك وقسوة تجريحك، ممتثلا قول ربه: “وقولوا للناس حسنا”، وقوله: ” وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ “. ـ وإما أن يرد إساءتك بمثلها؛ غمزةً بغمزةٍ، ولمزةً بلمزةٍ، ولعنةً بلعنةٍ، لا يزيد ولا يربو ولا يجور ولا يطغى، ويقول في نفسه: “وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَٰئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ”، أو يقول كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “المستبَّان ما قالا فعلى البادي ما لم يعتدِ المظلوم”( ). فلا الجناية على الضعيف الرقيق الصالح علامة شجاعةٍ وبطولةٍ، وفتوةٍ ورجولةٍ، ولا رد الضعيف بمثلها أو بأكثر منها علامة انتصارٍ وفخارٍ. وأكثر ما يكون من ذلك إنما هو نفثات نفس قهرها المستبد، ومنعها بالحديد والنار من الجهر أو الهمس بما تؤمن به وتدعو إليه؛ فوجدت ما تبوح به وتنوح صراخاً في وجه أمثالها من المستضعفين، علَّه يُطفئ بعض ما تأجَّجَ من نيرانها ـ وأنى يكون ذلك؟! وأما الثانية: فإن نقدَ القوي وتجريحَه صعبٌ عسيرٌ، ومعتركٌ خطيرٌ، تقصر دونه الهمم، وتحجم عنه قاماتٌ وهاماتٌ .والقوي ذلك الذي تنالُك سطوتُه، وتغل لسانَك قوتُه، ويغلب على الظن الوقوعُ تحت طائلة عقابه وإنفاذُه لعذابه ووعيده، مثل سلطانٍ جائرٍ، أو خصمٍ عنيدٍ فاجرٍ. هذا القوي القاهر عند نقده وجرحه، أو حتى عند نصحه وتذكيره؛ تحمر عيناه، وتنتفخُ أوداجه، وتأخذه سطوةُ الغضب وسلطان القدرة والشهرة؛ فيرى كل ناقدٍ وناصحٍ، أو واعظٍ وزاجرٍ خصماً عنيداً، وعدواً لدوداً. فأقلٌّ أحواله ـ إن كظم غيظه، وزجر شره- أن تأخذه العزة بالإثم، ويغلبه الكبرُ على الفِكر؛ فلا يلقي لقولك بالا، ولا يرى لقدرك اعتباراً. أما إذا غلبه الغضبُ، واستبدت بعقله الخصومةُ، أَوْسَعَكَ سبًّا وشتمًا ولعنًا وتشهيرًا، فينسى قضيتَك ويتجاهل فكرتَك، ويفتح من فمه مستنقعَ قذارتِه وحقارتِه؛ فلا تفرق بين قوله وبوله، أو كلماتِه ولكماتِه. وأما إذا كان ذا قوةٍ وبطشٍ وطغيانٍ، ويملك بحقِّك الحسابَ والعقابَ؛ فبرأفةٍ منه ورحمةٍ ومنٍّ وإحسان اكتفى بنفيك وإقصائك وعزلك وقهرك. وإن نزعت من قلبه كل الرحمة، وزاد في الطغيان وأربى؛ قادك إلى المقصلة والهوان وسوء العذاب، وفقد الأحباب والأصحاب . لقد أسهبتُ لك في وصف هذه الحال؛ لتعلم الفرق بين الحالين، والهُّوة بين الفريقين. إن اختبار الشجاعة هنا، وامتحان الرجال هنا، ونيل درجات الإمامة هنا، وكشف الحقائق والدقائق ومكنونات الأنفس هنا . وَلاَ رِيَبةٌ فِي عَيْنِهِنَّ وَلاَ رِبَا وَعِنْدَ صَلِيلِ الزَّيْفِ يَصْدُقُ الاِبْتِلَا وأما الثالثة : فإنَّ جلد الذات وتقريعها وتوبيخها ليس عملا بطولياً، ولا إعجازا خارقاً، ولا هو من فضيلة الاعتراف بالجرم، والندم علي الخطيئة. بل أكثره من صفات ربات الحِجال؛ من تلطمن الخدود وتشققن الجيوب، وتدعين بالويل والثبور ودعوى الجاهلية الأولى. وبعضه من فعل اليائسين القانطين الذين يجدون شفاءَ صدورهم، وزوالَ غمومهم، وتكفيرَ سيئاتهم، والهروبَ من أزماتهم؛ في جلد ذواتهم ولعنها وطعنها. وقد