القائمة إغلاق

ذكريات مُعتقل سياسي

بقلم: فضيلة الشيخ رجب حسن

لازلت وأنا أقرأ وردي من القرآن أقف طويلاً عند آيةٍ من سورة الجاثية فأرى من نور الله وإشراقاته شيئاً عجيباً.

ذلك أن لهذه الآية قصة في حياتي لا أنساها ما حييت.

حين تم ترحيلنا من سجون طره إلى معتقل الوادي الجديد، وأوصدت علينا أبوابه، ورأينا ما رأيناه لم تكن معنا مصاحف نقرأ منها القرآن، ولا كان قد سمح بدخولها إلينا.

عندئذٍ لم يكن لنا شغل ولا هم إلا أن نجمع القرآن من صدورنا، ونستظهره على ألسنتنا، ونحفظه لمن لم يكن يحفظه من إخواننا.

قد كانت تلك المهمة أشق من حمل الجبال الشامخة، فقد كان أحدنا إذا نسى أية رجع إلى المصحف ليتذكرها، واليوم إنما نبحث عن المصحف في صدور الرجال.

والمهمة بالنسبة لي أشق، والمسئولية أعظم.. فأنا أدرس لإخواني وقتها الفقه والحديث وغيرها فكيف لا أحفظهم القرآن.

بدأت أجمع القرآن من صدري وأتلوه وأقف عند كل آية أسأل فيها من حولي من إخواني في الزنزانة – فإن عجزنا عن جمع آية سألنا الزنزانة المجاورة في جنح الظلام.. وهكذا حتى اجتمع لي القرآن كله في صدري وعلى لساني إلا آية واحدة – لم يذكرني بها أحد – وأنا أعلم حيثما حفظت من المصحف أن في هذا الموضع من الصفحة آية – وصورة الصفحة لا تفارق ذهني – ولكن ما هي هذه الآية.

لقد مكثت مهموما ً ثلاثة أيام أبحث في نفسي عن تلك الآية حتى شق عليَّ ذلك – وقلت لعل الله حجبها عني لذنب وبينما أنا نائم استيقظت والقارئ في مسجد المنيرة “قرية تبعد عن السجن بثلاثة أميال” وهو يقرأ “وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ” فقلت: – هي.. هي.. إنها الآية التي أُنسيتُها.

فلا يعلم أحد قط كيف كانت سعادتي، ولا كيف تجلى لي الإيمان، وخالطت بشاشته قلبي فرأيت بنور الله نعيم الجنان.

قام إخواني للتهجد ولم أقم.. فأنا الآن أسرح في رياض الآية التي أنسيتها “وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ”.

أين ملوك الأرض ورؤساؤها وزعماؤها وعظماؤها إلى جنب قوله “وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ”؟

والجواب – لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض فلماذا وهم لا يوزنون بجناح بعوضة نلقي لهم بالا ً، أو نوليهم اهتماما ً أو نرهبهم ونخافهم وهم في ملك وسلطان من قال “وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ”

وهل ما نحن فيه من العنت والعناء والشدة والبلاء، وضيق العيش وشدة الكرب – هل يحدث هذا في مُلك أحد أو سلطان أحد إلا في ملك من قال “وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ” فإن كان ذلك يحدث في ملكه وسلطانه، وبعلمه وإرادته ومشيئته – فلماذا نحزن ونهن، ونضعف ونستكن؟ أليس هو الملك القادر القاهر الذي يملك ما في السموات وما في الأرض؟

إنه يدال لنا مرة ويدال علينا مرات فنفرح بالظهور والغلبة ونحزن بالقهر والاستضعاف.. ونحسب الظفر فلاحا ً ونجاحا ً، والضعف باطلا ً وخسرانا ً. هذا في الدنيا.. ولكن يوم القيامة يكون النصر والفلاح لأهله.. والخسران والبوار لأهله “وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ”

فإذا كانت النهايات في الآخرة معلومة – فلماذا ننشغل بنهايات الدنيا وهي كلها زائلة فانية، وننسى نهايات الآخرة الأبدية الباقية.

كنت أسرح في تلك المعاني وأجول حتى أذن المؤذن لصلاة الفجر ولم أُصل من الليل ركعة ولا صليت الوتر.. فما حزنت لذلك إذ كان فرحي بذكر الآية، ونعيمي بالتدبر في معانيها مذهبا ً لكل همومي وأحزاني.

إنني اليوم أعود فأذكرها وأذكر قصتي معها متنسما ً عبيرها مشتاقا ً لأن أجد في وقت السحر ساعة أعيش فيها مع تلك الآية العظيمة.. ولكن أنيَّ ذلك – وقد انقلب ليل الناس نهارا ً ونهارهم ليلا ً.. ولم يعد لظلام الليل معنى وأغلقت محاريب التهجد إلا من قومٍ لا ينشغلون بغير الله عن الله.. ولا يجدون لذتهم إلا إذا خلو بحبيبهم ونصبوا إليه أقدامهم وفرشوا إليه وجوههم.. وتملقوه بألسنتهم ودعائهم، وروت مدامعهم تراب محرابهم – إنهم قليل.. ولكن بمثلهم يحفظ الله الدين، ويمنع عن الناس عاجل العذاب والعقاب.

إن التفكر في آية واحدة والعيش في معانيها خير من قراءة القرآن كله بلا تدبر ولو أحسنا عبادة تدبر القرآن لفتح الله علينا من أبواب رحمته، ونور حكمته شيئا ً تفرج به الكروب وتكشف به الهموم، وتستمطر به الرحمة، وينزل به النصر والتمكين.

التعليقات

موضوعات ذات صلة