القائمة إغلاق

مجال الحديث في الدين بين التخصص والكهنوت


د. عبد الآخر حماد 

من مزايا الدين الإسلامي الحنيف خلوه من الكهنوت ،الذي عرفته بعض الديانات الأخرى كالنصراينة مثلاً ،والذي يعني أنه لا يسمح لأحد بأن يتكلم في الدين إلا لطائفة معينة هم من يسمونهم برجال الدين ، وذلك ناشيء لديهم من اعتقاد أن رجال دينهم مؤيدون بالروح القدس وأنهم لا يخطئون . 
وأما الإسلام فليس فيه معصوم إلا الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكل أحد يؤخذ من قوله ويرد إلا النبي صلى الله عليه وسلم ، كما قال الإمام مالك رحمه الله ، لكنَّ ذلك لا يعني بحال أنه يجوز لكل أحد أن يقتحم مجال الحديث في شرع الله تعالى ولا أن يفتي في الدين إلا إذا كان لديه من الكفاءة العلمية ما يؤهله للخوض في مسائل الشرع وأحكام الدين .
ولذلك فإن أهل العلم يذكرون دائماً أنه يجب احترام التخصص ،وأن غير المتخصصين في علوم الشريعة ليس لهم أن يقتحموا المسائل العلمية التي تحتاج إلى بحث وجهد ومعرفة سابقة بالنصوص الشرعية المتعلقة بتلك المسائل ، ومن أهم ما نستدل به على ذلك قول الله تعالى : ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ). [الأنبياء : 7] ،فإن هذه الآية تدل بعمومها على أنه يجب الرجوع في كل فن إلى أهله ومن تخصصوا فيه .
وكذا قوله جل شأنه : ( قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون )[ الأعراف : 33] . ففي هذه الآية تحريم القول على الله بغير علم ،بل في الآية الكريمة أن القول على الله بغير علم قرين للشرك بالله تعالى .
والفرق بين الكهنوت والتخصص : أن الكهنوت يقصر الفهم وأدواته على طائفة معينة من الناس مع ادعاء أنهم مؤيدون بما يعصمهم من الخطأ ، وأما التخصص فمجاله مفتوح لكل قادر عليه ، وهو أن يبذل الشخص جهده في طلب علم معين وفي امتلاك أدوات فهمه ،ولا يزال يترقى في طلب ذلك العلم حتى يصير متخصصاًّ فيه مؤهلاًّ لأن يتكلم في مسائله ويعلمها لغيره ، وعلوم الشريعة في ذلك كسائر العلوم من الطب والصيدلة والهندسة وغيرها ، لا بد لمن يتكلم فيها أن يكون ممن درسها دراسة وافية ، ولا أعني بذلك ضرورة الحصول على شهادة بعينها ،وإنما القصد أن يكون قد درس العلوم الشرعية دراسة وافية وفق القواعد العلمية المتعارف عليها بين علماء الشريعة ، ومع ذلك فإنه رغم تلك الدراسة الوافية المتخصصة معرض للوقوع في الخطأ ،فهو بشر من البشر يَرد عليه الخطأ والصواب . 
ولكن بعض أدعياء التطور والتجديد في أيامنا هذه صاروا يخلطون بين الكهنوت والتخصص ، ووجدنا كل من هب ودب يتكلم في مسائل الشرع بلا علم ولا معرفة بأبسط قواعده ، فإذا قلت لهم يا قوم احترموا التخصص في الدين كما تحترمونه في غيره ، قالوا لك إن الإسلام ليس كهنوتاً ، مع أن هناك فارقاً كبيراً بين الكهنوت وبين ما نعنيه بالتخصص كما أسلفنا .
وأعجب من ذلك أن ترى بعضهم يقول -كما ورد في بعض الصحف اليومية منذ أسابيع – : إن الحديث في الدين لا يحتاج إلى تخصص ؛لأني أعيش الدين وأتنفسه كلَّ يوم فى بيتي وعملي ومعاملتى مع الآخرين ، ويضرب لذلك مثالاً بأنه لكي يمارس النظر ورؤية الأشياء لا يحتاج إلى أخذ دروس فى طب العيون .فكذلك هو لا يحتاج في ممارسته للدين إلى دراسته أو سؤال المتخصصين فيه .
والحقيقة أن هذا الكلام مبني على فهم مغلوط لحقيقة الدين متأثر بالفهم الكنسي الذي يقصر الدين على كونه مجموعة من الأخلاق الحسنة ،والمواعظ العامة ، مع ترك غالبية شؤون الحياة للناس يدبرونها كيف يشاؤون .
ولا يريد هؤلاء القوم أن يفهموا أن شريعتنا لا تعترف بهذا الفهم الغريب للدين وحقيقته . وأن ديننا بالإضافة إلى كونه دعوةً لمكارم الأخلاق ومحاسن الآداب ، فإنه أيضاً عقيدة يجب الإيقان بها ،وشريعة يجب الالتزام بأحكامها ، وأن تلك العقائد والأحكام لم يتركها الله تعالى لأهواء البشر واجتهاداتهم ، بل أرسل بها رسولاً كريماً ظل الوحي ينزل عليه ثلاثة وعشرين عاماً ، ليبين للناس ماذا ياتون وماذا يدَعون في كل مناحي الحياة ،حتى قال بعض المشركين لسلمان الفارسي رضي الله عنه كما في صحيح مسلم وغيره : ( قد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة – أي حتى كيفية قضاء الحاجة- ، فقال سلمان : أجل ، لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول ،أو أن نستنجي باليمين ،أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار أو أن نستنجي برجيع أو بعظم). 