رأيت كثيرا من إخواني يخلطون بين جلد الذات وتقييم المواقف والمراجعات، ويرون كل ذلك شيئا واحدا . والحق أن جلد الذات نوعٌ من نسيان الحسنات، وإهدارِ العطاء، وقتلِ التاريخ وحقائقه، وتركِ النفس أسيرةً ومحاصرةً في سجن ما فاتها من الخطأ وسوء التقدير. إن إصابة قوم بشدة بعد يسر، أو بهزيمة بعد نصر في الأرض أو في النفس؛ إنما جعلها الله “لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم”. وأما تقييمُ المواقف والمراجعات فهو نوعُ قياسٍ للحسنات والسيئات، وميزانُ عدلٍ وقسطاسٍ تثقل فيه الراجحات، وتطيش منه المرجوحات؛ فيعرفَ المرء موضعَ قدميه، ومعالمَ المسير. وقد رأيت إخوةً لنا -رفقاءَ دربٍ، وشركاءَ محنةٍ- تركوا الطريقَ كلَّه بما فيه من عطاء ونصرة للدين وصدع بالحق، واكتفوا فقط بالبكاء علي أطلال ما سبق، والنوح على أغصان البين مع غربان البين. فشتان بين النائحين والمصلحين، وشتان بين جواد ينطلق بعد كبوة إلى سباق الفرسان، وبين معطوب منكوبٍ عاجزٍ رضي بأن يقال يوما “إنه كان مع الشجعان”. وأما الرابعة: فإن جلدَ التيارات المخالِفة والتشهيرَ بها، أو نقدَها وتقييمَ مواقفها؛ عملٌ بشريٌّ مثل سائر أعمال البشر، يدور بين غلوٍّ وتفريطٍ وعدلٍ. فأما أهل الغلو ـ وهم الكثرة الكاثرة ـ فلا يرون لمُخالفهم حسنة، ولا يقيمون وزنا؛ فقط يرونه سيئاً مقيتا، يكيلون له كلَّ تهمة، ويصبُّون فوق رأسه عذابَ الشائعات والأباطيل، وفي المقابل مُفْرِطون يرون في فصيلهم كلَّ حسنة، وفي مخالفهم كلَّ نقيصة . هؤلاء وأولئك ظالمون غلبهم الهوى، واستبدت بهم الضغائن؛ فنسوا ما ذُكروا به من العدل والإحسان وإيتاء ذي القربي، وما نهوا عنه من الفحشاء والمنكر والبغي والحركة الإسلامية تعاني أشدَّ المُعاناة من تراشقِ أبنائها وتَشاتُمِهِمْ، وسوء ظنهم ببعضهم؛ حتى أصبحت مجالسُ الغيبةِ والنميمةِ والتجريحِ عملًا يوميًّا، ووِرْدًا مقروءا في كل مجالس التقييم والنقاش والجدل. وأما فريق الوسط الذين يرون الناسَ بحسناتهم وسيئاتهم، ويقيسونهم بما ظهر من أحوالهم، ويحسنون الظن ما وجدوا لحسن الظن محملا؛ فهؤلاء قليلٌ لا يرضى عنهم الفريقان، ويرونهم “دراويش زاوية” لا يعرفون الحقائق، ولا يبصرون الدقائق فهم غرباء قلَّ ناصروهم وكثر واتروهم؛ وقلما رأيت رجلا ينصف الآخرين ولو خالفهم، وينصف الناس من نفسه وإن جالَدَتْهُ نَوازِعُهُ، وحاربَتْهُ دوافِعُهُ. والله تعالى يقول: “اعدلوا هو أقرب للتقوى”. الخامسة : إنَّ نقدَ أيِّ أحدٍ من أيِّ فصيلٍ، أو حتى تجريحَه والتَّطَاولَ عليه؛ لا يعني -بالضرورة- نقدَ الفصيلِ أو التطاولَ عليه؛ ما لم يُصرِّح الناقدُ أو المتطاولُ أنه يقصد الشخصَ وفصيلَه. إن تضييقَ دوائرِ الخلاف، وإغلاقَ أبوابِ النزاع أمام أرباب الفتن ومُسعرِّي الحروب؛ لا يحسنه إلا العقلاءُ والمتجردون لله، أما المتعصبون الذين ملأتهم الجاهليةُ؛ فإنهم يحسبون كلَّ صيحةٍ عليهِم، ويَغْرَقون في نَتَنِ دعوى التحيز وصدق الانتماء، فيساهمون في شق الصفوف، وتوسيع رقعة الشقاق. وآيةُ ذلك أن تنظر إلى حال أحدهم في موقفين؛ أولهما: إذا سمع أحد أبناء فصيلِه يغتاب ويسب ويشتم ويلعن أخاً له من فصيل آخر، والثاني: إذا سمع أو قرأ أن أحداً تطاول على أحدٍ من أبناء فصيله؛ تراه في الأول هادئا لا يتحرك له ساكن ولا ينزعج له قاطن ، وتراه في الثاني كالثور الهائج لا يرى معترضا إلا حطَّمه وفَتَكَ به. وأعجب من ذلك أن يَحْتجَّ عليك بوجوب الذَّبِّ عن عِرض المسلم ، ونصرتِه وهو مظلوم، وهو -لعمر الله واجب- كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: “من ذَبَّ عن عرض أخيه في موطنٍ تُنْتَهَكُ فيه حُرمتُه، وينتقص فيه من عِرْضِهِ؛ ذَبَّ اللهُ عن وجهه النارَ يوم القيامة”. وقال: “انصر أخاك ظالما أو مظلوما … الحديث”. لكن صاحبنا ذب عن عرض مسلم دون مسلم، والفرق بينهما أن هذا من فصيله والآخر ليس منه. إن الغِيبةَ هي الغيبةُ، والسبَّ هو السبُّ، والنكيرَ على المعتدي هو النكيرُ؛ لا يتغيَّرُ حكمُه بتغيُّرِ شخصٍ أو فصيلٍ أو طائفةٍ. “المسلمُ أخو المسلمِ؛ لا يظلمُه، ولا يُسْلِمُهُ، ولا يخذلُه ولا يحْقِرُه. بحسب امرئٍ من الشرِّ أنْ يحْقِرَ أخاه المسلم. كلُّ المسلم على المسلم حرامٌ؛ دمُه ومالُه وعرضُه “. السادسة : إن نقد أيِّ فصيلٍ، أو تقييمَ مواقفِه؛ ليسَ بالضرورة هدماً لمبادئه وأفكاره ؛إنما هو نظرٌ في اجتهاد بشري، وحكمٌ علي مواقفَ فرديَّةٍ أو جماعيةٍ بأنها صوابٌ أو خطأ. واعتقادُ أيِّ فصيلٍ أنه أعلى من النقدِ والتقييمِ هو بدايةُ زوالِه وانهيارِه. وكذلك اعتقادُ البعضِ أن تجريحَ الكيانات والهجومَ عليها بسوء أدب، ودون حجة وبرهان، أنه يُعيدُها إلى الجادة ويردُّها إلى الصواب؛ هو أيضا علامة حُمْقٍ وسوءِ طوية. ونقدُ أيِّ تيار إسلامي ليس معناه نقدَ الإسلام. وأبناء أي تيار إسلامي يعطون صورةً عن مدى التزامهم بالإسلام؛ لا أن الاسلام يتمثل في ذواتهم. نعم؛ نحن نرى ونسمع كثيرًا من الناس يُشوِّهون معالمَ الدين، ويهاجمون عقائدَه وشرائعَه وشعائرَه تحت مُسَمَّى مهاجمةِ تيارٍ أو فصيل. وهؤلاء مفضوحون لا تسترهم المسوحُ، ولا تواريهم المعاريضُ والتوريةُ؛ “ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم”. أقول ذلك حتى يعلمَ كلُّ أبناء التيارات الإسلامية أن زمنَ العولمةِ، وتحطيمِ الحدود والسدود؛ جعل كلَّ التياراتِ والأفكارِ والمناهجِ كتابًا مفتوحًا، ينظر فيه العالم والجاهل، والصغير والكبير، والمؤدب وكذا قليلُ التربيةِ والأدبِ، وكل هؤلاء يدلون بدلوهم في كل ما يسمعون ويقرؤون . فلو تركنا أنفسنا للمعارك الجانبية، وشغلناها بشتمٍ فلان ولعن فلان؛ لضاعت منَّا الحقيقة، وغفلنا عن إصلاح أنفسنا. ومَنْ يجعلِ المعروفَ من دون عِرضه يَفِرْه(يَصُنْه) ومن لا يتق الشتم يُشتَم السابعة: إن في كل التيارات الإسلامية من يتبنى -من قياداتها ومن أبنائها- آراءً فقهيةً شاذةً، أو مخالفةً لما عليه جماهير أبنائها، أو هي محل نزاع قديم بين فقهاء المسلمين. ومن العيب والعار والظلم والجهل أن نصف تياراً أو فصيلاً بأنه مُترخِّص، أو متساهل، أو متشدد ومتهور ومتخلف؛ لأن بعض أبنائه أو قياداته أو علمائه