القائمة إغلاق

في ذكري الهجرة النبوية الشريفة (٢)

بقلم: أ. عصمت الصاوي

في ذكري الهجرة النبوية الشريفة (٢)… التعاليم النبوية أقوي من الانهيار

قد يكون صحيحاً أن الإسلام قد تراجع عن موطن الريادة والصدارة، ومن ثم تراجعت تعاليم النبي صلى الله عليه وسلم وتوجيهاته، فلم تعد تقود البشرية وتوجهها ولم تعد هي المسيطرة علي مقاليد الأمور المتحكمة في توجيه دفتها.

قد يكون ذلك صحيحاً بلا مناقشة، ولكن الذي لا شك فيه أن هذه التعاليم السامية الراقية كانت أقوي من الانتزاع والاستئصال والانهيار، فلقد تركت وهي تتراجع أعظم الآثار التي استقرت وترسخت في حياة البشرية في صورة مبادئ ضخمة وقواعد عريضة، ومنظومات قيمية، ضربت بجذورها في أرجاء الإنسانية حتى أصبح اليوم من المستحيل التراجع عنها باعتبارها علما علي الإنسانية ذاتها.

حتى وإن زعم المستفيدون منها والمتمتعون بها والداعين لها أن لها أبا غير محمد (صلى الله عليه وسلم) وأن لها مصدراً سواه، وسندلل علي رسوخ تلك المبادئ في ضمير الإنسانية بثلاثة من المبادئ الضخمة التي رساها النبي صلى الله عليه وسلم ولا يمكن للبشرية بحال أن تتراجع عنها بل هي اليوم أقصي ما يراودها في أحلامها أن تهفوا إليها وتحاول الاقتراب منها.

أولا: صناعة المجتمع النموذج

وأقصد به تلك الدولة الوليدة التي أسسها النبي (صلى الله عليه وسلم) في المدينة وأصبحت نموذجا فريدا بُنيت علي منواله العشرات من دول الإسلام بعد ذلك، هذا النموذج الذي يقوم علي التعايش السلمي الأمن بين أفراده من جميع الأجناس والألوان والأديان في امتزاج وذوبان غير مسبوقين، ويقوم علي احترام الأخر وتقديره واحترام الأقليات داخل الدولة الواحدة والتكفل لها بجميع حقوقها الدينية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وكما بني علي التعايش السلمي داخل الدولة الواحدة تحت جامع الإنسانية ومظلة الإسلام، فقد بني كذلك علي التواصل الحضاري المثمر مع دول الجوار وفتح قنوات التواصل ومد جسور الثقة فيما بينهم أخذا وإعطاء، وصحيح أن هذا النموذج الذي وضعه محمد صلى الله عليه وسلم قد تراجع بانحصار موجة المد الإسلامي في الأرض، ولم يعد يُطبق تحت الراية الإسلامية، ولكنه وإلي اليوم هو النموذج الأمثل الذي تتطلع إليه البشرية وتهفوا إليه وتنادي به جميع المجتمعات الحديثة بل وجميع دول الأرض علي حد سواء، بل ولا تزال فكرة الإنسانية الجامعة لمختلف الأجناس والأديان والألوان تحت رايتها خطاً عريضاً تهفو البشرية إليه وتهتف مناديه به.

ولا تزال إشكاليات الأقليات الدينية تؤرق العالم في القرن الحادي والعشرين، وتتطلع إلى مجتمع المدينة المحمدية الذي تأمن فيه على دينها ومستقبلها وأمنها، ولا تزال معضلة صدام الحضارات أم التقائها هي الشغل الشاغل لدول العالم العظمى، ولا تزال العنصرية البغيضة تأكل العالم الأبيض، ولا يزال الربا يطغي علي اقتصاديات العالم وينهش جسدها، ولا يزال ولا يزال والقائمة تطول، بينما يكمن الحل في البدائل والأطروحات المحمدية في المجتمع النموذج الذي صنعه وأسسه في عشر سنوات فقط هي عمر دولته من يوم هجرته إلي يوم وفاته صلي الله عليه وسلم.

ثانيا: الحروب

ومع قيام دولة المدينة علي التعايش السلمي الأمن والتواصل الحضاري المثمر مع دول الجوار إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم وشريعته الغراء قد اعترفا بالحرب كاستثناء مكروه طارئ تستدعيه الضرورة.

