غزوة حنين عبر وفوائد
بقلم الدكتورعبد الآخر حماد
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فلا تزال السيرة النبوية معين لا ينضب لكل باحث عن الحق ساع إلى معرفة هدي خير الورى صلى الله عليه وسلم، ومهما كثر على هذا المعين الواردون ونهل منه الناهلون فسوف يظل كما هو في صفائه وقوته وغزارة مادته.
ولما كان الجهاد في سبيل الله من أهم سمات حياته المباركة صلى الله عليه وسلم، فقد اعتنى أهل العلم بدراسة غزواته وبعوثه، ليس فقط لمعرفة هديه في حربه وسلمه، بل أيضاً لاستنباط كثير من الأحكام الفقهية التي لا تخلو من الإشارة إليها غزوة، ومحاولة استخلاص بعض الحكم العظيمة من تلك الغزوات، واستجلاء بعض أساليبه صلى الله عليه وسلم في إعداد أصحابه وتربيتهم، وغير ذلك مما قد يفتح الله به على من يشاء من عباده.
وإذا كانت غزوةبدرالكبرى هي أول معارك الإسلام مع مشركي العرب، وبها كسرت حدتهم وقلت هيبتهم، فقد كانت غزوةحنينوما تلاها من غزو أهلالطائفهي آخر تلك المعارك، وبها استفرغت قوى أولئك المشركين، واستنفدت سهامهم، وأذل جميعهم حتى لم يجدوا بداً من الدخول في دين الله، كما يقول الإمامابن القيمرحمه الله .101
ومن أجل هذا رأيت أن أتناول هذه الغزوة العظيمة بشيء من الدرس والتحليل، يتضمن أهم وقائعها، كما يتضمن الإشارة إلى بعض ما يستنبط منها من الحكم والدروس والأحكام.
ولذ فقد جعلت هذه الدراسة في قسمين اثنين:
الأول: حول الغزوة وأحداثها.
والثاني: حول الحكم والأحكام والدروس المستفادة من تلك الغزوة.
تاريخ الغزوة: كانت غزوة حنين في العاشر من شوال من العام الثامن للهجرة منصرف النبي صلى الله عليه وسلم من مكة، بعد أن من الله عليه بفتحها، وقد انصرف رسول الله من مكة لست خلت من شوال، وكان وصوله إلى حنين في العاشر منه .
موقع الغزوة: دارت هذه الغزوة في موضع يقال له حنين، وهو واد إلى جانب ذي المجاز، بينه وبينمكة بضعة عشر ميلاً من جهة عرفات .
سبب الغزوة: كان سبب تلك الغزوة أن مالك بن عوف النضري جمع القبائل من هوازن ووافقه على ذلك الثقفيون، واجتمعت إليه مضر وجشم كلها وسعد بن بكر وناس من بني هلال، وقصدوا محاربة المسلمين، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم
1- نزول الأعداء بأوطاس واستعدادهم للحرب:
لما جمع مالك بن عوف من اتبعه سار بهم حتى نزل بهم بواد قريب من حنين يقال له أوطاس، وفيهمدريد بن الصمة، وكان شيخ كبير ليس فيه إلا102رأيه ومعرفته بالحرب، وكان مالك لما أجمع السير إلى رسول الله ساق مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم، فلما نزل بأوطاس أنكر عليه دريد بن الصمة ذلك قائلاً: «وهل يرد المنهزم شيء؟ إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك»، لكن عوفاً لم يستمع لمقالة دريد ورماه بالخرف، وأطاعه قومه ومن معه فيما أراد
2- الرسول صلى الله عليه وسلم يبعث من يأتيه بالخبر:
ولما علم الرسول صلى الله عليه وسلم بالخبر بعث إليهم عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي، وأمره أن يدخل في الناس فيقيم فيهم حتى يعلم علمهم، ثم يأتيه بخبرهم، فانطلق ابن أبي حدرد فدخل فيهم، فمكث فيهم يومين، ثم أقبل فأخبره الخبر
3- استعارة الرسول أدراع صفوان:
