القائمة إغلاق

البدعة

بقلم: المهندس أسامه حافظ
ما أكثر ما يستخدم العلماء وطلبة العلم اصطلاح البدعة ليصفوا بها صنفاً من المستحدثات ويسمونها بالذم والضلالة … وما أكثر من عرفوا البدعة ووصفوها وتكاثرت صياغاتهم بعضها دقيق في التعبير عن المعني والبعض منها يحتاج للضبط .. وقد تاهت المعاني بين أهل الاصطلاح واختلطت بصورة جعلت تطبيقاتها تزداد صعوبة واختلاطاً وتثير الخلاف والنزاع.
والحق أن تحرير الاصطلاح وضبطه هو أول الطريق لضبط تطبيقاته وضمان ألا يدخل في المسمي ما ليس منه أو يخرج منه ما هو منه لذلك فإنني سأحاول في هذه العجالة أن آخذ من كلمات علمائنا الأجلاء من سلفنا الصالح ومن تبعهم بإحسان ما يضبط هذا الاصطلاح ليكون مقدمة لعدم استخدامه في غير موضعه سواء بإطلاقه علي ما ليس منه أو العكس.
البدعة في اللغة هي الإنشاء علي غير مثال سابق … ومن هذا المعني اللغوي استمدت المعاني الشرعية.
ويقدم العلامة الشاطبي في سفره الرائع ” الاعتصام ” ” طبعته مكتبة الأسرة هذه الأيام بسعر زهيد أرجو ألا يفوت إخواننا اقتناؤه” لحديثه عن البدع وأقسامها بتعريف هذا الاصطلاح حيث يذكر وجود مدرستين في هذا التعريف
المدرسة الأولي تقتصر في تعريف البدعة علي البدعة المذمومة الضلالة ويعرفونها – نقلاً عن الشاطبي – ” هي طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله تعالي ” وعليه فطبقاً لهذا التعريف فانه ليس كل طريق مخترعة في الدين علي غير مثال سابق تعد بدعة مذمومة وإن ضاهت الشرعية إلا أن يكون متعبداً بها عملاً أو قولاً أو اعتقاداً .. فجمع المصحف ونقطه وشكله وتقسيمه أرباعاً وأحزاباً وأجزاءاً وإن كان مخترعاً علي غير مثال سابق وهو أيضاً من الدين ليس من البدع ومثله اختراع العلوم الشرعية من فقه وأصول وعقيدة ومثله الأذان الثاني وهكذا .. ومن باب أولي ألا يوصف بالبدعة هنا ما ليس من الدين من مخترعات وكذا ما ليس مضاهياً للطريقة الشرعية.
وهذا التعريف اختاره كثير من العلماء القدماء والمحدثين فقد عرف البدعة مثلاً الشيخ ابن عثيمين بأنها ” هي البدعة في العبادات بأن يتعبد الإنسان لله عز وجل بما لم يشرعه سواء كانت هذه العبادات تتعلق بالعقيدة أو تتعلق بقول اللسان أو تتعلق بأفعال الجوارح فالبدعة شرعاً هي التعبد لله عز وجل بما لم يشرعه ” وكذا قالت اللجنة الدائمة ” هي العبادة التي لم يشرعها الله عز وجل كالاحتفال بالموالد والاحتفال بليلة الإسراء والمعراج ورفع الصوت بالصلاة علي النبي عليه الصلاة والسلام من المؤذن بعد انتهاء الأذان وأشباه ذلك “.
أما المدرسة الثانية وهي ما عليه جمهور العلماء فمسمي البدعة عندهم يتسع ليشمل المذمومة والممدوحة من المحدثات وأن ما سلف تعريفه في المدرسة الأولي هو جزء منها ويوضحها الشاطبي بقوله ” البدعة طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بها ما يقصد بالشرعية ” فيدخل فيها العادات والمصالح المرسلة وغيرها ويستدلون عليها بحديث ” من سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلي يوم القيامة ومن سن سنة سيئة فوعليه وزرها ووزر من عمل بها إلي يوم القيامة ” – ولا يذهبن أحد كما يقول البعض إلي تفسير قوله من سن سنة حسنة بأنه من أحيا سنة وإلا فالسؤال المنطقي وماذا عن الشطر الآخر من الحديث – أما حديث ” ….