ولكنه علي الرغم من ذلك فقد وضع آليات كثيرة لمنع نشوب الحرب ابتداء، وأرسى مبادئ عظيمة وهامة غيرت أهداف الحروب وغاياتها ومقاصدها ووسائلها، بل وقلم أظفار الحروب إذا تلاشت البدائل وانعدمت وأصبح الصدام هو الخيار الأخير والبديل الأوحد أمام إصرار الغير عليه، فلا تنتهك الحرمات، ولا تستباح المقدسات، ولا يقتل طفل ولا شيخ ولا امرأة ولا يحرق زرع ولا يهلك ضرع ولا يمثل بإنسان، ولا تصيب إلا المقاتلين، وأكد علي الوفاء بالعهد والالتزام بالوعد، بل ووضع كذلك أساليب كثيرة لوقف الحرب وإنهاء النزاع وتسويته، فهو لا يقبل الحرب ابتداء، وإذا قامت  قلم أظفارها مع السعي في إطفاء جذوتها وإخماد  نارها والعمل علي إنهاءها، وصحيح أن البشرية بعد تراجع الإسلام لم ترتق إلي هذا المستوي الأخلاقي في حروبها وصحيح أن دوافع الحرب والسلم اليوم لم ترتفع عن المصالح والمغانم والأسلاب .

وصحيح أنها لم ترتق إلي حيث أراد محمد (صلى الله عليه وسلم) من الوفاء بالعهد وحفظ الوعد والالتزام بالدستور المحمدي في القتال.

ولكن هذه التعاليم علي أي حال لم تمح من واقع البشرية فقد ظلت أعناق العالم تتطلع إلي دستور سام ينقذها من وحشية الحروب وشراستها، فبدأ العالم في القرن السابع عشر الميلادي (الحادي عشر الهجري) يخطو خطواته الأولي نحو هذا الاتجاه فسن قوانين للحروب في برامج الأمم المتحدة وحقوق الإنسان، وكل مواردها وبنودها لا تخرج في أفضل أحوالها عن دستور محمد صلي الله عليه وسلم وأدب القتال فيه. 

ثالثا: حقوق الإنسان

جاء محمد صلى الله عليه وسلم والكرامة الإنسانية لطبقة معينة ودم معين والبقية الحقيرة الكاسحة همل لا وزن ولا قيمة، فقال “الناس سواسية كأسنان المشط”.

وقال “كلكم لأدم وأدم من تراب” فكرامة الإنسان وحقوقه مستمدة من كونه إنسان لا من أي حيثية أخري، فلا علاقة للجنس أو اللون أو الوطن أو الدين بكرامة الإنسان وحقوقه، ولم تكن هذه شعارات نظرية أطلقها محمد صلى الله عليه وسلم ليجمع الناس حوله، إنما كانت واقعاً عملياً معاشا لمسته الجماهير بمشاعرها، وعاشت أحداثه بوجدانها، فقد علمهم النبي أن للإنسان حقوقاً وعليه ألا يقبل الظلم والضيم والهضم والمهانة، وعلم الحكام والأمراء ألا يكون لهم حقوق زائدة علي حقوق الجماهير، وليس لهم أن يهينوا كرامة الإنسان لأنه ليس بحاكم ولا أمير، وكان هذا ميلادً جديدًا للإنسان وحقوقه فما الإنسان إذا لم تكن له حقوق الإنسان وكرامة الإنسان!!

ومع أن هذا المستوى الراقي الفريد لم ترتق إليه البشرية إلا في أوقات قصيرة من عمرها، إلا أن هذه الدفقة الهائلة التي أطلقها الإسلام في سبيل تحرير بني الإنسان وحريته وكرامته، تركت وبلا شك أروع الأثر في حياة البشرية التي اندفعت خلف هذه القمة السامقة تحاول أن تجاريها، بإعلان حقوق الإنسان والسعي الحثيث في تطبيقها وتنزيلها على أرض الواقع.

وهذه نماذج ثلاث دللنا بها علي أن تعاليم النبي (صلى الله عليه وسلم) وتوجيهاته كانت أعظم أثراً وأطول عمراً، وأنها كانت أقوى من الانهيار وأنها استعصت على الانحصار وأنها امتدت طولاً حتى شملت أنحاء الأرض جميعاً، وامتدت عمقاً حتى بلغت النفوس والضمائر.

وأثرت في الكون كله من يوم أن أطلقها صاحبها وإلي اليوم، تأثيراً إيجابيا في حياة البشرية كلها، سواء كان الإسلام هو القائم علي تنفيذها، أم تنحى المسلمون وبقيت هي تفرض نفسها في عالم الواقع وفي حيز التطبيق وفي عالم الضمير، منتظرة تلك الدولة النموذج أن تعود والإسلام أن يحكم الأرض وأن يسود.

التعليقات

موضوعات ذات صلة