لما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم السير إلى هوازن ذكر له إن عند صفوان بن أمية أدراعاً له وسلاحاً، فأرسل إليه – وهو يومئذ مشرك – فقال: ( يا أبا أمية! أعرنا سلاحك هذا نلقى فيه عدونا غداً، فقال صفوان: أغصباً يا محمد، قال: بل عارية مضمونة حتى نؤديها إليك، قال: ليس بهذا بأس فأعطاه مائة درع بما يكفيها من السلاح )
4- خروج الرسول صلى الله عليه وسلم بالجيش لملاقاة هوازن:
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه – كما ذكر أصحاب السير – ألفان من أهل مكة مع عشرة آلاف من أصحابه الذين خرجوا معه، ففتح الله بهم مكة، فكانوا اثني عشر ألفاً .103
5- أمر ذات أنواط:
وفي طريق المسلمين إلى حنين مروا بشجرة للمشركين تسمى ذات أنواط، كانوا يأتونها كل سنة فيعلقون عليها أسلحتهم، ويذبحون عندها، ويعكفون عليها يوماً، فقال بعض المسلمين من حديثي العهد بالإسلام: ( يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكبر! قلتم والذي نفس محمد بيده كما قال قوم موسى لموسى: اجعل لنا إلهاً كما لهم إلهة، قال: إنكم قوم تجهلون، إنها السنن، لتركبن سنن من كان قبلكم ).
6- لقاء هوازن وحدوث الهزيمة أول الأمر:
لما وصل المسلمون إلى حنين كان الوقت ليلاً، وكان مالك بن عوف قد سبقهم للوادي وأعد كمناءه فيه، وعبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشه بالسحر، وفي عماية الصبح انطلق المسلمون منحدرين في الوادي، فلم يرعهم إلا النبال قد أمطرتهم من كل جانب، قال جابر بن عبد الله رضي الله عنه: [ لما استقبلنا وادي حنين انحدرنا في واد من أودية تهامة أجوف حطوط إنما ننحدر فيه انحداراً، قال: وفي عماية الصبح، وكان القوم قد سبقونا إلى الوادي فكمنوا لنا في شعابه، وأحنائه، ومضايقه، وقد أجمعوا وتهيئوا وأعدوا، فوالله ما راعنا ونحن منحطون إلا الكتائب قد شدوا علينا شدة رجل واحد، وانشمر الناس راجعين لا يلوي أحد على أحد ]
7- ثبات الرسول صلى الله عليه وسلم وأثره في رجوع المسلمين:
ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبت في هذا الموقف العصيب وهو يقول:104
أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب
وثبت معه طائفة من الصحابة الكرام، فقد أخرج مسلم وغيره من حديث العباس رضي الله عنه، أنه (لما ولى المسلمون مدبرين طفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض بغلته قبل الكفار، قال العباس: وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكفها إرادة أن لا تسرع، وأبو سفيان بن الحارثآخذ بركاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي عباس! نادي أصحاب السمرة. فقال عباس – وكان رجلاً صيتاً – فقلت بأعلى صوتي: أين أصحاب السمرة؟ قال: فوالله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها، فقالوا: يا لبيك يا لبيك، قال: فاقتتلوا والكفار، والدعوة في الأنصار يقولون: يا معشر الأنصار يا معشر الأنصار، قال: ثم قصرت الدعوة على بني الحارث بن الخزرج فقالوا: يا بني الحارث بن الخزرج! يا بني الحارث بن الخزرج! فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بغلته كالمتطاول عليها – إلى قتالهم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا حين حمي الوطيس. قال: ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حصيات فرمى بهن وجوه الكفار، ثم قال: انهزموا ورب محمد، قال: فذهبت أنظر، فإذا القتال على هيئته فيما أرى، قال: فوالله ما هو إلا أن رماهم بحصياته، فما زلت أرى حدهم كليلاً وأمرهم مدبراً).
