بقلم : د. عبد الآخر حماد
ذم الإسلام التشدد وعاب أهله ،ونهى عن التنطع والغلو في الدين ،ففي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه ) .[أخرجه البخاري (39) والنسائي ( 8/122) ]، وعند مسلم من حديث ابن مسعود مرفوعاً : ( هلك المتنطعون ) قالها صلى الله عليه وسلم ثلاثاً [أخرجه مسلم (2670) وأبو داود ( 4608) وأحمد ( 1/386)].والمتنطعون هم المتعمقون المشددون في غير موضع التشديد ،وعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إياكم والغلو في الدين ، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين ) . [أخرجه النسائي ( 5/268) وابن ماجه ( 3029) وأحمد ( 1/215) ].
ولا شك أن الغلو في الدين مناف لاعتدال الإسلام ووسطيته ، لكن ذلك لا يجوز أبداً أن يُتخذ ذريعة للتساهل في أمور الدين وتمييع أحكامه .
بيد أنا نرى أقواماً يشككون -تحت دعوى الوسطية – في أحكام قطعية زاعمين أن المنادين بها متشددون مخالفون لوسطية الإسلام وسماحته ،وصار كلٌّ يضع في سلة التشدد والتطرف من يراه متشدداً بالنسبة لما يراه هو لا بالنسبة لما تقتضيه النصوص الشرعية .
فقد رأينا من يزعم أنه ليس في الإسلام شيء يسمى حد الردة ،بل زعم بعضهم أن الإسلام لا يمنع المسلم من أن يغير دينه إلى دين آخر أو حتى إلى لا دين ،مع أن الله يقول : ( ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) [البقرة 217 ]، وراح بعضهم يشكك في حديث : ( من بدل دينه فاقتلوه ) ، وقد استمعت إلى أحدهم منذ فترة على شاشة قناة الجزيرة وهو يزعم أن هذا الحديث مرسل لم يبلغ درجة الصحة ،مع أن الحديث صحيح .[ أخرجه البخاري (3017) ، (6922) وأبو داود (4351) والترمذي (1458) ،والنسائي (7/104) وابن ماجه (2535) من حديث ابن عباس ].
وقد صح في الحديث أيضاً عن عثمان رضي الله عنه أنه قال : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد إسلام ، أو زنا بعد إحصان ، أو قتل نفس بغير نفس ). [أخرجه أبو داود (4502) والترمذي (2158) والنسائي (7/90) وابن ماجه (2533) وإسناده صحيح].
وقد وقع الإجماع على عظم أمر الردة ،وأنه لا يعدلها ذنب من الذنوب ،قال ابن عبد البر عند الكلام على حديث من بدل دينه فاقتلوه : (( وفقه الحديث أن من ارتد عن دينه حل دمه وضربت عنقه ، والأمة مجتمعة على ذلك ، وإنما اختلفوا في استتابته ؛ فطائفة منهم قالت لا يستتاب على ظاهر الحديث ويقتل ، وطائفة منهم قالت يستتاب )).[التمهيد (5/306) ].
ولا يعرف لهذا الحكم مخالف بين أهل العلم إلا أن هناك قولاً لإبراهيم النخعي رحمه الله يرى أن المرتد يستتاب أبداً ،وهو قول مردود لمصادمته الحديث الصحيح ،قال ابن قدامة في تعليقه على قول النخعي : (( وهذا يفضي إلى أن لا يقتل أبداً ،وهو مخالف للسنة والإجماع )).[ المغني مع الشرح الكبير 10/75] .
ومع شذوذ هذا الرأي إلا أنه لا يعني عدم تجريم الردة ،وإنما غاية ما فيه أنه لا يرى عقوبة القتل حتماً لازماً ،لأن قوله : (يستتاب أبداً ) معناه أنه قد ارتكب جرماً، وهل يستتاب إلا من ذنب؟ أما أصحاب القول المشار إليه فإنهم يرون أن الردة لا تمثل جريمة أصلاً ،وأنه لا يصح أن يعاقب عليها بأي نوع من العقوبة ،فإذا خالفتهم في قولهم رموك بالتشدد والتطرف ومجافاة الوسطية .
