إلا تنصروه فقد نصره الله (وقفات مع الهجرة النبوية)
بقلم: الدكتورعبد الآخر حماد
يقول الله تعالى مذكراً بنعمته على عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم يوم الهجرة: (( إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ))[التوبة:40].
وحول هذه الآية وما يتعلق بها من الحديث عن الهجرة أحببت أن أقف هذه الوقفات…
أولاً: من معاني النصر في هذه الآية
أول ما ينبغي الوقوف عنده هنا ما أشارت إليه الآية الكريمة من كون حادث الهجرة نصراً من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم، ولا ريب أن أول معاني النصر هنا هو إنجاء الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، وعدم تمكين المشركين منه، وهو ما يذكره المفسرون غالباً عند هذه الآية، ولكن اعتبار الهجرة نصراً يدخل فيه – والله أعلم – ما مثلته الهجرة من نقلة نوعية في تاريخ الدعوة الإسلامية، حيث كانت بدايةَ تأسيس دولة الإسلام التي لا عز للمسلمين إلا بوجودها والانضواء تحت لوائها، ثم ما واكب ذلك من103مشروعية الجهاد في سبيل الله، وما تلا ذلك من الوقائع التي نصر الله فيها رسوله والمؤمنين.
وقد أشار ابن عطية إلى نحو من هذا حيث قال في تفسير هذه الآية: ويحتمل أن يكون قوله: (( فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ ))[التوبة:40] إلى آخر الآية؛ يراد به ما صنعه الله لنبيه إلى وقت تبوك من الظهور والفتوح، لا أن تكون هذه الآية تختص بقصة الغار والنجاة إلى المدينة، فعلى هذا تكون الجنود الملائكة النازلة بـبدر وحنين… .
ثانياً: مغزى اتخاذ الهجرة مبدأً للتاريخ
لقد كانت الهجرة علامة فارقة بين عهدين: أولهما عهد استضعاف المؤمنين وتسلط الكافرين عليهم، وثانيهما عهد العزة والتمكين، ولعل هذا من المعاني التي لحظها المسلمون الأولون حين اتخذوا الهجرة مبدأ للتاريخ الإسلامي في عهد الفاروق عمر رضي الله عنه؛ فحيث كانت الهجرة بداية للعز والتمكين ناسب أن تكون بداية للتاريخ.
وقد ذكر السهيلي فيما نقله عنه ابن حجر أن الصحابة قد استفادوا ذلك من قوله تعالى عن مسجد قباء الذي بناه النبي صلى الله عليه وسلم عند مقدمه المدينة: (( لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ ))[التوبة:108]، فقد وصفت الآية اليوم الذي أسس فيه مسجد قباء بأنه أول يوم، قال: (ومعلوم أنه ليس أول الأيام مطلقاً، فتعين أنه أضيف إلى شيء مضمر، وهو أول الزمن الذي عز فيه الإسلام، وعبد فيه النبي صلى الله عليه وسلم ربه آمناً، وابتدأ بناء المسجد فوافق رأي الصحابة ابتداء التاريخ من ذلك اليوم، وفهمنا من فعلهم أن قوله تعالى: (( مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ ))[التوبة:108] أنه أول أيام التاريخ الإسلامي .
وإضافة إلى ما سبق فقد نقل الحافظ أيضاً عن بعض أهل العلم أن القضايا التي اتفقت له صلى الله عليه وسلم وكان يمكن التأريخ بها هي؛ مولده ومبعثه وهجرته ووفاته صلى الله عليه وسلم104«فرجح عندهم جعلها من الهجرة؛ لأن المولد والمبعث لا يخلو واحد منهما من النزاع في تعيين السنة، وأما وقت الوفاة فأعرضوا عنه لما توقع بذكره من الأسف عليه، فانحصر في الهجرة» .
فيا لخيبة ذلك العقيد الليبي الذي أراد أن يعمل بقاعدة؛ «خالف تعرف»، فلم يجد إلا عام وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليؤرخ به، وكأنما أراد أن يقول: إنه إن كان تاريخ دولة الإسلام قد بدأ بالهجرة، فإن تاريخ جماهيريتي «العظمى» مرتبط بوفاة نبي الإسلام وما اقترن بها من حزن المسلمين، وظهور حركات الردة التي توهم أهلها أنهم قادرون بعد وفاته صلى الله عليه وسلم على أن يقضوا على الإسلام ودولته، فباؤوا بالخيبة والخسران.
