بقلم: الأستاذ إسماعيل أحمد

كتب الأستاذ إسماعيل أحمد في صفحته على منصة الفيسبوك:
سوف أطرح في صفحتي- إن شاء الله – سطورا من كل فصل في كتاب “النجوم السوداء” مسلسلا في محاولة أخيرة لجمع شتات مواقف وعطاءات سيظل كل من كابد السجن يذكرها حتى يتوفاه الله… لعل وعسى..!!
(1)
(… وسرحت مع خواطري فيما كانت تعنيه كل أخت منهن لزوجها، بل ولزنزانته كلها في أيام المحنة… كانت تعني الطعام الشهي على بطون أنهكها العدس والفول المتتالي بلا هوادة، كانت تعني الأخبار السارة والأشياء ذات القيمة.. تذكرت أختا من بلدي كانت أمها من بحري فانقطعت في بيت أمها لتزور زوجها كل أسبوعين وصرت أتابع هذا التوقيت المنضبط حتى أسميتها “الساعة” وكانت لا تكتفي بما هو مطلوب منها عادة، بل كانت تتفنن في إخفاء الممنوعات اللازمة لزوجها ولمن معه من إبر خياطة وشفرات وقصاصات الصحف التي تحمل أخباراً لنا أو عنا، حتى ضبطت ذات يوم وقضت ليلتها في مقر أمن الدولة.. وتذكرت تلك الأخت التي تعودت من زوجها عدة أوامر كل زيارة.. فما إن تبدأ زيارة السلك التي تمتد عدة دقائق حتى تبادره مسرعة: موضوع الكلية فعلت كذا وكذا وموضوع الأولاد… وموضوع الشغل… إلى أن تنتهي الزيارة فلاحظه أحد إخوانه ولامه على قسوته وقال له النساء بحاجة إلى كلمة طيبة، قل لها أخبارك… وحشتيني شيءٌ من هذا القبيل فلما حانت الزيارة جاءت كعادتها تعاجله بالأجوبة السريعة الكلية كذا وكذا المحامي كيت وكيت، فقال لها مستوقفاً على مهلك أخبريني ما أخبارك أنت.. لقد أتعبتك معي… الخ فصمتت الأخت مشدوهة للحظات ثم صاحت بأعلى صوتها والعشرات من الأخوة وضباط وجنود الشرطة يسمعون: “باحباااااك”..)
(2)
“لا زلت أتذكر مشهد الأمهات والأخوات إبان بدء ترحيل الأخوة من سجن الاستقبال إلى الوادي الجديد وكانت الزيارة في الاستقبال ممنوعة ولم تكن بينهن وبين الأزواج والأولاد من صلة، فكن يقفن عند بوابة السجن أملاً أن يكون في جلسة نيابة أو محاكمة فينتزعن خبرا أو نظرة وكلمتين، وكلما هلت عربة ترحيلات قادمة أو ذاهبة جرين خلفها يسألن عن ذويهن، ثم يعدن فيتلقفن طلبات الأخوة من يريد إبلاغ أهله بخبر نقله هنا أو هناك ومن يطلب زيارة ومن يتابع أخبار قضيته وهن يخدمن ويكتبن ويسعين في تنفيذ كل هذه الطلبات وربما استمرت متابعاتهن شهوراً يؤدينه بكل شغف وإخلاص.
أذكر يوم وقفت بنا السيارة أمام سجن الاستقبال قبيل ترحيلنا إلى سجن الوادي الجديد أن بدأ الإخوة يملون بياناتهم للأخوات فأملى أحدنا بياناته من شباك سيارة الترحيلات ثم دار للطرف الآخر وأعاد إملاء بياناته فسمعته الأخت الأولى فأتته متعجبة تسائله: ألم آخذ بياناتك هذه من قبل؟ فقال: خشيت أن تنسى إحداكن أو تضيع ورقتها فأنبته قائلة: “طيب اعمل حساب إخوانك”.