ومثال ذلك أيضاً القول بأن حديث (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ) ليس عاماً وإنما هو خاص بالقوم الذين قيل بشأنهم وهم الفرس ،لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال ذلك لما بلغه أن الفرس ولوا ابنة كسرى عليهم ،مع أن قوله صلى الله عليه وسلم : (قوم) نكرة في سياق النفي وهي مفيدة للعموم كما هو مقرر في علم الأصول ، وقد تقرر في علم الأصول أيضاً أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ،كما أن هذا هو فهم الصحابي راوي الحديث أبي بكرة نفيع بن الحارث رضي الله حيث قال كما في صحيح البخاري (7099) : ( لقد نفعني الله بكلمة أيام الجمل لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن فارساً ملكوا ابنة كسرى ،فقال : لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) .
أي أن الله تعالى قد نفعه بهذا الحديث فلم يخرج يوم الجمل مع طلحة والزبير رضي الله عنهما لأن عائشة رضي الله عنها كانت معهم على رأس الجيش .
وما أحوج أولئك المتأولين إلى أن يُرد عليهم بمثل ما رد به الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان رضي الله عنه لما قال قوم إن قوله تعالى : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) إنما نزل في اليهود ،فقال : ( نِعْمَ الإخوة لكم بنو إسرائيل إن كانت لكم كل حُلْوة ولهم كل مُرَّة . ([تفسير الطبري : 10 / 348].
ومن أمثلة ذلك أيضاً أن بعض المعاصرين يبيح للمسلمين المقيمين في ديار الغرب أن يشتروا البيوت بالربا ،تحت دعوى الضرورة أو الحاجة ويعتبرون ذلك دليلاً على وسطية الإسلام ويسر أحكامه مع إقرارهم بحرمة الربا وكونهم لا يجيزون ذلك في بلاد المسلمين ،مع أنه لو صحت دعوى الحاجة هذه لكان الناس في بعض بلاد المسلمين أحوج إلى ذلك من المقيمين في ديار الغرب،وذلك أن الحكومات في البلاد الغربية تلزم نفسها بإعانة غير القادرين على استئجار مساكن تؤويهم ،في حين أن ذلك لا يحدث في غالبية بلاد المسلمين ،ومع ذلك فهم لا يفتون –ونحن معهم – بجواز تلك المعاملة في بلاد المسلمين .
إن بعض أولئك المترخصين يرفعون شعار التيسير ورفع الحرج ،وكثير منهم يحتجون بأن أن الرسول صلى الله عليه وسلم ( ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما)كما قالت عائشة رضي الله عنها ،وهذا حديث صحيح [أخرجه البخاري ( 3560) ومسلم (2327) وأبو داود (4785) ] ،إلا أن بعض من يحتجون به يغفلون عن أمر مهم وهو أن هذا القول متوجه إلى المباحات ؛ فما كان من أمرين مباحين وخير رسول الله r بينهما إلا اختار أيسرهما ،فأما إن كان الأيسر حراماً فإنه لم يكن ليختاره أبداً ؛ ولذا قالت عائشة رضي الله عنها في تتمة الحديث السابق ( ما لم يكن إثماً ، فإن كان إثماً كان أبعد الناس عنه ) .
وبعد: فإنه إذا كانت الوسطية في الإسلام تعني البراءة من كل تشدد وتنطع ،فإنها تعني أيضاً البراءة من كل تساهل وتمييع للأحكام ،بحيث لا يكون هناك إفراط ولا تفريط ،فإن الله عز وجل ما أمر بأمر إلا وللشيطان فيه -كما يقول الإمام ابن القيم- نزغتان (( إما إلى تفريط وإضاعة ،وإما إلى إفراط وغلو . ودين الله وسط بين الجافي عنه والغالي فيه ، كالوادي بين جبلين والهدى بين ضلالتين والوسط بين طرفين ذميمين ، فكما أن الجافي عن الأمر مضيع له فالغالي فيه مضيع له ، هذا بتقصيره عن الحد وهذا بتجاوزه الحد )). [مدارج السالكين ( 2/ 496) ]. فالإفراط في طرف ويقابله على الطرف الآخر التفريط ،ودين الله وسط بينهما ،وكلا طرفي قصد الأمور ذميم.
الوسطية لا تعني التساهل في الأحكام

التعليقات