ثالثاً: العقيدة قبل الأهل والوطن
من الدروس المهمة التي يثيرها حدث الهجرة الشريفة قضية الولاء للإسلام وتقديمه على كل ولاء، ففي سبيل الله ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أرضاً نشؤوا عليها وعاشوا في كنفها ردحاً طويلاً من الزمن، وساروا إلى أرض أخرى لم يألفوها من قبل، فوُعِك بعضهم وأصابتهم الحمى، وكانوا يحنون إلى مكة ويشتاقون إلى العودة إليها، فعند ذاك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، اللهم بارك لنا في صاعنا وفي مدنا، وصححها لنا وانقل حُمَّاها إلى الجحفة… ) .
ثم جعل صلى الله عليه وسلم من تمام الهجرة ألا يعود المهاجرون للعيش في مكة بعد أن فتحها المسلمون وصارت دار إسلام، بل كان صلى الله عليه وسلم يدعو الله أن يمضي لأصحابه المهاجرين105هجرتهم ويتأسف على من مات منهم بـمكة؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: ( اللهم أمض لأصحابي هجرتهم، ولا تردهم على أعقابهم، لكن البائس سعد بن خوْلة، يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن توفي بـمكة ) .
هذا مع أنه القائل مخاطباً مكة: ( والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إليَّ، ولولا أني أُخرجت منك ما خرجت ) .
فأين من هذا تلك الوثنية الجديدة التي تفشت في ديار الإسلام اليوم، والتي تقدس الأوطان وتجعلها معقد الولاء والبراء؛ بحيث صار الإنسان المسلم مطالباً في ظل هذه الوثنية الجديدة بأن يؤخر رابطة الأخوة الإسلامية فيجعلها في مرتبة ثانية أو ثالثة، أو ربما يهملها بالكلية إذا تعارضت مع رابطة الوطنية المزعومة، وعليه أن يتغنى معهم بأمجاد هذا الوطن وتاريخه بكل ما يحويه هذا التاريخ من كفر وإيمان.
ثم إن الطغاة المستبدين من الحكام يستغلون هذا الشعور الوطني لصالحهم، فكلما انتقد إنسان حاكماً قالوا: إنه ينتقد وطنه، وإنه ليس عنده انتماء حقيقي له، فرجع الأمر إلى تقديس الحاكم الفرد تحت دعوى حب الوطن والانتماء له.
والعجيب أن الكثيرين من دعاة هذه الوثنية الجديدة يريدون أن يروجوا لباطلهم بالتمسح في بعض ما يزعمونه من الأحاديث التي لم تصح، كزعمهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( حب الوطن من الإيمان )، وهو حديث موضوع كما ذكر الشيخ الألباني رحمه الله .106
وأعجب من ذلك أن تسري لوثة تلك الوثنية إلى كثير من المنتسبين للعلم الشرعي في بعض بلاد الإسلام، حتى نرى بعضهم يساير القوم في باطلهم معتزاً بتاريخ يبرأ منه الإسلام وأهله، ويبالغون في ذلك فربما أتوا – كما تقول العرب – بما يضحك الثكلى ويبكي العروس.
واحدة من تلك المضحكات المبكيات تتمثل في ما قاله أستاذ للعقيدة في جامعة الأزهر، أعير لإحدى الجامعات السعودية زمناً، فقام بتحقيق كتاب شرح العقيدة الطحاوية، حيث قال عند ترجمته للإمام الطحاوي رحمه الله: (وبين لداته وأترابه في قرية طحا أبناء الشعب الطيب المسالم، الذي اهتدى إلى توحيد الخالق وعبادة الواحد الأحد قبل أن تنزل الديانات السماوية الكبرى إلى الأرض كانالطحاوي منفرداً بينهم بقوة حافظته وسرعة بديهته…) .
وهذا كلام يحوي طامات وظلمات بعضها فوق بعض، ويكفي أن نشير هنا إلى أنه يقصد بالاهتداء إلى توحيد الخالق تلك الخرافة التي يروج لها البعض، والتي تزعم أن الملك أخناتون كان داعية للتوحيد فيمصر القديمة، وأنه دعا الناس إلى عبادة الله وحده، بينما الحقيقة التي تشير إليها دراسة آثار هذا الملك أنه لم يكن إلا داعية من دعاة الكفر والوثنية، وكل ما فعله هو أنه وحد الآلهة التي كان يعبدها المصريون فحملهم على عبادة إله واحد، هو قرص الشمس المشعة «آتون»، ويكفي أن نعلم أنه غير اسمه من أمينوفيس الرابع، أو امنحوتب الرابع إلى «أخناتون» الذي معناه «عبد قرص الشمس» ، فهل هذا من توحيد الخالق وعبادة الواحد الأحد في شيء؟
وإن من نافلة القول أن نُذكِّر بأننا لا نقصد من هذا تحريم ما جبل عليه الإنسان من حبه الفطري لوطنه، وشوقه إلى دياره وملاعب صباه، وإنما ينصب حديثنا على107جعل الوطن معقد الولاء والبراء، وتقديم حبه على حب الله ورسوله، وأن الواجب على المسلم أن لا يتردد في تقديم حبه لدينه على كل حب سواه، (( قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ))[التوبة:24].
