القائمة إغلاق

الشيخ الضرير … من له؟

الشيخ الضرير … من له؟


الكاتب : محمد مصطفى المقرئ رحمه الله

لو أن قسيساً تهكم منه سفيه حقير، أو أن حاخاماً حذفه طفل بحجر صغير، أو أن كاهناً بُغي عليه في نقير أو قطمير.. لو أن شيئاً من هذا – فما فوقه – وقع لأرذل الناس فيهم؛ صعلوكاً شاذاً، أو سفاكاً قاتلاً أو غير ذلك، لقامت قيامة القوم، الصحيح منهم والقعيد، أو بمعنى أدق؛ لاستنفرت جحافل النظام الدولي الجديد، ولأرغموا وأزبدوا بالويل والوعيد، ولأنزلوا بشعوبنا وحدها – دون الأنظمة المستأجرة – نقم حصاراتهم وجحيم قاذفاتهم… {وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد}، ولأنذروا بالويل والثبور وعظائم الأمور، ولجردت حملات، ولنظمت للطيران طلعات، ولفرضت حصارات، ولصبت العولمة المتوحشة جام غضبها على “الإرهابيين”.. وشبه الإرهابيين، وشبه شبه الإرهابيين، ولطالت يد مخابراتهم من يحمل فقط “ملامح شرق أوسطية‍‍!”، أو من كان – يا ويله – ذا لحية وسمات إسلامية!!

وإلى هنا.. والأمر طبيعي غير مستغرب، فهم القوم {قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر} حقداً وكيداً وحرباً، {ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينهم إن استطاعوا}.

ولكن أن لا تتحرك في المسلمين شعرة، ولا يرعد لهم أنف، ولا تثور فيهم نخوة، فهذا ما يدهشني ويذهلني، ويغمني ويحزنني!!

عالم جليل يملأ صيته الدنيا شرقاً وغرباً.. فكم جلجل صوته يدوي في قاعات جامعاتنا – أستاذاً للتفسير بها – وكم اهتزت لكلماته منابر مساجدنا صادعاً بالحق غير وجل ولا هياب لتبعاتها، مما أزعج أهل الباطل وأفزعهم، فأخرجوه من بلده وحيداً طريداً، حتى استقر به الأمر في بلد تدعي أنها راعية حقوق الإنسان، وحسب الشيخ أن الحرية التي يتشدق بها الأمريكان يمكن أن تباح لمسلم، أو أن المسلم معدود – عندهم – كإنسان، فلما قام عبد الله يدعوه زلزلوا زلزالاً شديداً، وسارعوا يخوفونه إنذاراً وتهديداً، وتخويفاً ووعيداً، وما دروا أن أمثاله من {الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله} لا يرهبهم إنذار وتهديد، أو تخويف ووعيد، حتى إذا رأوا ذلك في ثباته ورباطة جأشه.. طفقوا يلفقون له القضايا، ويفترون عليه الاتهامات والرزايا، لقد حبكوا من نسج خيالهم ومريض أذهانهم ما تذرعوا به إلى سجنه، فكان فعلهم خبر شاهد على براءته وغبنه {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً}.

شيخ مسن ضرير مريض يفجر ويقتل؟!! كذلك يدعون!! أي فرية تلك التي تفتقت عنها عقول الشياطين؟ وأي تجاوزات وانتهاكات في بلاد الحضارات – يزعمون -؟ ألا إن إصلاح “العالم الثالث” بات أكثر انطباقاً على دول يقال عنها: متقدمة!!

فتعجبوا أيها العقلاء – وخطابي لكم وحدكم دون سواكم “وماذا علي إن لم يفهم البقر؟” – كيف تستنفر أجهزة مخابرات عتيدة للإيقاع بشيخ مقعد لا حول له ولا قوة، وكيف يدوس القوم قوانينهم ويتحايلون في تطبيقها ويحتالون ليدينوا الشيخ من خلالها وهم المدانون، لقد استفرغوا وسعهم في اتهام الشيخ بما يجعله تحت طائلة الإدانة، وعلى الرغم من أن جهودهم قد كلت في إحكام هذا.. إلا أنهم لم ينجحوا في مواراة تهافت ما جاؤوا به من إفك ظاهر للعيان، وضعف ما حاكوه من زور وبهتان.

