القائمة إغلاق

منهج الصيام في تربية الأمة

بقلم: د. أحمد زكريا عبد اللطيف

وبعد أن مضى رمضان، وجاءت الست من شوال بخيرها، ثم تتابعت نفحات الرحمات بين الإثنين والخميس، والأيام القمرية، والعشر الأول من ذي الحجة، و……..

فلماذا يتعاهدنا الله بهذه العبادة المتفردة؟!

للصيام منهج فريد في تلطيف روح الإِنسان، وتقوية إرادته، وتعديل غرائزه.

فالصائم يمتنع عن الطعام والشراب على الرغم من جوعه وعطشه، ويكفّ عن شهوته ورغباته، ليثبت عملياً أنه ليس بالحيوان الأسير بين المعلف والمضجع، وأنه يستطيع أن يسيطر على نفسه الجامحة وعلى أهوائه وشهواته.

فالأثر الروحي والمعنوي للصوم يشكل أعظم جانب من فلسفة هذه العبادة.

فالإنسان الذي يعيش إلى جوار أنواع الأطعمة والأشربة، لا يكاد يحس بجوع أو عطش حتى يمدّ يده إلى ما لذّ وطاب كمثل شجرة تعيش إلى جوار نهر وفير المياه، ما إن ينقطع عنها الماء يوماً حتى تذبل وتصفرّ.

أما الأشجار التي تنبت بين الصخور وفي الصحاري المقفرة، وتتعرض منذ أوائل إنباتها إلى الرياح العاتية، وحرارة الشمس المحرقة حيناً، وبرودة الجوّ القارصة حيناً آخر، وتواجه دائماً أنواع التحديات، فإنها أشجار قوية صلبة مقاومة.

والصوم له مثل هذا الأثر في نفس الإِنسان، فبهذه القيود المؤقتة يمنحه القدرة وقوة الإِرادة وعزيمة الكفاح، كما يبعث في نفسه النور والصفاء بعد أن يسيطر على غرائزه الجامحة.

فالصوم يرفع الإنسان من عالم البهيمية إلى عالم الملائكة.

وقوله تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ يشير إلى هذه الحقائق.

وهكذا الحديث المشهور: “الصَّوْمُ جَنَّةٌ ” يبين تلك المعاني.

ولكي يحقق الصوم مقاصده في التربية لابد من ركيزتين أساسيتين.

لأن الجماعة المسلمة المناط بها إقامة الدين وتحكيم شرع الله تحتاج إلى ركيزتين تؤدى بهما دورها الشاق العظيم فإذا انهارت واحدة منهما لم تكن هناك جماعة مسلمة ولم يكن هناك دور لها تؤديه ولا كان لها انتصار في معركة ولا قيمة في حياة بل لا يحسب لها تضحياتها إلا بهما:

أولاها:

ركيزة الإيمان والتقوى التقوى التي تبلغ أن توفي بحق الله الجليل التقوى الدائمة اليقظة التي لا تغفل ولا تفتر لحظة من لحظات العمر حتى يبلغ الكتاب أجله {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} [آل عمران 102].

فكلما اقترب العبد بتقواه من الله تيقظ شوقه إلى مقام أرفع مما بلغ وإلى مرتبة وراء ما ارتقى وتطلع إلى المقام الذي يستيقظ فيه قبله فلا ينام ولا يزال كذلك حتى يوفيه أجله والموت غيب لا يدرى الإنسان متى يدركه فمن أراد ألا يموت إلا مسلما فسبيله منذ اللحظة مسلما وأن يكون في كل لحظة مسلما إنه الاستسلام لله طاعة له واتباعاً لنهجه واحتكاما إلى كتابه.

هذه هي الركيزة الأولى التي تقوم عليها الجماعة المسلمة لتحقيق وجودها وتؤدى دورها أي أنه بدون هذه الركيزة لا تقوم لها قائمة ولا تسمى مسلمة إذ لا يكون هناك منهج لله تتجمع عليه الأمة وهذا الذي بدأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ قرأ باسم ربه فقام الليل إلا قليلا فتهجد بالقرآن وذكر الله كثيراً وربى أصحابه على هذه المعاني فكانوا خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله.

والصيام من أعظم مقاصده تحقيق تلك الركيزة.

ثانيا:

ركيزة الأخوة في الله على منهج الله لتحقيق هذا المنهج أخوة تنبثق من التقوى والإسلام من الركيزة الأولى أساسها الاعتصام بحبل الله أي عهده ونهجه ودينه {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك بين الله لكم آياته لعلكم تهتدون} [آل عمران 103]

إنها الأخوة المعتصمة بحبل الله وهي نعمة يمتن الله بها عليهم ويهبها لمن يحبهم من عباده دائما فتتألف بها القلوب وتتوحد بها الصفوف وتقوى بها الجيوش وتهون معها التضحيات وما كان إلا الإسلام وحده الذي يجمع القلوب المتنافرة ولا يمكن أن يجمع القلوب إلا أخوة في الله تصغر إلى جانبها الأحقاد التاريخية والثارات القبلية والأطماع الشخصية والرايات العنصرية ويتجمع الصف تحت لواء الله الكبير المتعال {وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم} [الأنفال 36].

وهكذا ترجع هذه الجماعة إلى ميزان واحد تقوم به كل ما يعرض لها في الحياة وتتحاكم إلى شريعة واحدة من عند الله يقوم كيانها على الحب والتكافل اللذين تختفي في ظلالهما مشاعر الأثرة وتتضاعف بها مشاعر الإيثار فينضبط سلوكها في الحرب والسلم على حد سواء وعلى مثل ذلك الإيمان وبمثل هذه الأخوة يقوم منهج الله في الأرض في كل زمان ينشر الأمن والأمان ويحقق الرخاء والاطمئنان ويسود السلام مشارق الأرض ومغاربها حين يطبق هذا المناهج الذي يضحي من أجله بكل عزيز.

ولذلك كان من مهام هذه الجماعة المسلمة صيانة الحياة من الشر والفساد وأن تكون لها القوة التي تمكنها من نشر المعروف فتأمر به ومن منع المنكر فينتهي عنه لأنها خير أمة أخرجت للناس فعملها العمل الإيجابي لحفظ الحياة البشرية من المنكر ولإقامتها على المعروف مع تحمل هذه التكاليف من متاعب وبكل ما في طريقها من أشواك لتحقيق الصورة التي يحب الله أن تكون عليها الحياة ولا يتحقق ذلك إلا بصنف من الرجال أعطوا للآخرة ما يملكون فجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله.

وكل هذه المعاني يؤصلها الصيام نهارا، والقيام والاعتكاف ليلا، وانصهار الفوارق في تكاتف الصفوف لمدة شهر كامل، ولفترة طويلة، مع ما يتم في رمضان من مواساة وصلة أرحام وصدقات، كل هذا يقوي من دعائم الأخوة بين المؤمنين.

ومن تدبر وجد حكما باهرة، ومن أحسن الغوص استخرج دررا نادرة!

والله من وراء القصد.

التعليقات

موضوعات ذات صلة