بقلم: المهندس أسامه حافظ
في مثل هذه الأيام منذ أكثر من مئتي عام كان التاريخ يحبس أنفاسه ويحمل قلمه ليسجل مشهداً من أعظم ما شهد تاريخ بلادنا من أحداث وما أكثر ما مر به من أحداث.
كان بطلا هذا المشهد هما الجنرال كليبر ساري عسكر الفرنسيس في بر مصر المحروسة وسليمان الحلبي. والجنرال المذكور لمن لا يعرفه كان هو القائد الذي خلّفه بونابرت علي قيادة حملته علي مصر وسنه لم تجاوز الثلاثين إلا بقليل.
أما سليمان لمن لا يعرفونه وما أكثر من جهله قبل الحادثة وبعدها فهو شاب حلبي في عمر الزهور -24سنه – جاء من حلب إلي مصر ليغازي في سبيل الله –كما صرح بنفسه فيما بعد-.
في هذا اليوم المشهود..كان كليبر قد ثمل لكثرة ما شرب من دماء المصريين التي أراقها في ثورة القاهرة الثانية وخاصة من أبناء حي بولاق..وقد اتخم لكثرة ما سلب من مال المصريين ومن نهب بيوتهم التي هدمها حتي صار من بقي من حي بولاق-وما أقلهم – قد صار في أحقر وأذل وأفقر حال.
في هذا اليوم المشهود كان سليمان في الأزهر يلتقي بشيوخه ورفقائه – أو من بقي منهم – الذين قادوا الثورة ضد الفرنسيس وقاتلوهم من بيت إلي بيت حتي أخمدت ثورتهم بأبشع الأساليب التترية في الهدم والتخريب والحرق والقتل.
في هذا اليوم كان الجنرال يسكن في قصر الألفي بك الذي اتخذوه مقراً ليسكن القائد العام للحملة ينام علي فرشه الوثيرة و يطعم أفضل ما فيه من طعام..بينما كان سليمان ينام علي حصير الأزهر وربما كان ينازع بعضاً من حشراته وهي تتقافز علي جلده البرونزي الجاف.
والآن..هاهو المشهد يبدأ في حديقة القصر الغناء..الجنرال المنتفخ المنتفش المنتشي يتنزه مع طبيبه الخاص في أرجاء الحديقة بينما كان سليمان قابعا ً في ركن من أركانها يمسك خنجره بيده.
ثم..هاهو يتقدم نحو الجنرال ماداً يده..الجنرال يظن أنه متسول جاء ليسأله شيئاً فقال الكلمة المصرية الوحيدة التي تعلمها من طول إقامته في البلاد- ما فيش- وإذا بالشاب يخرج خنجره من وراء ظهره ليغمده في صدر الجنرال..ويعود لينزعه ثم يغمده..ثم ينزعه ثم يغمده ست مرات..ولولا نجاسة دمه لولغ فيه لشدة ما يحمل من غيظ الدماء التي سالت والبيوت التي هدمت والمتاع الذي نهب..وينتهي هذا المشهد وتوقف التاريخ عن الكتابة لحظات .. ثم هاهو يعود للكتابة من جديد
أما الجنرال فقد انتهي تاريخه الذي سطره بأشلاء ودماء الضحايا وذهبت أمجاده التي نصب لواءها علي خرائب وحريق البلاد وجماجم أصحابها.
أما الشاب المؤمن فقد وضع أطراف إحدي قدميه علي بدايات الحياة الخالدة مع الصديقين والشهداء-والله حسيبه- ولكن قدمه الأخري بقيت في الدنيا لتسطر صفحات بقيت له لتذكر به الناس ليتعلموا الدرس.
كانت الصفحة الأولي في التحقيقات حيث أنكر كل شئ فتدافعت السياط تمزق جسده النحيل- علي عادة أهل البلاد(هذه العبارة الأخيرة مسطورة بالنص في محضر التحقيقات كما نقله الجبرتي.
وهكذا انتزعوا بالسياط اعترافاً بتنظيم من ثلاثة شيوخ عرفوا وأنكروا ولكنهم لم يبلغوا-يسمونها جريمة علم ولم يبلغ-وقائد تركي- أجنبي- كمحرض وبضعة دنانير أعطاها له ليستعين بها علي الطريق”تنظيم سري بتحريض وتمويل أجنبي“.
أما الصفحة الثانية فكانت محاكمة عسكرية كأبشع ما تكون همجية من نفايات الفرنسيس بلاد الحرية والإخاء والمساواة كانت المحكمة هي الخصم والقاضي وانتهت بحكم تتري يحتقر جنكيز خان نفسه لو حكم به وهي أن تقطع رؤوس الشيوخ الثلاثة وتحرق جثثهم أمام سليمان الحلبي ثم تحرق يد سليمان علي الفحم ثم يقتل علي الخازوق.
(والخازوق لمن لا يعرفونه هو عود مدبب يضعون المتهم عليه لينفذ من إسته ويمض ممزقاً الأحشاء بينما المتهم مقيداً فوقه لا يملك فكاكاً)..هل رأيتم همجية أكثر من ذلك!!
أما الصفحة الأخيرة فكانت علي تل -تعرفونه بالتأكيد – كانوا يسمونه ساعتها تل العقارب حيث حشدوا الناس..وبدأوا بقطع رؤوس الشيوخ الثلاثة- أعضاء التنظيم المذكور- ثم حرقوا جثثهم ثم انثنوا إلي سليمان ليضعوا يده علي الفحم لتتصاعد منها رائحة الشواء بينما بقي سليمان ثابتاً لا تظهر علي وجهه مسحة من ألم ولا يرتفع صوته معرباً عن جزع حتي حرقت يده تماماً ثم رفع علي الخازوق.
وينتهي المشهد الأخير والناس ينصرفون وسليمان علي الخازوق تحوم من حوله الحدادي والنسور يقطعون من لحمه ليحشر يوم القيامة من حواصل الأوابد و الطيور ومع كل قطعة من جسده الطاهر تتمزق أساطير وأضاليل الدور التحرري المزعوم للغازي الغربي..ولتترك للأجيال الدرس أن الموت واحد ولكن شتان بين من مات مقبلاً نعال الغزاة وبين من مات علي الخازوق وحشر من حواصل الطير.