بقلم الدكتور/ طارق الزمر
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد
الصحوة الاسلامية: هي الامتداد الطبيعي لصحوات عديدة شهدها التاريخ الإسلامى وعبرت عن عقيدة التوحيد فى أنقى و أنصع صورها والتراث الفقهى الهائل الذي خلفه علماء الأمة الثقات، كما عبرت عن الدور الواجب للنخبة تجاه قضايا الأمة والدور الواجب للأمة تجاه العالم.
والصحوة الإسلامية المعاصرة هي امتداد لتلك الصحوات فضلا عن كونها رد الفعل الصحيح على إسقــاط الخـلافـة, ورد الفعل الحـضـارى والذاتي على محاولات فرض الثقافــة الغـربيــة على المجتمعات الإسلامية.
فالبداية الحقيقية لهذه الصحوة تعود اكتسابها المشروعية الدينية والسياسية بالعـالم الرسمى عن إنهاء نظام الخلافة
الاسلامية في عشرينيات القرن الماضي بعد عدة سنوات فقط ـ من هزيمة الدولة الـعـثـمـانـيـة فى الحرب العالمية الأولى واتفاق الحلفاء الغربيين على تقسيمها واقتسام فتاتها وإذا أردنا أن نقسم المراحل التاريخية للصحوة الإسلامية في مصر على مدى الثمانين عاما الماضية لأمكن تقسيمها إلى المراحل التالية:
أولا :. مرحلة التأسيس (١٩٢٨ .١٩٤٨)
وا هم ما يمير هذه المرحلة ( هو التأسيس لكل مظاهر الصحوة . وتحديد طبيـعتهـا وتشكيل أهم مـالمـحـها وتحديد أهدافها
الرئيسية, فضلا عن ابتكار وسائل وآليات للعمل الاسلامي تتواكب مع تطورات المجتمعات الاسلامية.ولا يخفى على منصف أن الشيخ حسن البنا هو الرائد الحقيقي والمؤسس الفعلي للصحوة الإسلامية المعاصرة: وذلك من خلال تاسيسه وتنظيمه لجماعة الإخوان المسلمين وأ نشاطاتها المختلفـة. وقد تميزت هذه المرحلة بالنمو الأفقي والتوسع القاعدى.وبدأت خلالها تتبلور أهم ملامح الصحوة وأهم معالمها الاساسية, وإن غلب على هذه المرحلة ـ كمرحلة ابتدائية ـ. سطحية التكوين وبساطة الفاهيم
ثانيا :. مرحلة التأكيد (١٩٤٨ ١٩٦٧م)
و أهم ما ميز هذه المرحلة هو تعميق المفاهيم الإسلامية والبحث عن وسائل أقوى لتدعيم الوجود الإسلامي وأكثر فاعلية في تحقيق التحول الإسلامي المنشود, وقد ساعد على ذلك تميز هذه الحقبة بالمصادرة لكل مظاهر الوجود الإسلامي والعمل على استئصاله: فكان رد الفعل التلقائى هو العمل على تجذيرها وتأكيده. وهكذا جاءت كتابات وأفكار سيد قطب فى السياق الطبيعى لسيرة الصحوة كما جاءت كرد فعل مباشر على حملات المطاردة والتعذيب واسعة النطاق: كما أنه كان من الطبيعى عند توقف النمو الافقى أن يتعمق الوجود ويتجذر وقد تمثل ذلك ـ فى غالبه ـ فى الرؤية الشاملة والمتكاملة الأبعاد التي طرحها سيد قطب.
وإن لم تخل كتابات سـيـد قطب من تعميم أوقع فى كثـيـر من الحرج, وصياغات باللغـة أشكل الوقوف على مضمونها بدقة.ولهذا فقد تعددت القراءات لهذه الكتابات, وتباينت بدرجة كبيرة وإن كنت أميل إلى أن الجنوح إلى التكفــيــر والعنف اسـتنـاذا إلى كتابات سيد قطب, ليس له ما يبرره, وذلك فى ضوء القراءة المتأنية لكل ما كتب, والاقتراب الحقيقى من حياة الرجل وسيرته الذاتية.