له رأي في مسألةٍ له فيها سلف، أو انتهى فهمه إلى ما يعتقد فيها. فمِن كل أبناء الحركة الإسلامية مَن يرى جوازَ السماع والشطرنج ، ولا يرى وجوبَ النقاب أو اللحية، وربما يرى جوازَ التعامل مع البنوك الربوية، ولا يري الفائدةَ ربًا. وغيرها من المسائل الفقهية التي تشعب فيها الخلافُ وكثر فيها البحثُ والنظرُ . إن لأيِّ أحدٍ من أهل العلم أن يُنكر علي مُخالِفه في أي مسألة مما سبق وغيره، وأن يحتج عليه بنصوصٍ شرعيةٍ فيما يراه أصوبَ وأقربَ للحق. ولا علاقه بين هذا وبين الانتماءات الفكرية. وإن اختلافنا في هذه المسائل هو نوعٌ من عظمةِ الفقه وتنوُّعِه واستيعابه لنظر العقل، وموارد النقل. فلماذا نحول اختلافنا في الفقه إلى عصبية جاهلية مبنية على انتماءاتنا أو توجهاتنا؟ ولماذا يربط الناقد بين اختلافه مع آخر في أي مسأله وبين أرتباطه بأي جماعة أو فصيل؟! علينا أن نفرق بين المسائل الفكرية التي تجتمع عليها كل جماعة فتصبح معبرة عنها وبين المسائل االفقهية التي يختلف فيها حتى أبناء الجماعة الواحدة . الثامنة : إن الله تعالى حرَّم على أمة محمد -عليه الصلاة والسلام- كلَّ قولٍ يؤذي مسلماً أو ينتقص من عِرضِه، أو يكشف سترَه، أو يُهين كرامته. حرم السخريةَ فقال: “لا يسخرْ قومٌ من قَوم”. وحرَّم اللمزَ والتنابزَ فقال: “ولا تلمِزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب”. وحرم سوء الظن فقال: “إن بعض الظن إثم”. وحرم الغيبة فقال: “ولا يغتبْ بعضُكم بعضًا”. وحرم النبي صلي الله عليه وسلم السبَّ فقال: “ليس المسلمُ بسبَّابٍ ولا لعَّان ولا فاحش ولا بذيء “، وقال: “لا يكون اللعَّانون شفعاءَ يوم القيامة”. كل هذه المحرمات –وغيرها- يعرفها الكبير منا والصغير، والقائد والمقود، والقريب والبعيد. وليس في شريعتنا ما يُبيح هذه المحرمات لأجل اختلاف أحدٍ مع آخر، أو نقده لأفعالِه أو أفكارِه، أو زجرِه عن منكر أو محرم؛ بل قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إن الرفق لا يكون في شئ إلا زانه، ولا يُنزَع من شيئ إلا شانه”. إن أخطر شيء أن تُشوِّهَ إنسانًا لأجل اختلافك معه، وأن تعتقد أنَّ من الزجر عن الخطأ أنْ تقعَ فيما حرَّمَ اللهُ عليك من اللعن والطعن وفُحْشِ القول واتهام الناس بلا دليل قاطع أو برهان ساطع. ولو تحرى الجميع ذلك لكان للنقد حلاوةٌ يتذوقها من ساءَ فهمُه أو كَثُرَ خطؤه. إن كثيرا من الناس يرجعون عن أخطائهم إذا أُقيلتْ عثراتُهم، ويتشبثون بآرائهم ويجادلون عنها وهم يدركون أنها تحتمل الخطأ لأن ناقدهم لم يفتح لهم بابًا، ولم يحمل كلامهم على وجه ؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: “من أقال مسلماً عثرته أقال الله عثراته في الدنيا والآخرة”. رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة والحاكم وصححه ووافقه الذهبي التاسعة : الناقد بصير يرى أدق الاشياء مما يخفى علي غيره ممن لا يعبأ بالنظر، ولا يعنيه التقييم والتقويم، وقد يبصر في ذيل ثوبك الأبيض الناصع ذرةً سوداءَ أو أكثرَ، فيبالغ في إظهارها وكشف خطورتها؛ هذا هو