8- تفرق المسلمين ومقتل دريد بن الصمة:
لما انهزم المشركون وتفرقوا توجه مالك بن عوف وطائفة معه إلى الطائف، وتوجه بعضهم نحو موضع يقال له نخلة، بينما عسكر قسم ثالث فيهم دريد بن الصمة بأوطاس، فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه إلى الطائف، وبعث أبا عامر الأشعري عم أبي موسى إلى أوطاس، وقد صح في حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من حنين بعث أبا عامر على جيش أوطاس فلقي دريد بن الصمة105فقتل دريد، وهزم الله أصحابه وإن أبا عامر الأشعري استشهد في ذلك اليوم) .
9- نهيه عليه السلام عن قتل الضعفاء:
وقد مر النبي صلى الله عليه وسلم على امرأه مقتولة: ( ما كانت هذه لتقاتل )، وكان على المقدمة خالد بن الوليد فبعث رجلاً فقال: ( قل لخالد: لا يقتلن امرأةً ولا عسيفاً ) .
وليس في هذا الحديث بيان الغزوة التي كان فيها ذلك النهي، غير أن ابن إسحاق قد ذكر تلك القصة في غزوة حنين ، وفي حديث الصعب ابن جثامة عند ابن حبان (11/108): (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين أن نقتلهم معهم قال: نعم فإنهم منهم)، ثم نهى عنهم يوم حنين، وكذا رجح الحافظ في الفتح (6/147) إن القصة كانت يوم حنين؛ لأن فيها ذكر خالد، وقد كان أول مشاهدخالد مع النبي يوم الفتح، ثم كانت غزوة حنين بعد الفتح.
10- غزوة الطائف:
لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من حنين أمر بالغنائم فحبست في الجعرانة (وهي موضع بينمكة والطائف)، ثم سار إلى الطائف حتى نزل قريباً منها فضرب عسكره، وذكر ابن إسحاق بغير إسناد أنه صلى الله عليه وسلم أمر بقطع أعناب ثقيف وحرقها، فشرع المسلمون في قطعها ، وقد ذكرابن سعد أنهم سألوه أن يدعها لله والرحم فتركها ، وذكر ابن هشام أنه نصب عليهم المنجنيق، وهو أول من رمى به في106الإسلام ، غير أن الحصار قد طال وقتل ناس من المسلمين بالنبل كما يذكر ابن إسحاق (وذلك أن العسكر اقترب من الطائف وكانت النبل تنالهم، ولم يستطع المسلمون أن يدخلوا حائطهم فقد أغلقوه دونهم) .
وفي الصحيح من حديث ابن عمر ( أنه صلى الله عليه وسلم لما حاصر الطائف فلم ينل منهم شيء قال: إنا قافلون غداً إن شاء الله، فثقل عليهم، وقالوا: نذهب ولا نفتحه؟ وقال مرة: نقفل، فقال: اغدوا على القتال، فغدوا، فأصابهم جراح، فقال: إنا قافلون غداً إن شاء الله، فأعجبهم، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم) .
11- تقسيم الغنائم وما وجده الأنصار في أنفسهم من هذا التقسيم:
لما عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف بقي بالجعرانة بضع عشرة ليلة لا يقسم الغنائم، يبتغي أن يقدم عليه وفد هوازن تائبين، فيرد عليهم ما فقدوا، فلما لم يأتوا شرع صلى الله عليه وسلم في تقسيم الغنائم، فقسمها في المهاجرين والطلقاء، ولم يعط الأنصار منها شيئاً، ففي الصحيح من حديث أنس بن مالك ( فقسم في المهاجرين والطلقاء، ولم يعط الأنصار شيئا ) ، وكان من نتيجة ذلك أن وجد بعض الأنصار في أنفسهم من هذه القسمة، إذ لم يصبهم ما أصاب الناس، فخطبهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ( يا معشر الأنصار! ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي، وكنتم عالة فأغناكم الله بي، كلما قال شيئاً قالوا: الله ورسوله أمنُّ. قال: ما يمنعكم أن تجيبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: كلما قال شيئاً قالوا: الله ورسوله أمنُّ، قال: لو شئتم لقلتم: جئتنا كذا وكذا، أترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟ لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار، ولو سلك الناس وادياً وشعباً107لسلكت وادي الأنصار وشعبها، الأنصار شعار والناس دثار. إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض ) .