والحقيقة التي لا يخطئها رأي أي محلل منصف؛ أن ثم مقايضة تمت بين نظامين متواطئين، أحدهما يريد التخلص من الشيخ، والآخر ذو مأرب خبيث ماكر {ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين}، فالغطرسة الأمريكية تريد أن تؤكد على أنها شرطي العالم، وهي تصر على إبقاء الشيخ رهن الحبس إمعاناً في إذلال الأمة، ولتهينها في شخص واحد من علمائها ورمز كبير من رموزها، إنها تريد أن تشيع شعوراً عاماً لدى الناس بأن الأمة لم يعد بها طاقة لرفض الضيم واستنكاف الهوان، تريد لتؤكد على قهرها لشعوبنا المسلمة المغلوبة على أمرها.. نوع من التحدي لإرادة الأمة ووجودها، فكأنها تصرخ بها – واثقة مستكبرة-: هل من مبارز؟ وصدق الله في وصفهم {إنهم إن يظهروا عليكم لا يرقبون فيكم إلا ولا ذمة}.

فيا أيتها الضمائر.. كيف أوقظك؟ وبأي شيء أخزك؛ كي أتثبت أنك لا زلت على قيد الحياة؟ أم أنه قد بلغ الأمر ما قاله الشاعر: (ما لجرح بميت إيلام؟)، أو كما قال غيره:

وتمددت جسداً جريحاً أمتي نهب الكلاب ومرتع الغربان
ففزعت أصرخ في المعانق للكرى وكأنه قد لف بالأكفان
يا قوم من للدين يحفظ عهده والدين والسلطان مفترقان
إن لم نكن للحق نحن فمن يكو نُ إذا تولى يلتهي ذو الشان

ويا أيتها القلوب المسلمة.. أمؤمنة أنت حقاً، فتقيمي أمارة دعواك فيما للمسلمين من نصرة وولاء.. {وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر}، و “المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يخذله”، “أنصرك أخاك ظالماً أو مظلوماً”، و “من نفس على مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة“.

ويا كل مسلم غيور، وكل عالم موثوق، ويا كل داعية صدوق.. كيف إذا سألك الله غداً عن شيخ ضعيف كفيف ظلم فيكم فلم تنصروه؟!!

أما أنت – سماحة الوالد الفاضل – فوالذي نفوسنا بيده.. ما هنت علينا، ولا انقطعت منا، بل لم تزل بروحك وعلمك تلبث فيها.. أبداً أيها المعلم والمثل ما جفوناك ولا نسينا، وإنما قعدت بنا عن نصرك بعض بلايانا، فإلى الله المشتكى.

ولقد نعتذر بضعفنا، وهو عذر أقبح من ذنوبنا، فما لمليار من معجز به يعتذرون، ولكنه الوهن قذف في قلوبنا “حب الدنيا، وكراهية الموت” والفرقة التي شرذمت جموعنا، والكيانات المشتتة التي توهم كل منها أنه بوسعه وحده التصدي لمصير أمة لا تغيب عنها الشمس، أمة استذلت من مشرقها إلى مغربها!! أمة قد مضى عليها قرنان أو أكثر وهي تغط في نوم عميق، فإذا استيقظ بعضها فمتناحرون!!