وكل بدعة ضلالة ….” فيقول النووي في شرح مسلم تعليقاً عليه ” هذا عام مخصوص والمراد به غالب البدع ” ثم قسم البدعة إلي خمسة أقسام .. وقد نقل النووي في شرح مسلم وابن حجر في الفتح كلام العز بن عبد السلام في كتابه الفريد ” قواعد الأحكام في مصالح الأنام ” – الكتاب من أبدع ما كتب في باب تعارض المصالح أدعو إخواني جميعاً لقراءته – يقول ” البدعة فعل ما لم يكن علي عهد النبي صلي الله عليه وسلم وهي منقسمة إلي بدعة واجبة وبدعة مستحبة وبدعة محرمة وبدعة مكروهة وبدعة مباحة ….ويضيف والطريق إلي معرفة ذلك أن تعرض البدعة علي قواعد الشرع “.
وعند البيهقي في مناقب الشافعي ينقل عنه بسند صحيح قوله ” المحدثات من الأمور ضربان أحدهما ما أحدث مما يخالف كتاباً أو سنة أو إجماعاً أو أثراً فهذه البدعة الضلالة والثانية ما أحدث من الخير ولا يخالف كتاباً أو سنة أو إجماعاً فهذه محدثة غير مذمومة“.
ويقول الغزالي في الإحياء جـ 2 صـ 248 ” ليس كل ما أبدع منهي عنه بل المنهي عنه بدعة تضاد سنة ثابتة وترفع أمراً من الشرع “.
ويقول ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم 1/297 ” فتعظيم المولد واتخاذه موسماً قد يفعله بعض الناس ويكون له فيه أجر عظيم لحسن قصده وتعظيمه للرسول صلي الله عليه وسلم كما قدمته لك أنه يحسن من بعض الناس ما يستقبح من المؤمن المسدد ولهذا قيل للإمام أحمد عن بعض الأمراء أنه أنفق علي مصحف ألف دينار ونحو ذلك قال دعه فهذا أفضل ما أنفق فيه الذهب أو كما قال مع أن مذهبه أن زخرفة المصاحف مكروهة وقد تأول بعض الأصحاب أنه أنفقها في تجويد الورق والخط وليس مقصود أحمد هذا وإنما قصده أن هذا العمل فيه مصلحة وفيه أيضاً مفسدة كره من أجلها “.
ويقول أبو شامة شيخ الإمام النووي في كتابه القيم ” الباعث علي إنكار البدع والحوادث ” “البدعة الحدث وهو ما لم يكن في عصر النبي صلي الله عليه وسلم مما فعله أو أقر عليه والحوادث منقسمة إلي بدعة حسنة وبدعة مستقبحة ” ويقول ابن الأثير في النهاية جـ 1 صـ 81 ” البدعة بدعتان بدعة هدي وبدعة ضلالة فما كان في خلاف ما أمر الله به ورسوله صلي الله عليه وسلم فهي في حيز الذم والإنكار وما كان واقعاً تحت عموم ما ندب إليه وحض عليه فهو في حيز المدح وما لم يكن له مثال موجود كنوع من الجود والسخاء وفعل المعروف فهو من الأفعال الممدوحة “.
وقد وافق هذا المعني كما ذكرنا جمهور العلماء ومنهم غير من أشرنا اليه القرافي المالكي والزرقاني وابن عابدين وابن الجوزي وابن حزم والبيهقي والفيروزابادي في القاموس وأبو نعيم وابن رجب ومحمد بن عبد الوهاب وغيرهم.
ومن هذا الوصف السريع يمكن أن نميز بين المدرستين وندرك أنه لا يوجد ثمة تناقض بينهما وإنما هو ما اصطلح عليه كل فريق فقد عم الجمهور التعريف فأدخل فيه المحدثات الممدوحة في الدين بينما خص الفريق الآخر فاكتفي بإدخال المحدثات المذمومة فيه ولا مشاحة في الاصطلاح .. وإنما يبقي بعد ذلك الخلاف حول التطبيق علي الوقائع والأفعال وهو ما نسميه ” تحقيق المناط ” وهو خلاف ليس في أصول التعريف وإنما في التنزيل علي الواقع وللمجتهد أن يبذل فيه جهده ويري فيه رأيه وينال أجر ذلك ما دام مستجمعاً أدواته باذلاً جهده حسناً مقصده أصاب في ذلك أو أخطأ.

التعليقات

موضوعات ذات صلة