محنة داعية
بقلم: الدكتورعبد الآخر حماد
الشيخنشأت أحمد محمدداعية مصري معروف فيمصروخارجها، خصوصاً في أوساط الشباب من الملتزمين بالسنة وأبناء الحركة الإسلامية.
عرفت الشيخنشأتمنذ أكثر من عشرين عاماً، من خلال جولاته في الدعوة إلى الله، وقد كان حينها متخرجاً حديثاً من كلية التجارة بجامعة عين شمس، وكان دؤوباً يجوب البلدان في الدعوة إلى الله من غير كلل ولا ملل، وهو ذو طريقة مؤثرة في الدعوة والإرشاد، مع حرص قدر الطاقة على تقديم المعلومة الصحيحة، وتصحيح ما قد يشيع من أخطاء في المفاهيم؛ حتى إنني قد سمعته يوماً يكرر في أثناء درسه عبارة: إخواني في الله أحبابي في الله، وتعجبت من كثرة ترديده لذاك النداء، ثم تذكرت أن كثيراً من الدعاة وقتها كانوا يقولون في دروسهم: إخواني في الله أحبابي في رسول الله، وانتشر ذلك بينهم حتى صار عرفاً مألوفاً، ولما كان ذلك منافٍ للعقيدة الصحيحة في أن الحب لا يكون إلا في الله كما في حديثأنسمرفوعاً: ( ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار ) ، فقد رأى أن يكرر تلك المقولة حتى يرسخ عند سامعيه أن الحب لا يكون إلا في الله، وأنهم مع حبهم لرسولهم صلى الله عليه وسلم لا ينبغي أن يكون تحابهم إلا في الله عز وجل.9
ثم جاءت واقعة مقتلالساداتوما تلاها من أحداث، وامتلأت السجون بعشرات الألوف من خيرة شبابمصر، وكان غالبيتهم ممن لا علاقة لهم بما وقع من أحداث، وكان من هؤلاء الأخنشأتفك الله أسره، ولكني أشهد أني ما رأيته إلا صابراً محتسباً غير متضجر، ولا متبرم، بل كنت تلمح في وجهه علامات الفخر والسرور وهو يحكي لإخوانه في السجن كيف أنه كان جالساً يتابع محاكمةخالد الإسلامبوليورفاقه، وإذا بزوجه تقول له: لكم وددت أن تكون واحداً من هؤلاء الأبطال، وفي اليوم التالي طرق المجرمون بابه واقتادوه إلى السجن.
وبعد مدةٍ أفرج عن غالبية من كانوا في السجون وعاود الأخ الشيخنشأتنشاطه في الدعوة إلى الله، ثم سافر إلى بلاد الحرمين حيث عمل إماماً وخطيباً في أحد مساجد مدينةجدة، ولكنه فوجئ ذات يوم بالسلطات السعودية تقبض عليه وترحله إلىمصرلأنه مطلوب فيها، وفيمصربقي في السجن فترةً وجيزة لم تزد على أسابيع فيما أخبرني به أحد الإخوة ممن كانوا على علاقة به في تلك الفترة، ثم اعتذروا له وأخرجوه من السجن ولكنهم منعوه من السفر مرةً أخرى مع أن إقامته كانت لا تزال سارية فيالسعودية، وكانت حجة السلطات المصرية – فيما بلغني أيضاً – أنهم قالوا له: لقد قلنا للسعوديين حين طلبناك منهم إنك مطلوب على ذمة قضايا خطيرة، فماذا يقولون عنا لو تركناك تعود إليهم بعد أسابيع فقط من ترحيلك إلينا، لا شك أنهم لن يصدقونا إذا طلبنا منهم أحداً بعد ذلك!
وغابت عني أخبار الأخنشأتمدة من الزمن حتى فوجئت منذ عدة شهور بخبر أنه مقبوض عليه مع مجموعة من شباب مسجد التوحيد الذي يخطب فيه بالقاهرة، بتهمة مساعدة الانتفاضة الفلسطينية والمجاهدينالشيشان، وقلت: لعلها فترة اعتقال لمدة ثم تنقضي، ويبدو أن الأمر في أوله كان كذلك، ولكن أحداث الحادي عشر من سبتمبر قد غيرت كثيراً من الأمور وصار من العبارات المألوفة لدى الكتاب والمحللين أن يقولوا إن العالم بعد الحادي عشر من سبتمبر غير العالم10قبله، ومع طلبأمريكالحكومات العالم بوجوب الوقوف معها في حربها ضد الإسلام التي تسميها بالحرب على الإرهاب، ومع تحذيراتها لتلك الحكومات بأنه لا مجال للحياد في هذه الحرب وأن من لا يكون معهم فهو ضدهم، أقول: مع هذه التهديدات والتحذيرات انبرى الكل في إرضاءبوشوزمرته، وبدأت كثير من حكومات البلاد الإسلامية في تعقب الإسلاميين حتى تلك الدول التي لم تكن معروفة بتضييقها عليهم، فرأينا فياليمنحرباً تستخدم فيها المروحيات لتعقب من تشتبه السلطات في انتمائهم لتنظيم القاعدة، وفيالإماراتوغيرها اعتقالات بالجملة، وكان لا بد للنظام المصري، أن يقدم شيئاً في هذا المجال، وكان مما قدمه في ذلك إحالة تلك القضية – التي أسموها قضية تنظيم الوعد – إلى القضاء العسكري بما يعنيه ذلك من توقع أحكام قاسية غير قابلة لنقض ولا استئناف.