ثالثا:. مرحلة النمو الافقى والانتشار أو مرحلة التأسيس الثانية (١٩٦٧– ١٩٨١م):
وقد تميزت هـذه المرحلة بمناخ سياسى منفتح نسـبيا إذا مـا قورن بالحقبة الناصرية.كما تميزت بظرف سياسي اضطر القيادة السياسية لترك بعض مظاهر النشاط الإسلامي,لتقويض مظاهر النشاط اليساري الناصرى الذى كان يهدد النظام الوليد وتوجهاته السياسية الجديدة.
وفي هذا الإطار تفوقت مظاهر الصحوة وامتدت لتشمل كافة نواحي المجتمع: وإن كانت الـجـامـعـة هي المركز الرئيسي للنشاط الاسلامي, وهكذا تجذر الوجود الاسلامي في المجـتمع المصـري واتسع نفوذه بشكل ملحوظ.
وقد تميز هذا الاتساع القــاعــدى علي اتساع الثلاثينيات والأربعينيات بأنه قد أصبح أكثر فهما والتزاما بأحكام الشريعة. .
وأكثر تفاعلا مع قضايا الصحوة ومقتضياتها وأكثر وعيا بطبيعة
الأدوار ا لوا حبة وطبيعة التحديات ا المحيطة : فلقد جمع التكوين الفكري والسياسي لهذه الرحلة بين مزايا المرحلتين السابقتين.
ورغم ذلك فقد عا ب هذه المرحلة استعجال جنى الثمار: على أساس أن العمل الإسلامى قد اكتملت مراحله وأطواره الدعوية .
فتصاعدت موجات التفكير أو التغيير العسكرى: وهو ما ظهر جليا فى أعوام١٩٧٤م ثم١٩٧٧ثم ١٩٧٩ ثم ١٩٨١.
وعلى الجانب الآخر كانت قد تصاعدت موجات التضييق على النشاط الإسلامى بل وكل الأنشطة السياسية على أثر المعارضة الحادة لاتفاقيات السلام مع إسرائيل حتى بلغ الضيق والتضييق مداه هى قرارات التحفظ في سبتمبر ١٩٨١ م .
رابعا: . مرحلة النمو التنظيمي( ١٩٨١/١٩٩١
وقد تميز النصف الاول من هذا العقد بتسامح سياسي نسبي مع الصحوة | الإسلامية هى محاولة لاحتواء حالة التمرد المسلح التى بلغت ذروتها في عام١٩٨١٤م وفى ذات الوقت كانت ضرورية للنظام الجديد وهو يتحسس طريقه ويخطو , أولى خطواته نحو الإمساك بزمام الحكم وإعادة الاستقرار: ثم لم تلبث أن تصاعدت الضغوط الأمنية على وقع مساحة الاتساع لأنشطة والمد الإسلامي وأيضا تصاعد الاستفزاز الإسلامي الشبابى حتى شهد العقد الثانى من الثمانينيات عددا من العمليات المسلحة التى عجلت حالة الصدام والتى بلغت ذروتها بوصول طلائع الأفغان العـرب من الخارج:واغتيال المتحدث الإعلامي للجماعة الإسلامية د. علاء محي الدين, والرد على ذلك باغتيال د.رفعت المحجوب رئيس مجلس الشعب.. وهكذا أصبحنا على مشارف مرحلة معبأة بكل عناصرالصدام فوقع الصدام الرهيب الذى لم تشهد مصر مثله على طول تاريخها.
خامسا:. مرحلة الصدام الكبير ) ١٩٩١– ١٩٩٧م
(كان السياق يقود نحو صدام كبير )عسكرى وقيمى( دلت عليه دلائل كثيرة: أهمها أن القبضـة الأمنية قد أخذت فى التشدد وأن الصحوة الاسلامية قد استشعرت أنها فوق الملاحقة الأمنية أو أنها قد تجاوزتها . فضلا عن التعبئة العالية لبعض فصائل العمل الاسلامية ولاسيما الجهادية, والتي كانت مرشحة بالفعل للدخول في أتون هذا الصدام.وكانت الجمـاعـة الإسلامية أكثر هذه الفصائل اسـتـعـدادا؟ نظرا لطبيعة تكوينها الفكري ـ آنذاك ـوتعبئتها المعنوية العمليـة, وبنيانها التنظيمي الصارم واستعداد شبابها للتضحية فى كل لحظة.
