د/ عبد الآخر حماد
كانت مسألة الحكم على مرتكب الكبيرة كما أسلفنا من أولى المسائل التي افترقت فيها فرق أهل القبلة، وهذا عرض موجز لآرائهم في ذلك:
فأما الخوارج: فقد كان تكفير أصحاب الكبائر من المسائل التي اتفقت عليها أكثر فرقهم، حتى صارت سمة رئيسة من سماتهم، قال أبو الحسن الأشعري: (وأجمعوا- أي الخوارج- على أن كل كبيرة كفر إلا النجدات ؛فإنها لا تقول ذلك، وأجمعوا على أن الله سبحانه يعذب أصحاب الكبائر عذابًا دائمًا إلا النجدات أصحاب نجدة)([1]).
وأما المعتزلة: فإن من أصولهم الخمسة المنْزلة بين المنزلتين، ويعنون بذلك كما مر في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية أن أصحاب الكبائر فساق ليسوا بمؤمنين ولا كافرين، لكنهم مخلدون في النار.
وأما المرجئة: فإنهم يخرجون العمل من مسمى الإيمان، والغلاة منهم على النقيض من قولي المعتزلة والخوارج، فإنهم يرون مرتكب الكبيرة مؤمنًا كامل الإيمان، ويقولون: إنه كما لا تنفع مع الكفر طاعة فإنه لا تضر مع الإيمان معصية.
قول أهل السنة والجماعة
وأما أهل السنة والجماعةفإنهم يقولون: إن مرتكب الكبيرة مؤمن ناقص الإيمان، وذلك مبني على تعريفهم للإيمان بأنه قول وعمل، وأنه يزيد وينقص.
وعلى ذلك فإن إتيان المعاصي التي هي دون الكفر يُنقِص الإيمان ولا يزيله بالكلية قال الإمام البخاري -رحمه الله-: (لقيت أكثر من ألف رجل من أهل العلم، أهل الحجاز ومكة والمدينة والكوفة والبصرة وواسط وبغداد والشام ومصر، لقيتهم كرات قرنًا بعد قرن أدركتهم وهم متوافرون منذ أكثر من ست وأربعين سنة… فما رأيت واحدًا منهم يختلف في هذه الأشياء: أن الدين قول وعمل… ولم يكونوا يكفرون أحدًا من أهل القبلة بالذنب لقوله: “إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء”…)([2]).
وإذا فقد توسط أهل السنة والجماعة في مسألة مرتكب الكبيرة؛ إذ إنهم كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (لا يسلبون الاسم على الإطلاق، ولا يعطونه على الإطلاق، فنقول هو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن عاص، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، ويقال ليس بمؤمن حقًا أو ليس بمؤمن صادق الإيمان)([3]).
بعض الأدلة على صحة مذهب أهل السنة والجماعة :
لا شك أن قول أهل السنة والجماعة هو الحق الذي تدل عليه أدلة الشرع الحنيف ومن تلك الأدلة ما يلي:
أولًا: إن هناك أصلًا محكمًا يجب أن نرد إليه كل ما اشتبه علينا فهمه من نصوص الوعد والوعيد، وهو قوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء)([4])، فقد قسمت الآية الكريمة ما يعصى الله به إلى قسمين: الشرك وما دونه، ثم بينت أن من مات على ذنب خلا الشرك بالله فإنه تحت المشيئة إن شاء الله عذبه وإن شاء غفر له، وذلك من أقوى دليل على بطلان القول بأن المعاصي كلها كفر، وبهذا استدل البخاري كما سبق النقل عنه رحمه الله.
ثانيًا: إن هناك نصوصًا واضحة في نفي الكفر عمن ارتكب بعض الذنوب التي هي من الكبائر بيقين، مثل قوله تعالى: “وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين * إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون”([5]).
قالالبخاري: (فسماهم المؤمنين)([6]) أي رغم اقتتالهم، وفي هاتين الآيتين أقوى رد على استدلالهم بحديث: “لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض”؛ إذ لو كان كل من قاتل أخاه بغير حق كافرًا لما سمى الله الفئتين المتقاتلتين بالمؤمنين، ولما عدهم إخوة للمؤمنين.
قالشيخ الإسلام ابن تيميةتعليقًا على هاتين الآيتين: (فبين أن هؤلاء لم يخرجوا من الإيمان بالكلية، ولكن فيهم ما هو كفر، وهو هذه الخصلة، كما قال بعض الصحابة: “كفر دون كفر”، وكذلك قوله: “من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما”، فقد سماه أخاه حين القول، وقد أخبر أن أحدهما قد باء بها؛ فلو خرج أحدهما عن الإسلام بالكلية لم يكن أخاه)([7]).
