لا يصلح
بقلم محمد مختار المقرئ
لا يصلح أن يتصدى لقضايا الأمة المصيرية ونوازلها العامة جماعة بمفردها، أو حتى جماعات. فضلاً عن أن يتصدى لها رجل وحده.. والمفترض أن تجارب التاريخ كرست لدينا قناعة بمخاطر ومثالب هذا المنحى، فهو مع كونه اختزالاً لطاقات الأمة وقدراتها في فرد أو جماعة أو قطاع منها، ما من شأنه هدر ما قد يساهم في إفراز منتج حضاري أو فكري أو علمي أتم وأكمل.. فإذا ما كانت القضية المصيرية أو النازلة العامة المنظورة ذات صلة وثيقة بتصورات شرعية وأحكام فقهية.. فإن تحقق الإجماع أو ما يقاربه يمنح التنظير المنتهى إليه نفوذاً أدبياً أوسع وأوثق، ومن ثم يحظى بقبول أعم، ويكون لدى الكافة ذا ثقل ووزن. ذلك فضلاً عن أنه يكفينا مؤنة الخلافات العريضة التي لم نزل نعانيها في كل أطروحة، وفي كل تنظير فكري، وكل تكييف فقهي، أو على الأقل يقلل من النزاعات، ويجعلها في أضيق نطاق. لا أنكر أنه قد يوجد في الأمة أفذاذ عباقرة، ومجددون متميزون، وذووا عقول نادرة، وعلماء جهابذة مفردون.. وأنه من هؤلاء من قد يفتح الله عليه برؤى أو أفكار أو منتج علمي أو فقهي أو حضاري فريد، ما من شأنه أن يحدث طفرة في جيل، أو يجدد للأمة دينها ومجدها في قرن من القرون، أو يسهم في رفع نازلة عظيمة، أو إيجاد حل جذري لقضية مصيرية.. ولكن يبقى تداول مثل هذا المنتج الناشئ وتمحيصه، ودراسته من خلال آلية جماعية تُعمل مبدأ الشورى؛ هو النمطَ الأمثل الذي يُوصلنا |إلى أفضل النتائج. وقضية الصراع السياسي الديني في مصر اليوم قضية ذات صلة وثيقة بتصورات شرعية وأحكام فقهية ولا شك، فلا يعزز جانب المتصدي لها مثل القدرات العلمية المؤهلة للاجتهاد، على أن القضية ـ هنا ـ ليست مجرد فتوى لمعين أو معينين، ولكنها نازلة عامة، وقضية مصيرية تتعلق بالأمة بأسرها، فهي في بعدها هذا يعوزها نظر أهل الحل والعقد، حيث يحصون آثارها، ويوازنون بين مصالحها ومفاسدها، ويقدرون متى يكون الإقدام ومتى يكون الإحجام، ويرجحون أي الخيارات المتعلقة بها أنفع للأمة وأنجع في علاج أزماتها، وهم في ذات الوقت يمثلون السواد الأعظم منها، وينوبون عنهم، ويعكسون نبض الشارع، واتجاهات الرأي، فأنى يتوفر جميع هذا لفرد وحده أو جماعة مهما بلغ حجمها. ثم إن لي كلمة هنا أرى من الواجب أن أقيدها مسطرة في هذا السياق.. دائما أبداً ـ على مر التاريخ ـ كان التعايش مع الواقع والتأقلم معه، والانحصار بداخله، والاستغراق في بوتقة اللحظة الراهنة، دون محاولة للتغيير، ودون استشراف للمستقبل، ودون تصورات استباقية وثابة.. دائماً أبداً كان هذا هو المعرقلَ لنهضة الأمم، والقاعد بها عن طلب المعالي، والمسقط لهمتها، فيطول خمولها وخمود طاقاتها، وتترهل طاقاتها وقدراتها مع الوقت، وترضى الدنية في دينها وحقوقها !! ومن جهة أخرى تمنح المعايشة للواقع أهل الباطل فرصة التمكن والتثبيت، وتتيح لهم مجالاً لمزيد من تخريب الإنسان، والتغلغل الميكروبي في شرائح الطيبين والغافلين، وربما الواعين أيضاً. ولماذا نصر على أن يكون الحل (أي حل) على أيدينا، ولو بقبول الضيم والرضا بالدنية ؟! لماذا لا ندفع في الاتجاه الصحيح وإن تأخرت نتائجه، وأتت في جيل أبنائنا أو جيل أحفادنا.. هذا ما أمر به الصحابة وهم يشكون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسألونه أن يدعو الله لهم، من شدة وهول ما كانوا يلاقونه في مكة؛ فكان جواب النبي صلى الله عليه وسلم: ” والله ليتمن الله هذا الأمر، حتى يسير الراكبُ من صنعاءَ إلى حضرمَوتٍ، لا يخاف إلا اللهَ، والذئبَ على غنمِه، ولكنكم تستعجلون ” (*). أجل.. ولكننا قوم مستعجلون. إن أفضل طريق لتحصيل القبول والتجاوب لصالح رؤية أو طرح يتعلق بالأمة؛ أن يطرح من خلال الشورى الموسعة المتمثلة في أهل الحل والعقد (من العلماء والقادة وأصحاب الرأي وذوي الحكمة)، أو ممن يوجدون بهذه المثابة ولو في نطاق لا يشمل الكافة، وحسبه أن يكون معبراً عن السواد الأعظم. لم يعد ثم مجال للقبول بفكرة “الملهم” الذي تختزل فيه الأمة بأسرها، أو الذي ينوب (جبراً، أو ادعاء)، أو بحسن نية، عن علمائها وعباقرتها ومفكريها وزعمائها جميعاً. الذي أعرفه من الشرع؛ أن ينزل الفرد على رأي الشورى، لا أن تنزل الأمة على رأي فرد، اللهم إلا أن يدلي الفرد برأي تقره الشورى. ـــــــــــــــــــ (*) صحيح البخاري: (ح/6943) عن خباب بن الأرت.