ومن كانت منهن تحمل عصيراً أو خبزاً أو طعاما تعطيه بجود لمن تلقاه فإن كان لها زوج أو أخ أو ولد تذكره لنا ومن فقدت خبر مزورها من زوج أو ولد تعطيه للجميع، وتقول مثلما قالت لي إحدى الأمهات لأي حد، إنه سجل كريم من التضحية والوفاء والإخلاص لا يشوبه تخسيعٌ في زيارة ولا زيادة إنفاق ولا حتى انفعال عابر يدفع الزوج بعدما خرج أن يتهددها بالتزوج من أخرى أو ينفذ تهديده علانية، أو يقسو عليها بسبب ما أنفقت أو سوء رد ولد، إنني أردت ولا أزال أريد أن أحكي عن كل واحدة منهن ليعرف الناس مكانة المرأة في الإسلام ودورها وراء – بل أمام – زوجها وليعلموا أي ثبات يتناقله الرجال من عزمات النساء أما كانت أو زوجة، لم أحظ بمعرفة مباشرة بأخبارهن ولكنني أنقل ما يتحاكى به الأخوة في السجون من أساطير عنهن، وما يتاح لي من مواقف في سياق امتهاني للمحاماة، وكان درسنا الأول حين عرفنا همة أم خالد فأنشدنا لها:
رويدك أم خالد علمينا”…
(3)
من الفصل الأول: زواج أيديولوجي
ولم نكن كخطاب مرحّبا بنا لاسيما في الصعيد.. فاحتمالات التوظيف ضئيلة وكم من مرشح لوظيفة ضيعها خطاب الأمن الذي كانوا يسمونه استطلاع رأي، وكم من متعاقد مع شركة خاصة فسخ عقده باتصال تليفوني ولم يكن القضاء الإداري وقتها يتصدى لقرارات الجهات الأمنية كما هو الحال اليوم، وحتى صاحب الوظيفة كان مهدداً باعتقال أو مطاردة تضطره للهرب فيفقد عمله وكانت البيوت مستباحة في أي ليلة، والاعتقالات كانت تجري دائما بسبب وبلا سبب لكنها كانت لشهرين أو أكثر، وكثيرا ما كان الناس يروجون أخبارها بكلمة صدق وسطر أكاذيب، والمطاردات ليلا ونهاراً بل والقتل أيضا كان متوقعا فمن ذا الذي يغامر بتزويج ابنته لرجل كهؤلاء.. ومع ذلك تزوجنا ومن كان يمنع الزواج اليوم يقبل غدا..
وكان هناك اعتباران مؤثران في إتمام معظم تلك الزيجات:
السبب الأول: إصرار الأخت وهذه لم تكن متاحة لكل واحدة منهن فقد سمعنا بآباء كثرٍ أجبروا بناتهم على زواج ابن العم أو غيره ممن لا ينتمي لهذه الأفكار واستسلمت الابنة فرقا من جبروت الأب كما سمعنا بأخوات قلن لا نتزوج إلا بمن على هذه الهيئة ولو بقيت بلا زواج بقية العمر.
والسبب الثاني: القرابة واعتبارات القبلية: ففي حالات كثيرة في زواجنا يكون للأخ بنت عم أو بنت عمة أو بنت خالة ملتزمة مثله فيرتبط بها وإن كرْهاً وأذكر أن البعض من إخواننا كان يحاول تحاشي هذا الارتباط وهو يخطب حرصا على أواصر القربى من مظان البلاء المرتقب باعتقال أو ما هو أشد، فكم ترنمنا في إنشادنا:
ماضٍ وأعرف ما دربي وما هدفي والموت يرقبني في كل منعطف
(4)
من الفصل الثاني: رفيقات الأسى
كن مثلنا، متطلعات لعصور السلف متشبهات بأهله، كن متحمسات لقضايا الدين والوطن وقلوبهن تتوقد حماساً لنصرة الشرع وكان للأخوات في كل نشاط جامعي دورٌ ملموس ففي معارض الكتاب من يشاركن وفي زيارات المرضى حيث يزرن قسم النساء، ثم كن يتحمسن لقضايا الأقليات المسلمة والجهاد في أفغانستان، التي كنا نقيم حولها معارض مصورة بمجلات الحائط، حتى أن بعض إخواننا ممن سافروا إلى أفغانستان والشيشان اصطحبوا زوجاتهم معهم أو استقدموهن بعد سفرهم، وليس ببعيد استشهاد بعضهن في حرب أمريكا وغاراتها عام 2001 وبعض أخواتنا كن يتعمدن الارتباط بمن يتعرض للمحاكمات والاعتقال ولا ننسى إحدى أخواتنا من الرعيل الأول التي كانت مخطوبة لأخ قتل في أحداث أسيوط 1981 فما كان منها إلا أن طلبت الزواج من الدكتور عمر عبد الرحمن شخصيا وهو بعد في المحاكمة يترقب حكما بإعدامه بل ولم تقف عند فارق السن بينهما، وكانت وقتئذٍ طالبةً بكلية الهندسة واستمرت مع الشيخ حتى وفاته رحمه الله، وعلى مدار سني الاعتقال الطويلة كن في معظم الأحوال يرين أنها شراكة لا تقيل فيها ولا تستقيل حتى قالت إحداهن لأهلها لو أن الاعتقال يصيب المرأة أكان محمودا أن يطلقني وأنا في السجن؟؟ – ولم يكن أحد يتخيل أن هذا سيصير واقعا بعد سنوات فتعتقل النساء وأزواجهن في عافية – حتى وإن أصاب الجزع بعضهن بطول سني الاعتقال فقد صمد أغلبهن وصبرن لأسر الزوج حتى خرج.