وفي الآية الكريمة أن الله أنزل السكينة على نبيه صلى الله عليه وسلم أو على صاحبه أبي بكر صلى الله عليه وسلم على اختلاف المفسرين في ذلك، والسكينة مشتقة في أصلها من السكون؛ ولذا فهي تعني الطمأنينة والوقار والسكون الذي ينزله الله على قلب عباده المؤمنين في مواطن الخوف والجزع، «ولهذا أخبر سبحانه عن إنزالها على رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين في مواضع القلق والاضطراب، كيوم الهجرة إذ هو وصاحبه في الغار والعدو فوق رأسيهما، لو نظر أحدهم إلى ما تحت قدميه لرآهما، وكيوم حنين حين ولوا مدبرين من شدة بأس الكفار لا يلوي منهم أحد على أحد، وكيومالحديبية حين اضطربت قلوبهم من تحكم الكفار عليهم ودخولهم تحت شروطهم التي لا تحملها النفوس…» .
ولا شك أن السكينة – كما في «مدارج السالكين» – هي من منازل المواهب لا من منازل المكاسب، بمعنى أنها نعمة تتنزل من عند الله على قلوب عباده،108ولكنه سبحانه ينزلها على قلوب من يستحقها من عباده ممن أخلصوا دينهم لله ولجؤوا إليه في مواطن الشدائد داعين بالثبات واليقين، وقد كان شيخ الإسلام ابن تيمية – كما ذكر تلميذه ابن القيم – إذا اشتدت عليه الأمور قرأ آيات السكينة، وهي المواضع التي ذُكرت فيها السكينة في كتاب الله عز وجل.
قال ابن القيم: (وقد جربت أنا أيضاً قراءة هذه الآيات عند اضطراب القلب بما يرد عليه، فرأيت لها تأثيراً عظيماً في سكونه وطمأنينته) .
من أعجب الاستنباطات التي رأيتها حول هذا الموضوع ما جاء في سيرة الإمام أحمد رحمه الله حيث روى أبو نعيم في الحلية عن إبراهيم بن هانئ قال: (اختفى عندي أحمد بن حنبل ثلاثة أيام، ثم قال: اطلب لي موضعاً حتى أتحول إليه. قلت: لا آمن عليك يا أبا عبد الله. قال: إذا فعلت أفدتك. فطلبت له موضعاً، فلما خرج قال لي: اختفى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار ثلاثة أيام ثم تحول، وليس ينبغي أن نتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرخاء، ونتركه في الشدة) .
فلله در الإمام أحمد رحمه الله كم كان حريصاً على متابعة النبي صلى الله عليه وسلم في كل الأمور، حتى في مثل تلك الحال التي كان عليها من شد طلب الظالمين له وتربصهم به، فانظر إلى هذه العظمة الإيمانية وقارنها بحال كثير من المنتسبين للشرع والدين في هذه الأيام، ممن يزهدون الناس في اتباع كثير من سنن المصطفى صلى الله عليه وسلم بدعوى أنها من القشور، وليست من اللباب.109
وأخيراً؛ فإن من أهم ما تثيره الهجرة من معانٍ ذلك المعنى العظيم الذي بدأت الآية بالإشارة إليه، وهو بيان أن الله ناصر دينه وأولياءه وإنْ خذلهم وتخلى عنهم الناس، فقد حمى الله رسوله وكفاه يوم الهجرة حين لم يكن يملك من مقومات القوة المادية شيئاً، (( أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ ))[الزمر:36-37].
إن التأمل في هذا المعنى ليملأ قلوب المستضعفين من أهل الإيمان بالثقة في نصر الله تعالى لهم، وإنْ تكالبت عليهم الدنيا بأسرها؛ فالله تعالى قد تكفل لعباده وخواص أوليائه بالنصر في الدنيا والآخرة ((إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ ))[غافر:51]، (( كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ))[المجادلة:21].