وكان مـن أهم الدوافع للصـدام لدى الجماعة: أنها قد فقدت الكثير من منابرها ومراكز دعوتها واعتقل العديد من مسؤليها وقادتها وأصبحت الجمـاعـة مطاردة على طول الوقت. وفى كل مكان كما لم يكن مدرجا فى حسابات الجماعة أن هناك قوى تسعى لاستدراجها لفخ الصدام: والذى يحقق أهدافها بامتياز.حيث تدار من خلال عملية تصفية للجماعة. وإعادة ترتيب أوضاع الصحوة الاسلامية عامة داخل المجتمع, والوقوف بقوة أمام كل مظاهر الأسلمة الزاحفة.
وعلى وقع الصدام ـ الذي اتسع مداه ليشمل قطاعات ومجالات عديدة ـ فقدت الجماعة عددا كبيرا من أهم قياداتها وقواعدها وخسرت كل مراكز نشاطها السلمي ومنابرها الدعوية.وأصبحت جماعة خلف الأسوار… كما تعرضت البلاد لأكبـرعملية تمرد جماعي ـ من حيث نوعية العمليات ومداها الزمني ـ لم تشهدها مصر فى تاريخها القديم والحديث: وتعرضت السلطة المركزية لحرج بالغ وهى التى طالما استلزمت خضوع المصريين: بل وربما عبوديتهم على فترات مختلفة من تاريخهم, والأخطر من ذلك هو انتقال التوتر والصدام إلى عدة دول عربية وإسلامية ـ كان أهمها الجزائر ـ حيث مسـاحـة الاتصال المعنوي الكبير بين كافة شرائح العمل الإسلامي بالمنطقة.
سادسا: مرحلة مبادرة وقف العمليات العسكرية 1997 * 2006“وهكذا كان لابد من التدخل المسئول الذي قام به قادة الجماعة الاسلامية من داخل السجون المصرية: وهو التدخل الذي لم يحالفه النجاح أكثر من مرة لظروف خارجة عن إرادتهم, ولكنه صادف ظروفا أفضل عام 1997م: فلقد شـعـر النظام أنه قد كسر شوكة التمرد المسلح وشعرت القيادات الميدانية أن المبادرات المتلاحقة من خلف الاسوار لها منطقها.
وقد استطاع قادة الجمـاعـة الإسلامية إقناع كل مسئوليها وقواعدها بالداخل والخارج بالتوجه الجديد, واستطاعوا إقناع عدد مهم من قادة الجهاد بالأفكار العامة للمبادرة وكان من اللافت للنظر أن تعلن جبهة الإنقاذ الجزائرية مبادرة شبيهة بعد المبادرة المصرية بفترة وجيزة ،ثم تعلن بعض القيادات الإسلامية بالسعودية واليمن والمغرب نفس الشيء لقد حملت مبادرة الجماعة عددا مهمـة من عوامل النجاح والمصداقية أهمها:
١ ـ أن الجماعة التى تدعو إلى وقف العمليات العسكرية: قد خاضت أشرس وأوسع عملية تعبئة صدامية ومواجهة عسكرية على مدى ما يقرب من عشرين عاما، فهى تدعـو إلى ذلك من موقع تجربة كبيرة خاضتها بنفسها كما تعرضت خلالها لضغوط لم تحدث من قبل
٢ـ أن الجماعة لم تعلن عن تخليها عن مـجـال العمليات العسكرية إلا بعدما استتنقدت أهم استراتيجياته ولم تتغلب فيه المصالح على المفاسد: فلقد خاضت مجال الـتـغـيـيـر العسكري الشامل, والذي كانت نهايته اكتشاف تنظيم 81 م وعدم القدرة على تنفيذ المخططات… وخاضت مجال الأعمال العسكرية الوقائية. على سبيل الردع, أو تأمينا لحركة الدعوة ـ وذلك خلال عقد التسعينيات ـ ووصلت إلى طريق مسدود يبعد أن تضاعفت الخسائر والمفاسد العامة.
