البلاء آثاره ومآثره
بقلم الشيخ :اسماعيل احمد
قال لي وقد قاربت المحنة من نهايتها.. “كنا في سجن الاستقبال منذ سنوات يوم قال أحد الخطباء:” لو عجزت جنود الأرض عن إخراجنا من السجون لسخر الله لنا ملائكته لتخرجنا”.. يقول:”وظللت سنينا أنتظر أن تأتي الملائكة..”وانقضت المحنة وزال البلاء وننتظر من الله الأجر الوفير يوم القيامة إن شاء الله، لكنني كلما سمعت خطيباً يحكي عن البذل لدين الله ويحث مستمعيه ويسوق من أخبار نصرة الله لعباده وتأييده لهم أشعر بالمسئولية تجاه صاحبي ذلك وأشباهه من بسطاء المؤمنين… اولئك الذين يقدمون على البذل وفي مخيلتهم الكرامة المتوقعة بنجاتهم.. وكلما ثقلت عليهم وطأة البلاء اهتزت في قلوبهم مثلٌ وقيم..
كانت أياماً حالكة في سجن الوادي أحفظ خلالها سورة هود وتوقفت أمام قولة صالح عليه السلام لقومه بعدما عقروا الناقة: فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) قلت ماذا لو تقمصنا موقف سيدنا صالح وخاب بعدها الوعيد، ووجدتني أبكي لما تتابع في خيالي من صور وملامح الاستبشار التي كنت أراها وأبثها في كثيرٍ من إخواني، ليلتها أراني ربي رؤيا أذهبت عني الحزن وفيها قدرً استبنته منذ عام واحد حين بدأ يتحقق لكنه لليوم لم يتم كما رأيت، لكن هذا الترقب لنصر الله جعلنا كلنا أقوياء تراودنا الدنيا عن يقيننا فنردها بإباء.. كانت السجون قد تحسنت بصورة كبيرة في مطلع عام 2001 حين فوجئنا بأسماء بضعة عشر أسوانيا يساقون رغما عنهم من سجن الفيوم الذي كان أخف السجون وطأةً يومها إلى سجن الوادي الجديد الذي لم ير الراحة حتى جاءته طلائع المشايخ في أكتوبر 2001( تحدث فينا الشيخ ناجح يوما يذكرنا بدخول المشايخ فقال لم يكن في السجن يومئذٍ مشط! فرد أحد الأخوة: ولا شعر!) وحين دخلنا السجن الكئيب وقبيل توزيعنا على العنابر حاول أحدهم أن يغرينا بنعيم التوبة ومزاياها- وصعبٌ على النفس التي تترك سعة إلى ضيق بشكلٍ مفاجئ وتعن لها فرصة توسعة أن لا تجيب –لكن إخواني جميعا وبلا استثناء وكنا يومئذٍ 17رجلاً أبوا وترفعوا على ذاك العرض، وكان هذا هو السائد فينا بنسبة كبيرة، تقول كان صبراً وإيماناً أجيبك نعم بالطبع ودعم تلك الروح ترقب ما عند الله تعالى من وعد بالنصر والفرج، وفوق هذا كنت ترى الصمود في الحفاظ على الإذاعة والذي لم يتوقف إلا مع قدوم المشايخ وطلبهم الصريح بوقفها وفي التكافل الذي كان يضمن للجميع حداً أدنى من اليسار والتوسعة..و.. و لكنني أعيد القول أن المقدم على البذل حين يرمي بطرفٍ لترقب المعجزة يكون أشد مضاءً وأصلبب عوداً ورغم ذلك أجدني أقرر لمن يجيء بعدي أن : توقع أن يمضي البلاء لمنتهاه، فكما نجا إبراهيم من النار ويونس من بطن الحوت لبث يوسف فس السجن بضع سنين وقتل يحيى وزكريا، وكما انتصر كثيرون انهزم كثيرون، وكلنا يحكي ويسمع قصة فتى سورة الأخدود الذي جعل الله كرامته في موته وأهل الكهف الذين ماتوا بعدما عرف الناس بقصتهم أي لم يكملوا بضعة أيام بعد يقظتهم ليعرف العالم قصتهم وليكن شعارك الأول هو قولة سحرة فرعون:” لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [طه : 72]
كان أكثر من يسامرني وكنت أجد متعة في أحاديثه وكان يتميز بقدرته على اختيار الموضوع الجذاب لحديث يمتد لساعات وربما أيام، لكن بعض خواطره كانت تغيظني ويضيق بها صدري، فقد كانت العادة أن تشيع الرؤيا التي يراها أحد الأخوة جواً من الاستبشار بيننا، لكنه سألني ببراءته: ومن أدرانا أن الإخوان لم يكونوا يروا رؤى؟ فقلت له وقد راعني ما خطر بباله:” اسكت يا فقري” ومضت بنا الأيام ورأينا نهاية المطاف فأعجب به البعض ورضوا وأحبط آخرون وحزنوا، ومنه من اهتزت الصورة في عينيه ومنهم من حكم على السلوك بالمآلات، مع أن مآل الحسين وعبد الله بن الزبير كان محزنا قاسياً ومثلهما سعيد بن جبير… وكنت أسوق مثلا بحالتنا لإخواني وأقول: لو دخلت غرفةً وأردت أن تدق مسمارا تعلق عليه ملابسك فهل تضع حمولتك بعد الدق مباشرةً ؟ بل تحاول أن تتأكد من رسوخ المسمار بهزه بقوة وحين ينخلع في يدك تدق بقوة أكبر، ولله المثل الأعلى نحن نضع أنفسنا لاحتمال أمانة عظيمة فينبغي أن نتعرض لهزات واختبارات عديدة قبل أن تعلق في أعناقنا تلك الأمانة.