وإذا كان لي من كلمة أوجهها عبر هذا المنبر إلى الشيخنشأتوإخوانه فإني أقول: إنه لشرف لكم أن تحاكموا بتهمة مساعدة مسلمين يدافعون عن عقيدتهم وأرضهم وديارهم، ولو كنت مكانكم لقلت للقضاة ما قاله بعضهم من قبل: (تهمة لا أدفعها وشرف لا أدعيه).
فصبراً إخوتي على ما تلقون من أذى في الله تعالى، واعلموا أن المرء إنما يبتلى على قدر دينه، وهذا هو الطريق: طريق الدعوة إلى الله، وتلك مشاقه ومصاعبه، فهو طريق – كما يقول الإمامابن القيمرحمه الله – «تعب فيهآدموناح لأجلهنوح، ورمي في النارالخليل، وأضجع للذبحإسماعيل، وبيعيوسفبثمن بخس، ولبث في السجن بضع سنين، ونشر بالمنشارزكريا، وذبح السيد الحصوريحيى، وقاسى الضرأيوب، وزاد على المقدار بكاءداود، وسار مع الوحشعيسى، وعالج الفقر، وأنواع الأذى محمد صلى الله عليه وسلم » 11ومن أسف أنا لا نستطيع نصرتكم إلا بمثل هذه الكلمات التي نخطها في الذب عنكم والمطالبة برفع الظلم عنكم، ثم الدعاء لكم وهو بحمد الله مبذول نسأل الله تعالى القبول.
ثم إنه تبلغني وأنا أُعد هذه السطور أخبار الإفراج عن بعض إخواننا ممن قضوا فترات طويلة في سجونمصر، ولا شك أن ذلك مما يسرنا ونحمد الله عليه حمداً كثيراً، غير أن ذلك لا يمكن أن ينسينا، أنه لا يزال في قبضة الظالمين آلاف من أمثالكم، كما أننا لسنا من السذاجة بحيث يحملنا الإفراج عن البعض أو تحسين معاملة البعض في السجون إلى إعلان الرضى عن أنظمة قد نَّحت شرعة الله عن الحكم في بلاد المسلمين، وصارت أداة لتمرير مخططات أعداء الأمة مناليهودوالأمريكان، وإلا كنا كذاك المسكين الذي يُحكى عنه – في قصة رمزية – أنه قد خرج عليه ذات يوم بعضُ قطاع الطريق وعقدوا له محاكمة عاجلة كان قاضيها بطبيعة الحال هو زعيم عصابتهم، وفي ثوانٍ معدودات حكم القاضي على الرجل بقتله وأخذ جميع ما لديه من مال، وبينما الرجل مستسلم لمصيره المحتوم إذا بأحدهم يهزه هزاً عنيفاً ويقول له لم تظل صامتاً هكذا؟ إن الحكم الذي سمعته ما هو إلا حكم ابتدائي، ويمكنك تقديم استئناف فيه، وزعيمنا رجل طيب القلب فلعله يخفف الحكم عنك، واستجاب الرجل فقدم استئنافه، ولشد ما كانت فرحته حين أعلن القاضي قبول الاستئناف وإلغاء حكم القتل والاكتفاء بأخذ ماله وتجريده من جميع ثيابه بحيث يمشي عارياً، ومرةً أخرى قيل له لقد بَقِيِتْ في سُلَّم قضائنا درجة، فارفع أمرك لمحكمة النقض ففعل، فحكم القاضي بأن يُترك له من ثيابه ما يستر عورته، ولما نُفذ الحكم وأخذ منه جميع ماله وثيابه، وألقي إليه فقط بشيء يستر عورته، رفعه وهو يهتف: يحيا العدل.. يحيا العدل!!
إنا بحمد لله لسنا كذلك الرجل، ولن نكون مثله بمشيئة الواحد الأحد..