عمله، وتلك هي طريقته. فطريقته في ذكر المحاسن الإجمال، وفي ذكر المساويء التفصيل. ولا يُفترض سوءُ الظن به، أو أنه يريد الهدم والتضليل. نعم يجب عليه أن يكون دقيقا منصفاً، كما أنه يجب علينا أن نتحمل نقدَه، وأن نقبل طريقتَه. والناس دائما في النقد بين مُجاملٍ يخاف من المكاشفة، ويهاب من المواجهة؛ وقد قال النبي صلي الله عليه وسلم: “لا يمنعنَ أحدَكم هيبةُ الناس أن يقول بحقٍ إذا علمه”. وبين جافٍ لدودٍ يخلط النقدَ بالخصومةِ، ويشعل إوارَ العداء مع بعض حق كان يمكن أن يزينه بقول حسن، أو بيان لطيف. وبين مؤدبٍ جريء يقول كل ما يريد، دون أن يخشى في الله لومة لائم، ودون أن يخلط نقده بالإسفاف والتجريح والازدراء وسوء الأدب؛ قال المُزني: “سمعني الشافعي يوماً وأنا اقول : فلان كذاب. فقال لي يا إبراهيم : أ كْسُ ألفاظك أحسنها ولا تقل «كذاب» ولكن قل «حديثه ليس بشيء»”. ونحن كأبناء حركات لها أخلاقُ ومبادئي؛ ينبغي علينا أن ننظر إلى جوهر ما يريده النُّقاد، ولبابِ ما يريدون أن نبصرَه، وأن نصرف عقولنا وقلوبنا عن الحرائق المشتعلة في كلماتهم وتلميحاتهم؛ فإنهم يريدون بذلك أن تلسعنا الكلماتُ فتحرق عقولَنا بلظاها، أو أن يكون لنقدهم عظيمُ اهتمامٍ عندنا. فإن انشغلنا بالحريق، وتركنا التحقيق؛ ضللنا الطريق. وليس على أرض الله أحدٌ أو جمعٌ حرَّم اللهُ نقدَه، أو نصحَه وزجرَه؛ إلا من عصم اللهُ بنصٍّ، أو كان معه من الله برهان. العاشرة: إن أعظم فائدة يمكن أن يُحققها المرءُ لنفسه، أو الكيانُ لفكره ومنهجه؛ أن يعرف عيوبَه، وأن يستبصر خطأه. وأصحاب المباديء العظيمة يبحثون عن عيوبهم عند مفكريهم وعلمائهم ومصلحيهم أولا، فان لم يكن فعند صديق صدوق مخلصٍ مُحبٍ، يُهدي العيوب لأصحابها لعلهم يتذكرون. وكما قال عمر رضي الله عنه: “رحم الله امرءًا أهدى إليَّ عيوبي”. فإن لم يكن؛ فإن مخالطةَ الناس ورؤيةَ أحوالهم، والاعتبارَ بما أصابهم، ومعرفةَ ما يحمدون ويذمون؛ يضئ لهم المعالمَ ويُبَصِّرُهم بمخاطرِ الطريق. فإن لم يكن فإن لسان العدو الساخط، والمزاحم الحاقد، والمنافس الجريء يبصرهم بعيوبهم : وعين الرضا عن كل عيبٍ كليلة ولكنَّ عينَ السُخط تُبدي المساويا وأي كيان ينشغل بخصومة أعدائه ومنافسيه عن النظر فيما يبدونه من المساخط علي صفحات وجوههم، وقذائف ألسنتهم وأقلامهم؛ فهو كيان مفتقد للرشد، مفتقر للحكمة، “والحكمة ضالة المؤمن، أينما وجدها فهو أحق بها”. وبعد ايها الكرام : فقد أتممتُها بعشرٍ تيمناً بقول الرحمن: “وأتممناها بعشر”. فإن وافقَتْ من أنفسكم القبولَ والرضا؛ فمحض فضلٍ من الرحمن، وحُسن إكرام منكم. وإن كانت الأخرى، فخذوا من القول أحسنه، ودعوا شوائبه وغرائبه، ولنكن أهلا لقول العليم الحكيم: “”فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه. أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب”. وحسبي من تذكير إخواني ونصحهم أني أحبهم في الله، وأطمع أن أكون معكم: “إخوانا على سرر متقابلين “.
رساله إلي أبناء الحركة الاسلامية “العَشْريَّة في النقد والتجريح”

التعليقات