بقلم: فضيلة الشيخ الدكتور عبد الآخر حماد

حين يكتب المسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنما يكتب عنه كما يكتب جنديٌ عن قائده، أو تابعٌ عن سيده، أو تلميذٌ عن أستاذه، كما يذكر الشيخ محمد الغزالي رحمه الله في مقدمة كتابه: “فقه السيرة “. لكنَّ الحبيبَ المصطفى صلى الله عليه وسلم ليس كأي قائد أو أي معلم، وإنما هو النبي المؤيد بالوحي الذي لا ينطق عن الهوى. وعليه فليس لنا إذا كتبنا عنه أن نقف عند حدود العظمة في جوانب حياته الإنسانية كما فعل بعض المعاصرين الذين أرادوا أن يقدموا النبي صلى الله عليه وسلم في صورة يتقبلها الغربيون، فراحوا ينكرون أو يتأولون كل ما يظنون أن العقل البشري لا يتقبله من المعجزات الحسية ونحوها، ونسي هؤلاء أن للعقل البشري حدوداً لا يتخطاها، وأن هناك أموراً ليس لنا فيها إلا التسليم لأن فهم حقيقتها فوق إدراك العقل البشري.
إننا لا نشك في أن الرسول صلى الله عليه وسلم بشرٌ من البشر، بيد أنه بشر يوحى إليه، كما قال تعالى: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي…). [الكهف: 110]. وإذن فمسلك التركيز على جوانب العظمة الإنسانية في شخصيته صلى الله عليه وسلم دون الالتفات إلى قضية الوحي ليس بالمسلك العلمي الصحيح، وإن زعم أصحابه غيرَ ذلك.
ولو كانت عظمته صلى الله عليه وسلم تتمثل في كونه مفكراً عبقرياً، أو سياسياً محنكاً، أو قائداً عسكرياً فذاً، أو نحو ذلك لما نازعه قومه ولا قاتلوه، كيف وهم الذين قالوا له في بعض مراحل دعوته: (إن كنت تريد شرفاً سودناك علينا، حتى لا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد مُلكاً ملكناك علينا). [سيرة ابن هشام (1/293)، وقد حسنه الألباني في تخريج فقه السيرة ص 106].
وما ذلك إلا لأن مشكلته الأولى مع سادة قريش وكبرائها كانت تتمثل في كونه جاءهم مخبراً أنه رسول يأتيه الوحي من السماء، داعياً إياهم إلى عبادة الله وحده ونبذ ما يعبدون من دونه. ومن أجل هذا فإنه لما رأى أبو سفيان رضي الله عنه جند المسلمين الكثيفة يوم فتح مكة، وقال للعباس بن عبد المطلب: (واللهِ يا أبا الفضل لقد أصبح ملكُ ابنِ أخيك الغداةَ عظيماً)، فإن العباس رضي الله عنه حرص على أن يصحح له ذلك المفهوم الخطأ الذي تبادر إلى ذهنه فقال له: (يا أبا سفيان، إنها النبوة. قال: فنعم إذن). [سيرة ابن هشام (4/ 47)، والطبراني في الكبير (7264) من حديث ابن عباس، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/167): رجاله رجال الصحيح. وصححه الألباني في تخريج فقه السيرة ص: 411].
والعباس رضي الله عنه كان يعلم أن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ليست مجرد رسالة روحية لإصلاح الأخلاق وتهذيب النفوس، وإنما هي رسالة شاملة كاملة؛ وأن إقامة الدولة الإسلامية (أو المُلك بحسب تعبير أبي سفيان) هو جزء لا يتجزأ من تلك الرسالة. لكنه أراد أن يؤكد لأبي سفيان أن كل هذا الذي يراه من مظاهر القوة، وعلامات وجود الدولة منبثق من مشكاة النبوة، ولولا النبوة لما كان شيء من ذلك.
إننا نعلم أن بعض المفكرين الغربيين قد كتبوا كتاباتٍ منصفة في حق النبي صلى الله عليه وسلم. ولا شك أن المسلم يَسُره كثيراً أن يجد من بين أولئك الغربيين من ينصف رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعلي من شأنه، لكن علينا أن نتنبه إلى أن تلك الكتابات تدور في مجملها في فلك الحديث عن العظمة الإنسانية، دون نظر لقضية النبوة والرسالة.