وقد اختلف في تلك العطية التي أعطاها صلى الله عليه وسلم للمؤلفة قلوبهم ومنع منها الأنصار، هل كانت من أصل الغنيمة أم من الخمس أم من خمس الخمس؟ وقد رجح الحافظ ابن حجر أنها من أصل الغنيمة، واحتج بقول أنس: (ولم يعط الأنصار شيئاً). وأنه ظاهر في أن العطية كانت من أصل الغنيمة .
12- قدوم وفد هوازن إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ومنُّه عليهم:
ثم أتاه وفد هوازن مسلمين وهو بالجعرانة، فسألوه أن يرد إليهم سبيهم وأموالهم، فقال لهم كما جاء في حديث المسور بن مخزمة ومروان بن الحكم: ( أحب الحديث إلي أصدقه، فاختاروا إحدى الطائفتين: إما السبي وإما المال، وقد كنت استأنيت بكم – وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم انتظرهم بضع عشرة ليلة حين قفل من الطائف، فلما تبين لهم أن رسول الله غير راد إليهم إلا إحدى الطائفتين قالوا: فإنا نختار سبينا، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسلمين فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أما بعد: فإن إخوانكم هؤلاء قد جاءونا تائبين، وإني قد رأيت أن أرد إليهم سبيهم، فمن أحب منكم أن يطيب بذلك فليفعل، ومن أحب منكم أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء الله علينا فليفعل، فقال الناس: قد طيبنا ذلك يا رسول الله.. ) .
هذا وقد وقع عند ابن إسحاق أن مجيء هوازن مسلمين كان قبل توزيع الغنائم، بينما ذكر موسى بن عقبة أن مجيئهم كان بعد توزيع الغنائم وإلى هذا القول108الأخير ذهب الحافظ في الفتح (8 / 34)، وهو الذي يدل عليه حديث البخاري السابق؛ فإنه بين لهم أنه قد أخر القسمة حتى يحضروا، فلما أبطؤوا لم يجد بداً من تقسيمها.
1- بعض ما اشتملت عليه الغزوة من الحكم العظيمة:
1- كان الله عز وجل قد وعد رسوله – وهو صادق الوعد – أنه إذا فتح مكة دخل الناس في دينه أفواجاً، ودانت له العرب بأسرها، كما قال تعالى: (( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ))[النصر:1-3]، فلما تم له الفتح المبين، اقتضت حكمته تعالى أن تجتمع هوازن ومن معها لحرب المسلمين بجيش لم يلق المسلمون مثله من قبل، وأن ينصرهم عليهم نصراً مؤزراً، فلا يفكر بعدها أحد من العرب في مقاومة جند الله، ويتحقق ما وعد الله به رسوله من دخول الناس في دين الله أفواجاً .
2- اقتضت حكمته سبحانه أن أذاق المسلمين أولاً مرارة الهزيمة والكسرة، مع كثرة عددهم وعُددهم وقوة شوكتهم، ليطامن رؤوساً رفعت بالفتح، ولم تدخل بلده وحرمه كما دخله رسول الله صلى الله عليه وسلم واضعاً رأسه منحنياً على فرسه، حتى إن ذقنه تكاد تمس سرجه؛ تواضعاً لربه وخضوعاً لعظمته واستكانة لعزته، أن أحل له حرمه وبلده ولم يحل لأحد قبله، ولا لأحد بعده… فلما انكسرت قلوبهم أرسلت إليها خلع الجبر، مع بريد النصر، فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين، وأنزل جنوداً لم تروها، وقد اقتضت حكمته أن خلع النصر وجوائزه إنما تفيض على أهل الانكسار:109(( وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ ))[القصص:5-6]…) .
3- كما أراد سبحانه أن يؤكد لعباده المؤمنين تلك القاعدة العظيمة التي ينبغي أن لا يغفل عنها مسلم، وهي أن المسلمين لا ينصرون بكثرة عددهم ولا عُددهم، وإنما ينصرهم الله تعالى بطاعتهم لله عز وجل واتباعهم نبيه صلى الله عليه وسلم، وإنه لا يجوز للمسلمين أن يغتروا بكثرتهم كما قال تعالى: (( لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ))[التوبة:25].