قد اتسع الخرق والراقعون نيام قصير المدى عزمه خائر
وذو العزم فيهم بليد الخطى ويقظانهم حائر
وذو الرأي جن أنانية وأفسده المسلك الجائر
قد اتسع الخرق والرتق أعيا وطوقنا الخطر الدائر

إن مصيبة الشيخ أنه ابتلي في زمان أمثالي، ممن لم تزل عقلياتهم تفكر بمنطق الحزبية، حتى في قضايا الأمة المصيرية، وممن يأبون أن تكون المرجعية العلمية من سواهم، فإما أن يكون لأحزابهم الولاء كله، وإلا فلا اعتراف بالآخر، والشعار المرفوع: من ليس معي فهو علي، ورأيي صواب لا يحتمل غير الصواب، ورأي غيري خطأ لا يحتمل إلا الخطأ، والحركة الإسلامية عند بعض فصائلها اصطلاح لا ينطبق إلا على تيار بعينه، بل مخالفوهم ليسوا إسلاميين بالمرة، وإن كان لهم في مسيرة التغيير ألف أثر وأثر، بل وإن أدرك أعداؤهم أنفسهم أنه ما من فصيل أو جماعة إلا وهي بعض الجسد الكبير، بل مكمن من مكامن القوة فيه، وفي سياسة تجفيف المنابع التي يتبعها أعداؤنا خير شاهد وأوضح برهان على أن الجميع لهم بصماتهم على الصحوة المباركة، ولهم آثارهم الملموسة في المجتمع والحياة.. ولكن – وآهٍ من لكن -:

وعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساويا

يا ويحنا ألم يئن بعد أو يولد جيل جيد فريد، مكتمل النضج مستوفي الوعي منكر الذات؟

إن مثل قضية الشيخ ينبغي أن تكون نافذة تطل منها على خارطة الأزمة كاملة، فإن استرداد كرامة عالم تهان الأمة في شخصه هو بعض المطلوب لكرامة الأمة ذاتها، ولا أمل للأمة في هبة كاملة لقضيتها الكبرى ما لم تهب في كل مفردة من مفردات هذه القضية، ولن نفتأ نتهاون في الكبير ما هان في أعيننا الصغير، لو أنه صغير.

وتكبر في عين الصغير صغارها وتصغر في عين العظيم العظائم

والسؤال الكبير الملح: هل تتعامل الأمة اليوم مع قضاياها، أو بالتحديد: مع قضية كقضية إهانة علمائها من منظور شرعي، وبروح إيمانية، وبوعي منهجي، يلتزم فيه أهله التزام من يحرص على الواجب ويحذر من الحرام؟

لقد أولى الفقه الإسلامي قضية فك أسر المسلم أهمية كبيرة وعناية خاصة، حتى إنها لتكاد ترقى إلى مستوى حفظ النفوس من الهتك وحصانتها من الإهدار، بل هي – لعمري – كذلك وأكثر، وذلك لتضمنها حفظ الدين، فإن استنقاذ الأسير هو حفظ لنفسه من القتل أو الإتلاف، وحفظ لدينه من الفتنة والارتداد، وقد قرر تعالى – في محكم تنزيله – أن الفتنة أكبر من القتل وأنها أدهى منه وأشد، حيث قال: {والفتنة أكبر من القتل}، وقال تعالى: {والفتنة أشد من القتل}.

فهل سأل المسلم نفسه: ماذا يجب عليه حيال أخيه المسلم يقع في أسر العدو؟

أورد البخاري في صحيحه – تحت عنوان “باب فكاك الأسير” -: عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فكوا العاني – الأسير – وأطعموا الجائع، وعودوا المريض).

قال الحافظ في الفتح: (قوله: باب فكاك الأسير: أي: من أيدي العدو بمال أو بغيره، والفكاك: التخليص.. قال ابن بطال”: فكاك الأسير واجب على الكفاية، وبه قال الجمهور، وقال إسحاق بن راهوية: من بيت المال) [1].

وجاء في السير الكبير وشرحه – من كتب الحنفية -: (أن تخليص أسراء المسلمين من أيدي المشركين واجب) [2].

وجاء في قوانين الأحكام الشرعية – من كتب المالكية -: (يجب استنقاذهم من يد الكفار بالقتال، فإن عجز المسلمون عنه – كما هو الحال اليوم – وجب عليهم الفداء بالمال، فيجب على الغني فداء نفسه، وعلى الإمام فداء الفقراء من بيت المال، فما نقص تعين في جميع أموال المسلمين، ولو أتى عليها) [3].