في العشر الأوائل من ذي الحجة كانت إذاعتنا صوت الخلافة تبث أعمالا جميلة تشحذ الهمم في أيامٍ كنا نتسايق فيها على العبادة والطاعة، وتعين على التعبد والاحتمال، وكان في كل ما يقال صورةٌ كلما تأملتها شعرت بالعجز وتمنيت أن يعطيني الله مثل يقينها:صحراء لا نهاية لها وامرأة نفساء وطفلٌ رضيع عاشت تلك المرأة كل حياتها في أودية وأنهار وزرع وثمر لكن زوجها الذي تثق في حبه لها وأمانته ورجاحة عقله يريد أن يدعها تواجه الموت مع صغيرها في هذا الخواء، وبكل في النفس من جزع تتبعه وترجوه، ثم يعن لها سؤالٌ: أآلله أمرك بهذا؟ فيقول لها: نعم. فتقول بيقين إذاً لن يضيعنا وتركته ورجعت.. الرمال والصحراء هما هما والماء لم يظهر له أثرٌ بعد، والصغير لا يزال يتلوى… لكنها ترجع وتتركه!! أي يقين هذا بمعية الله؟ أي رضا بقدر الله؟ الست تشاطرني الشعور بالعجز إزاء هذا المستوى الرفيع؟ لكنه درسٌ قيم فيما نحن بصدده لو سألت نفسك قبل أن تقدم: أآلله أمرك بهذا؟ وفارق كبير بين أن تسعى بقصدٍ في طريق آخره بلاء وبين أن تساق دون إرادتك لهذا البلاء ورغم أن أمنا هاجر عليها من الله الرضوان والسلام كانت من الصنف الثاني، شأن المئات ممن كانوا معنا رغماً عنهم، لكنها اختارت هذا المقام العالي لثقتها في نبوة زوجها إبراهيم وكونه أمرٌ من الله، ولكن ماذا لو لم يثبت عندها أن الله قد أمر بهذا؟ كيف سيكون جزعها ورعبها؟ ورفضها لما يحدث.. وأعيد لمن سيأتي بعدي هذا هو درسك الثاني: أآلله أمرك بهذا؟ وقد كان يعجبني في أسوان وأسيوط أن يتعلم الأخوة الحكم الشرعي من مصادره قال الله وقال الرسول مع دعمه بشروح وتفاسير العلماء، ليكون على بصيرة بما يقول ويعمل.
في عام 2006 وقد آذنت المحنة بالنهاية قال لي صاحبي وأنا أسامره: لن أتبع كل قائل ولن أقبل ممن أرتضيه كل ما يقول، فقلت له بإعجاب: لو لم تخرج من سجنك سوى بهذا الدرس لكفاك.. وهذا ما كنا نتعلمه نظريا ونتناقله عن الأئمة العظماء الشافعي وأحمد ومالك وغيرهم مثل قول مالك رحمه الله: “كلٌ يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر وكان يشير إلى قبره صلى الله عليه وسلم، وقول أحمد رحمه الله: “لا تقلدني، ولا تقلد مالكاً، ولا الشافعي، ولا الأوزاعي، ولا الثوري، ولكن خذ من حيث أخذوا” وحين لا تكون أهلا لتفهم النص الشرعي والدراية بتفسيره حسبك أن تتعلم الحكم وتفهمه.. وأؤكد لك أن سعيك هذا يكفيك لأن الله سبحانه وتعالى يمدك بمددٍ من عنده لأنه قال لك ولي ولكل الناس:” والذين جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت : 69] .