(وإذا كانت وقعة بدر قررت للمسلمين أن القلة لا تضرهم شيئاً في جنب كثرة أعدائهم إذا كانوا صابرين متقين، فإن غزوة حنين قد قررت للمسلمين أن الكثرة أيضاً لا تفيدهم إذا لم يكونوا صابرين ومتقين) .
تنبيه: لا شك أنه قد وقع من بعض المسلمين الاغترار بكثرتهم يوم حنين، وأن ذلك كان من أسباب الهزيمة، كما أشارت إلى ذلك الآية الكريمة، ولكني أود أن أشير إلى أني وجدت كثيراً ممن كتبوا في السيرة إذا ذكروا ذلك الاغترار استدلوا بما روي من قول بعض المسلمين يومئذ: (لن نهزم اليوم من قلة)، وبعضهم ينسب ذلك لأبي بكر رضي الله عنه، وبعضهم ينسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولم أعثر فيما وقفت عليه على سند صحيح لتلك المقولات، على أنها إن ثبتت فلست أراها والله أعلم من باب الاغترار بالكثرة الذي يقصده من يذكرونها، بل هي إلى معنى التخويف من110الاغترار بالكثرة أقرب؛ فإن الظاهر من هذه الكلمة أن قائلها يقصد أنهم لكثرة عددهم لن يهزموا بسبب قلتهم، ولكن إن وقعت هزيمة فإن سببها لا بد أن يكون شيئاً آخر غير القلة مثل الاغترار بالكثرة أو معصية الله ورسوله وغير ذلك، ويكفي في كون هذه الكلمة غير دالة على هذا الذي ذكروه أنها موافقة لما جاء في حديث ابن عباس مرفوعاً: ( خير الصحابة أربعة وخير السرايا أربعمئة وخير الجيوش أربعة آلاف، ولن يغلب اثنا عشر ألفاً من قلة ) .
5- ومنها أن الله سبحانه لما منع الجيش غنائم مكة فلم يغنموا منها شيئاً، أراد أن يعوضهم عن ذلك بغنائم يوم حنين كما روى أبو داود (3023) بإسناد صحيح عن وهب بن منبه قال: [سألت جابراً: هل غنموا يوم الفتح شيئاً؟ قال: لا]، قال ابن القيم: (ولو كانوا قد فتحوها بإيجاف الخيل والركاب، وهم عشرة آلاف، وفيهم حاجة إلى ما يحتاج إليه الجيش من أسباب القوة، فحرك سبحانه قلوب المشركين لغزوهم، وقذف في قلوبهم إخراج أموالهم ونعمهم وشائهم وسبيهم معهم نزلاً وضيافة وكرامة لحزبه وجنده، وتمم تقديره سبحانه بأن أطمعهم في الظفر وألاح له مبادئ النصر ليقضي الله أمراً كان مفعولاً) .
6- ولما كان الله سبحانه وتعالى قد أراد لهوازن الهداية والدخول في دينه الحنيف، دون أن يؤثر ذلك في ما أراده من حصول المسلمين على المغنم، فقد اقتضت حكمته تعالى أن أخر قدومهم حتى قسم النبي صلى الله عليه وسلم الغنيمة – على ما رجحناه آنفاً ـ، فلما جاؤوا مسلمين كان من الحكمة أن يرد عليهم بعض ما فقدوه، فأعاد إليهم النبي صلى الله عليهم السبي دون بقية المغانم، قال ابن القيم في تتمة كلامه السابق: (فلما أنزل الله نصره على111رسوله وأوليائه، وبردت الغنائم لأهلها، وجرت فيها سهام الله ورسوله، قيل: لا حاجة لنا في دمائكم، ولا في نسائكم وذراريكم، فأوحى الله سبحانه إلى قلوبهم التوبة والإنابة فجاؤوا مسلمين، فقيل: إن من شكر إسلامكم وإتيانكم أن نرد عليكم نساءكم وأبناءكم وسبيكم و(( إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ))[الأنفال:70]… …