وما لم يأت به الوحي تفصيلاً تركه لاجتهاد أهل العلم المؤهلين يستنبطون أحكامه في ضوء قواعد علمية دقيقة التزم بها علماؤنا جيلاً بعد جيل ، فلا يأتي بعد ذلك شخص لا يحسن قراءة الفاتحة ليتكلم في الدين بعقله وما يستحسنه هواه . 
وإذا كان صاحبنا يقول إنه لا يحتاج إلى دراسة الطب لكي يمارس النظر بعينيه ،فإننا نقرر ونحن مطمئنون أن المسلم يحتاج إلى دراسة الدين -أو على الأقل يحتاج لسؤال أهل العلم –ليعرف كيف يمارس النظر ،وما يحل له منه وما لا يحل ،وانظر مثلاً إلى قول الله عز وجل : ( قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم )[ النور: 30] ،فإن معنى ذلك أن ممارسة النظر ليست مطلقة ،وإنما لها في دين الله أحكام وقواعد لا بد من الالتزام بها . 
ويمارس بعض أولئك الأدعياء إرهاباً فكرياً من نوع آخر يتمثل في ادعائهم أننا حين نقول لهم ذلك إنما نطالبهم بأن يمتنعوا عن إعمال عقولهم ، وكيف يكون ذلك وهم في نظر أنفسهم مفكرون مبدعون من حقهم أن يعيدوا قراءة النصوص الشرعية وفق معطيات العصر ومتطلباته كما يزعمون !.
والحق أني لا أميل إلى استعمال أساليب التهكم في كتاباتي ،ولكني أجدني مدفوعاً دفعاً إلى إثبات واقعة سمعناها قديماً من الشيخ عبد الحميد كشك رحمه الله أراها مفيدة في الرد على هذه النوعية من الشبهات حيث ذكر رحمه الله أن فتاة ممن يدعين العلم والثقافة جاءت أحد العلماء معترضة على وصف النبي صلى الله عليه وسلم للنساء بأنهن ناقصات عقل ودين ، وكان من كلامها في ذلك أنها حصلت وزميلات لها على ليسانس الفلسفة بامتياز ،فكيف يقال عنهن ذلك الكلام ؟ فأجابها الشيخ في هدوء : لا تغضبي يا ابنتي ، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لما قال ذلك الكلام ،إنما كان يقصد نساء عصره الأميات اللاتي لم يدخلن مدرسة ولا جامعة ، أما أنت وأمثالك فأنتن لا عقل لكنَّ ولا دين أصلاً !
إننا نعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد فسر هذا النقصان تفسيراً لا يحمل شائبة احتقار للمرأة وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم كما رواه البخاري وغيره من حديث أبي سعيد : ( أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل . قلن : بلى ، قال : فذلك من نقصان عقلها ، أليس إذا حاضت لم تُصلِّ ولم تصم . قلن : بلى ، قال : فذلك من نقصان دينها ).
لكن لأن تلك الفتاة جاءت معترضة متعنته لا سائلة مستفهمة ، بل كان اعتراضها منصباً كما هو ظاهر على مسألة نقصان العقل فقط ، دون اهتمام بمسألة نقصان الدين ، فإن الشيخ رد عليها بمثل هذا الرد المتهكم الذي يليق بحالها وأمثالها ومثيلاتها .
إننا حين نقول ما نقول إنما ندعو لاحترام العقل ،ولكن بالطريقة الصحيحة التي تحفظ له مكانته وتلزمه حدوده ، لا بطريقة تفكيرهم التي تريد أن تطلق للعقل العنان فيما يحسنه وما لا يحسنه . 
إن آيات القرآن التي تحض على التفكر والتدبر وإعمال العقل لا يمكن أن تفهم إلا في ضوء ما هو معلوم من أن للعقل حدوداً ليس له أن يتجاوزها ، وإلا لما كان هناك داعٍ لإرسال الرسل ولا لإنزال الكتب ، ولاكتفى الله بذلك العقل في معرفة ما ينبغي وما لا ينبغي .
لقد ذكرتني مثل هذه الدعوات المتهافتة بما ذكره سلفٌ لأصحابها منذ عدة عقود في إحدى الصحف اليومية من أن اجتهاده قد أداه إلى أن ما جاء في القرآن الكريم من الحكم بقطع يد السارق إنما كان لأنهم لم يكونوا يعرفون السجون ، أما الآن وقد تحضر المجتمع وأصبح قادراً على إقامة سجون ،فإنه لا حاجة إلى الحكم بقطع يد السارق ،بل يكفي وضعه في السجن فترة من الزمن . 
والحق أن هذا الاجتهاد -إن جاز أن نسميه اجتهاداً – إنما هو دليل على أن صاحبه خاوي الوفاض بادي الانفضاض من أساسيات الدراسة الإسلامية بحسب تعبير الشيخ معوض عوض إبراهيم رحمه الله في مقال له في الرد على مثل تلك الدعوات نشر بمجلة لواء الإسلام ( عدد رجب 1393هـ ) ، وذلك لأن القرآن الكريم قد أخبر عن وجود السجون قبل الإسلام بقرون كما في قصة يوسف عليه السلام ، لكن هكذا يدَّعون ولله في خلقه شؤون .
عبد الآخر حماد
عضو رابطة علماء المسلمين
19 شوال 1439ه- 3/7 /2018م

التعليقات

موضوعات ذات صلة