٣.ـ أن الجماعة التى دعت إلى التخلي عن العمليات العسكرية فى مصر لم تعلن عن تخليها عن مشروعها الاسلامى والذى لاتزال تدعو إليه. وإن أكدت على طابعه السلمى
٤– ان الجماعة لم تقصر مبادراتها على مجرد اتخاذ القرار التنظيمي بوقف العمليات العسكرية. بل تعدت ذلك إلى طرح رؤية يجعلها مؤهلة للتعامل مع فكر التغيير العسكرى بشكل عام كمـا أن هناك عددا مهما من المقتضيات المنهجية والظروف السياسية التى تؤهل منطق المبادرة لكى يكون منطقا عاما للعمل الإسلامية ولا سيما في هذه المرحلة المهمة من تاريخ الأمة منها:
ا. وصول عمليات التغيير العسكرى داخل المجتمعات الاسلامية إلى طريق مسدود ونتائج سلبية بشأن الدول والجماعات على السواء. فضلا عن انحراف مسار العمليات العسكرية فى بعض الدول إلى محاذير شرعية خطيرة: فرضتها طبيعة القتال داخل المجتمعات الاسلامية, كما اتسعت دائرة التكفير والاستحلال الذى تفرضه ساحة المعركة
٢ تحول العمليات العسكرية إلى مـجـرد عمليات للدفاع عن النفس في حدها الأدنى ـ وهو الغالب ـ ولاثبات الحضور فى حدها الاقصى دون أن يرتبط ذلك بأهداف إسـلامية عليا أو مقاصد شرعية عامة
.3 ـ لقد أصبحت العمليات العسكرية عبارة عن رد فعل عشوائى فى الغالب الأعم, وريما كانت استجابة الاستفزازات مخططة فأصبحت عبئا على العمل الإسلامي مسيرة الصحوة الاسلامية المعاصـرة, وذلك إذا مـا نظرنا إلى هذه العمليات من خلال رؤية شاملة ما يجري على الساحة الدولية وساحة المجتمعات الاسلامية.
٤ـ لقد فرضت التحولات الدولية الـمـعـاصـرة: وعودة عـصــر الاستعمار من جديد معركة جديدة وظروفا مغايرة وهو ما يستدعي تغليب منطق المصالحات الوطنية ووقف كل أنواع النزاع والخلاف الداخلى فى سبيل انشاء بيئة اجتماعية وسياسية قادرة على مقاومة التحديات الخارجية.
٥ـ كما أن المشروع الإمبراطوري الأمريكي فى المنطقة الاسلامية قد فرض على الصحوة الحركات الاسلامية أن تكون في الواقع الاساسية للدفاع عن الهوية والأوطان,وجعل صيغة الوفاق السياسي فى مـقـدمـة أولويات المشروع الاسلامى المعاصر وجعل من مهـام النهوض بالمجتمعات والعمل على تنميتها والدفع بها قدما إلى الأمام,من ضرورات الدفاع عن الإسلام والذود عن الهوية.
لقد جاءت المبادرة استشرافا الأوضاع الخطيرة التي يتعرض لها الاسلام والعالم الإسلامى: وحالة الصدام المتنامى بين الغرب والاسلام على إثر انهيار الإمبراطورية الشيوعية, وهو صدام تأكد بعد الإعلان عن تأسيس تنظيم القاعدة عـام١٩٩٨م الجبهة العالمية لقتال اليهود والصليبيين أى بعد إطلاق مبادرة بعام, وتكرس بعد تفجيرات سبتمبر. وأصبح الإسلام والصحوة الإسلامية والعالم الاسلامي في مرمى النيران الأمريكية الطائفة.
.لقد كانت المراحل الست السابقة: التأسيس والتأكيد والانتشار والنمو التنظيمي والصدام ومبادرة وقف العمليات العسكرية, هي أهم المراحل التاريخية للصحوة الاسلامية والتي يمكن من خلالها أن نرصد أهم النجاحات التي حققتها وأهم الإخفاقات فى مسيرتها الاسلامية هى الصحوة تعبير عن جهد بشري لا يبلغ الكمال بحـال ولا يتوقع له ذلك: لذا فـهـو فى حـاجـة دائمــا إلى التطوير والترشيد