ولذلك فإن مايكل هارت حين وضع كتابه عن الشخصيات المائة الأكثر تأثيرا في التاريخ الإنساني، ووضع على رأسهم محمداً صلى الله عليه وسلم، فإنه علل ذلك بكونه قد نجح نجاحاً مطلقاً على المستوى الديني والدنيوي، وأنه كان قائداً سياسياً وعسكرياً ودينياً، وأنه بعد ثلاثة عشر قرناً من وفاته لم يزل أثره متجدداً.
وأما قضية النبوة فهو يشير إليها إشارات غامضة فيقول بحسب ترجمة أنيس منصور: (وفي الأربعين من عمره امتلأ قلبه إيماناً بأن الله واحد أحد، وأن وحياً ينزل عليه من السماء، وأن الله قد اصطفاه ليحمل رسالة سامية إلى الناس). فكأنه يرى أن موضوع الرسالة والوحي إنما هو فقط شيء وجده محمد في قلبه، وربما كان مجرد تخيل عرض له، فلا جاءه جبريل، ولا نزل عليه قرآن.
إن مثل هذه الكتابات المنصفة يمكن أن يستفاد منها في محاولة تصحيح الصورة المغلوطة التي ترسخت في العقل الغربي من جراء دعوات متعصبة وكتابات ظالمة، ظلت لقرون عدة تشوه صورة نبي الإسلام وتحط من قدره. فيقال للغربيين: هؤلاء كتاب ومفكرون من كبار كتابكم ومفكريكم، قد أنصفوا هذا الرسول الكريم وأشاروا إلى شيء من عظمته. فينبغي عليكم ألا تسلموا قيادكم لأولئك المتعصبين الذين يريدون أن يحجبوا عنكم نور هذا النبي العظيم وما جاء به من الحق المبين.
وربما جاز لنا أيضاً أن نستفيد من تلك الكتابات في اتخاذها طريقاً للإقناع بنبوة نبينا صلى الله عليه وسلم ، وذلك من خلال تعريف الناس بأن هذا النجاح العظيم الذي حققه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشار إليه مايكل هارت ، لا يمكن أبداً أن يتحقق فقط بمثل الإمكانات المادية القليلة التي كانت لديه صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه ، فلا مندوحة من الإقرار بأنه نبي مؤيد من عند الله عز وجل ، وقد أشار إلى قريب من هذا المعنى الدكتور مصطفى محمود في كتابه ( محمد صلى الله عليه وسلم ) حيث ذكر أنك إن أخذت تحسب بالورقة والقلم ،واستعنت بكل الوسائل الحديثة فإنك لا يمكنك أن تفسر كيف أحدث محمد صلى الله عليه وسلم ،وهو فرد واحد مضطهد مطارد هذا التأثير في أفرادٍ قلائل يُعَدّون على الأصابع، ثم يؤثر هؤلاء في كثرة من مئاتٍ ثم ألوفٍ تهزم الروم، ثم الفرس ،ويحدث كل هذا في سنواتٍ معدودة ، وابتداءً من الصفر، ومن بداوةٍ مطلقة، ومن عربٍ مشرذمين بلا حضارةٍ وبلا علمٍ يُذكر، وستظل المعادلة ناقصة حتى تُدخِل فيها ذلك العامل الخفي، عامل الغيب، وسند المدد الإلهي من التمكين والتوفيق. ثم يقول رحمه الله: (نحن إذن أمام نبوةٍ مؤيدةٍ بسند الغيب، ورجلٍ انعقد له لواء التمكين الإلهي، ولسنا أمام مصلح اجتماعي، أو صاحب ثورة، أو عظيم من عظماء الدنيا، يعمل بالاجتهاد والعلم الكسبي).
فهذا ومثله مما يمكن أن نستفيده من مثل تلك الكتابات المنصفة، أما أن نجعل تلك الكتابات هي غايةَ المراد ونهايةَ المطاف، فإن ذلك من الخطأ البين الذي لا يمكننا قبوله ولا الرضا به.
عبد الآخر حماد
عضو رابطة علماء المسلمين