ثالثًا: أحاديث الشفاعة التي تثبت خروج أقوام من النار ودخولهم الجنة، ومن تلك الأحاديث حديث أنس بن مالك، وفيه قوله -صلى الله عليه وسلم-: “فيأتوني فأستأذن على ربي، فيؤذن لي، فإذا أنا رأيته وقعت ساجدًا، فيدعني ما شاء الله، فيقال: يا محمد ارفع رأسك، قل تسمع، سل تعطه، اشفع تشفع، فأرفع رأسي فأحمد ربي بتحميد يعلمنيه ربي، ثم أشفع فيحد لي حدًا فأخرجهم من النار، وأدخلهم الجنة، ثم أعود فأقع ساجدًا، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقال: ارفع رأسك يا محمد، قل تسمع، سل تعطه، اشفع تشفع، فأرفع رأسي فأحمد ربي بتحميد يعلمنيه ثم أشفع فيحد لي حدًا فأخرجهم من النار، وأدخلهم الجنة، قال فلا أدري في الثالثة أو في الرابعة قال: فأقول: يا رب ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن، أي:وجب عليه الخلود”([8]).
وبهذه الأحاديث استدلجابر بن عبد الله –رضي الله عنهما- على بعض من كان يرى رأي الخوارج، وكانوا ينوون الخروج على الناس كما في صحيح مسلم من طريق التابعي الجليل يزيد الفقير، حيث ذكر لهم جابر رضي الله عنه أن المقام المحمود الذي يُبعثه النبي صل الله عليه وسلم هو أن يشفع في أقوام فيخرجون من النار بعد أن يكونوا فيها، وأنهم يخرجون كأنهم عيدان السماسم، فيدخلون نهرًا من أنهار الجنة، فيغتسلون فيه، فيخرجون كأنهم القراطيس، قاليزيد الفقير –رحمه الله-: (فرجعنا قلنا: ويحكم أترون الشيخ يكذب على رسول الله صل الله عليه وسلم، فرجعنا فلا والله ما خرج منا غير رجل واحد)([9]).
رابعًا: إن نصوص القرآن والسنة تدل على أن الزاني والسارق والقاذف تقام عليه حدود شرعية معينة، وذلك من أقوى الأدلة على بطلان القول بتكفير مرتكب الكبيرة ؛فإنه لو كان صاحب الكبيرة كافرًا لوجب قتله ردة، ولما شرعت تلك الحدود؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فإن الله سبحانه أمر بقطع يد السارق دون قتله، ولو كان كافرًا مرتدًا لوجب قتله؛ لأن النبي -صل الله عليه وسلم- قال: “من بدل دينه فاقتلوه”..)([10]).
وقد ثبت في الحديث الصحيح عنالنبي –صل الله عليه وسلم- أنه قال: “من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء، فليتحلله منه اليوم، قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه، فطرحت عليه ثم ألقي في النار”([11]).
قالابن أبي العزتعليقًا على هذا الحديث: (فثبت أن الظالم تكون له حسنات يستوفي المظلوم منها حقه)([12]).
خامسًا: استدلت الخوارج والمعتزلة بنصوص الوعيد كقوله تعالى: “ومن يعص الله ورسوله يدخله نار جهنم خالدين فيها أبدًا”([13])، وقابلهم المرجئة فاستدلوا بنصوص الوعد كقوله تعالى: “ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها النهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم”([14])، فالأولون فسروا الآية الأولى على أن أي معصية توجب الكفر أو الخلود في النار، والآخرون فهموا الآية الثانية على أن أي طاعة توجب الخلود في الجنة.
ومن السنة النبوية نجد من نصوص الوعيد حديث أبي هريرة مرفوعًا: “لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن….”([15])، وبهذا الحديث وأمثاله استدل الخوارج على كفر كل من ارتكب كبيرة من الكبائر، ويقابل ذلك من نصوص الوعد حديث أبي ذر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “أتاني آت من ربي، فأخبرني أو قال بشرني أنه من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة، فقلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق”([16]).
وبمثل هذا الحديث استدلت المرجئة على التقليل من أهمية العمل، حتى قال غلاتهم إنه لا تضر مع الإيمان معصية، لكن (إذا اجتمعت نصوص الوعد التي استدلت بها المرجئة ونصوص الوعيد التي استدلت بها الخوارج والمعتزلة تبين لك فساد القولين، ولا فائدة في كلام هؤلاء سوى أنك تستفيد من كلام كل طائفة فساد مذهب الطائفة الأخرى)([17]).
وأهل السنة والجماعة هم أسعد الناس بهذه النصوص؛ إذ جمعوا بينها ولم يضربوا بعضها ببعض: فإنهم حملوا المعصية في قوله تعالى: “ومن يعص الله ورسوله يدخله نار جهنم خالدين فيها أبدًا”([18]) على معصية الكفر الأكبر، وحملواقوله تعالى: “ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها النهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم”([19])، على أنه متعلق بأهل الإيمان الكامل الذين لم يتلبثوا بمعصية، أو أن هذا حالهم بعد أن يُحاسَب أهل المعاصي على معاصيهم فيعفو الله عنهم أو يعاقبهم بقدر ذنوبهم ثم يخرجهم من النار إلى الجنة كما مر في ذكر أحاديث الشفاعة.
وحملوا نفي الإيمان المذكور في حديث أبي هريرة وغيره على الإيمان المطلق أي الكامل فيذهب عن صاحب الكبيرة غير التائب الإيمانُ المطلق، ويبقى معه مطلق الإيمان، وحملوا دخول أرباب الكبائر الجنة كما في حديثأبي ذرعلى الدخول المطلق الذي لا يلزم منه دخولها في أول الداخلين بل هم مستحقون للوعيد، فإن شاء الله غفر لهم وأدخلهم الجنة، وإن شاء عذبهم ثم أدخلهم الجنة بعد ذلك، قالالنوويرحمه الله في شرح حديث “لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن”:(هذا الحديث مما اختلف العلماء في معناه، فالقول الصحيح الذي قاله المحققون أن معناه: لا يفعل هذه المعاصي وهو كامل الإيمان، وهذا من الألفاظ التي تطلق على نفي الشيء ويراد نفي كماله ومختاره، كما يقال: لا علم إلا ما نفع، ولا مال إلا الإبل، ولا عيش إلا عيش الآخرة، وإنما تأولناه على ما ذكرناه لحديث أبى ذر وغيره: “من قال لا إله إلا الله دخل الجنة، وإن زنى وان سرق”، وحديث عبادة بن الصامت الصحيح المشهور: أنهم بايعوه صلى الله عليه وسلم على أن لا يسرقوا، ولا يزنوا ولا يعصوا… إلى آخره، ثم قال لهم صلى الله عليه وسلم: “فمن وفَّى منكم فأجره على الله، ومن فعل شيئا من ذلك فعوقب في الدنيا فهو كفارته، ومن فعل ولم يعاقب فهو إلى الله تعالى إن شاء عفا عنه وان شاء عذبه”، فهذان الحديثان مع نظائرهما في الصحيح، مع قوله الله عز وجل: “إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء”، مع إجماع أهل الحق على أن الزاني والسارق والقاتل وغيرهم من أصحاب الكبائر غير الشرك لا يكفرون بذلك، بل هم مؤمنون ناقصو الإيمان، إن تابوا سقطت عقوبتهم، وإن ماتوا مصرين على الكبائر كانوا في المشيئة فإن شاء الله تعالى عفا عنهم وأدخلهم الجنة أولًا، وإن شاء عذبهم ثم أدخلهم الجنة، وكل هذه الأدلة تضطرنا إلى تأويل هذا الحديث وشبهه ثم إن هذا التأويل ظاهر سائغ في اللغة مستعمل فيها كثيرًا… وتأول بعض العلماء هذا الحديث على من فعل ذلك مستحلًا له مع علمه بورود الشرع بتحريمه، وقالالحسن وأبو جعفر محمد بن جريرالطبري: معناه ينْزع منه اسم المدح الذي يسمى به أولياء الله المؤمنين، ويستحق اسم الذم فيقال: سارق وزان وفاجر وفاسق، وحكي عنابن عباسرضي الله عنهما أن معناه يُنْزَع منه نور الإيمان…)([20]).
[1] – مقالات الإسلاميين ص:86.
[2] – شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي:1/193-196.
[3] – مجموع الفتاوى:7/ 673.
[4] – النساء: 48، 116.
[5] – الحجرات:9 -10.
[6] – صحيح البخاري: (1/84- فتح)
[7] – مجموع الفتاوى:7/355.
[8] – أخرجه البخاري (6556) ومسلم (193).
[9] – أخرجه مسلم (191).
[10] – مجموع الفتاوى: (7/482)، وحديث: (من بدل دينه فاقتلوه) أخرجه البخاري: (3017) وأبو داود (4351) والترمذي (1458) والنسائي (7/104) وابن ماجه (2535) من حديث ابن عباس.
[11] – أخرجه البخاري (2449) والترمذي (2419) وأحمد (2/435) وابن حبان (16/361- إحسان).
[12] – شرح الطحاوية ص: 443.
[13] – الجن:23.
[14] – النساء: 13.
[15] – أخرجه البخاري (2475) ومسلم (57) وأبو داود (4689) والترمذي (2625) والنسائي (4870) وابن ماجه (3936) من حديث أبي هريرة.
[16] – أخرجه البخاري (1237) ومسلم (94) والترمذي (2644).
[17] – شرح الطحاوية لابن أبي العز ص: 444.
[18] – الجن: 23.
[19] – النساء: 13.
[20] – شرح صحيح مسلم: 1/319-320.
“بدعة التكفير بالمعصية”

التعليقات