وفي كلمات الإمام القرطبي خير تعبير عما يمزقني من ألم، وهو ألم يخزني به إهمال المسلمين تخليص الأسرى من أيدي المشركين، والواقع المرير الذي تعاني فيه الأمة من تفرقها من جهة، ومن استظهار بعضها على بعض ليت بالمسلمين بل بمعونة الكافرين!!

يقول الإمام القرطبي: (تظاهر بعضنا على بعض، ليت بالمسلمين، بل بالكافرين!! حتى تركنا إخواننا أذلاء صاغرين، يجري عليهم حكم المشركين، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!! قال علماؤنا: فداء الأسارى واجب، وإن لم يبق درهم واحد، قال ابن خويز منداد: … وردت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فك الأسارى وأمر بفكهم، وجرى بذلك عمل المسلمين، وانعقد به الإجماع، ويجب فك الأسارى من بيت المال، فإن لم يكن – يعني أموال – فهو فرض على كافة المسلمين، ومن قام به منهم؛ أسقط الفرض عن الباقين) [4].

وجاء في مغني المحتاج – من كتب الشافعية -: (وحمل البلقيني استحباب فك الأسرى على ما إذا لم يعاقبوا – يعني إذا تمحض الأسر سجناً دون عقوبة أخرى تنزل بهم – فإن عوقبوا وجب، وحمل (الغزي) الاستحباب على الآحاد والوجوب على الإمام، وهذا أولى) [5].

وقال ابن قدامة في المغني – من كتب الحنابلة -: (ويجب فداء أسرى المسلمين إذا أمكن، وبهذا قال عمر بن عبد العزيز ومالك وإسحاق) [6].

روى سعيد بن منصور عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنه قال: (إذا خرج الرومي بالأسير من المسلمين فلا يحل للمسلمين أن يردوه إلى الكفر، وليفادوه بما استطاعوا) [7].

ومع ذلك فإن غاية ما نطلبه من الناس أن يوصلوا للعالم أن قضية الشيخ هي قضية المسلمين بأسرهم، أن يهتفوا بهذا ويلمؤوا به سمع الدنيا، أن يعلموا الأمريكان أن الشيخ رقم كبير في حساباتنا، وأن رصيد الأمريكان سينقص أو ينفد بمقدار هذا الرقم، ذلك إن لم يكن قد نفد فعلاً ومنذ حين كما نفد صبر المسلمين.

إننا مطالبون أن نلقن ذرياتنا وأجيالنا القادمة كيف يكرهون من يتعمد إهانتهم ويجتهد في إذلالهم، فلتمتلئ قلوب أبنائنا نقمة على أعدائهم، ولتتخم صدورهم غيظاً وتحرقاً، ولنترقب لحظة الخلاص {ألا إن نصر الله قريب}.

فهل نستشعر الخطر الداهم والمتزايد والذي لم يقف عند الحد المرئي إن بقينا هكذا مستسلمين للواقع، أم أننا قد تخدرت أعصابنا بما نعزي به أنفسنا من التبرير وفلسفة الهزيمة، وهل نجتهد في أن نكون على مستوى الواجب ونتعامل مع قضايانا بحزم وعزم، حتى يعلم الله ذلك من قلوبنا، فيبدل ضعفنا قوة وعجزنا قدرة، وذلنا عزاً، وهواننا شرفاً وفخراً، ورفعة ومجداً؟

يا أمة الإسلام: {خذوا ما آتيناكم بقوة}.
جمادى الآخرة / 1420 هـ

[1] فتح الباري: 6/167.
[2]
شرح السير الكبير: 4/1587.
[3]
قوانين الأحكام الشرعية، لابن جزي: ص 172.
[4]
الجامع لأحكام القرآن: 2/23.
[5]
مغني المحتاج: 4/261.
[6]
المغني: 10/498.
[7]
سنن سعيد بن منصور: رقم: 2819، 2/293.

التعليقات

موضوعات ذات صلة