بقلم: فضيلة الشيخ علي عبد الظاهر
كان معنا أخ من الفيوم في الوادي الجديد يقرأ ورده اليومي من القرآن عشرة أجزاء يستيقظ قبل الطابور أو أنه لا ينام بعد الفجر، ولكنه يقرأ العشرة أجزاء عن ظهر قلب مع صلاة الظهر، طبع عليه القرآن طابعه فتخلق به وكان لا يشغله شاغل عن ورده أبدا إلا أن يكون عنده زيارة.
وكان أبرز ما يميزه التواضع الجم ولين الجانب وحرصه على الوقت والتعاون والألفة ومحبته لإخوانه وتوقيره لكبيرهم وعطفه وحنوه وبره بمن يصغره سنا.
رأيت الأخ حسين الصول (عين شمس) يوما وكانت نوبته في المطبخ يغسل المواعين ويراجع ورده من القرآن وقد سند مصحفا على مرأى منه فوق طبق جعله في مكان آمن ينظر إليه كلما لزم الأمر فلما سألت عرفت أن هذا ديدنه وعادته في استغلال أي فرصة في بناء نفسه وإعدادها.
كنت بجوار أخ في طابور الصباح سمعته يقرأ ورده فلما راقبته عرفت أنه يقرأ القرآن في كل أحايينه حتى إنه لو كان في حوار أو مناقشة أو يتبادل أطراف حديث مع أحد فسكتا سكتة تسمح بقراءة بعض آيات قرأ قدر ما يسمح به الوقت وكان يساعده على ذلك حفظه المتقن وقوة ذاكرته.
وكانت الزنازين في فترة الصباح خلية نشاط تجد من يضع أصبعه في أذنه مغلقا عينه أو موجها وجهه إلى الحائط حتى لا تشغله أي حركة أو صوت من يقرأ بجواره أو من يُسَمِعَ لأحد أو متكلم فيصده عن قراءة ورده ولعل بعضهم يراجع ورده منتظراً دوره في دخول الحمام، تخيل غرفة لا تزيد مساحتها على أقصى تقدير عن ٣٠ متر بها ١٥ أخ تتباين أفكارهم وتختلف طبائعهم ومشاربهم وقد جيء بهم من كل حدب وصوب وقد أغلقت عليهم الزنزانة شهور طوال، تجد فيها من يجلس يراجع أحاديث على أحد إخوانه ومن يكتب بأنبوبة “البنزانيل” على الحائط وبجواره أخ ينتظر حتى يفرغ من الكتابة ليبدأ في الحفظ ومن يراجع ورده ومن يعد الطعام ويهيئ مكان السفرة ومن يجهز نفسه للزيارة ومن يتناقش مع غيره في مسالة فكرية او فقهية او غير ذلك.
ولقد ابتكر الأخوة في داخل الغرف شخصية المحتسب فهو يراقب كل هذه التداخلات ويتدخل لينبه حتى لا يشوش أحد على أحد ولا يضر أحدهم أخيه حيث علمنا ديننا أنه لا ضرر ولا ضرار.
فما أحوجنا إلى استعادة هذه الروح ونحن في عافية وسعة من أمرنا وفقنا الله وإياكم إلى ما يحبه ويرضاه وأعاننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته.