بقلم: فضيلة الشيخ الدكتور عبد الآخر حماد
في مثل هذه الأيام ومنذ أكثر من خمسين عاماً كنا نجتمع حول أجهزة “الراديو” لنستمع إلى البيانات العسكرية الصادرة من قيادة القوات المسلحة المصرية، والتي كان يقرؤها مذيع ذو صوت قوي حماسي عرفنا فيما بعد أن اسمه أحمد سعيد، وأنه مدير إذاعة صوت العرب. كانت تلك البيانات تعلن في كل مرة عن انتصارات عظيمة تحققها قواتنا، مع إسقاط مزيد من طائرات العدو حتى بلغ ما زعمت تلك البيانات أننا أسقطناه ثلاثمائة طائرة على ما أذكر. لكننا أفقنا في اليوم الثالث من أيام المعركة على وقع الحقيقة المرة، وهي أننا أصبنا بهزيمة فادحة، وأن طائراتنا هي التي تم تدميرها وهي رابضة على الأرض في مدارجها. والعجيب أن القيادة السياسية كانت تعلم بحقيقة الأمر منذ الساعات الأولى للمعركة، فقد ذكر الرئيس السادات في مذكراته أنه ذهب إلى مقر قيادة الجيش في الساعة الحادية عشرة من صباح يوم الخامس من يونيو 1967، أي بعد مضي أقل من ثلاث ساعات على بدء المعركة، حيث التقى بالرئيس عبد الناصر والمشير عبد الحكيم عامر، وعرف هناك أن سلاح الطيران قد ضرب بأكمله وهو على الأرض، وأن عبد الحكيم عامر قد استدعى السفير الروسي بعد بدء الحرب بساعة واحدة، ليطلب منه العمل على استصدار قرار أممي بوقف القتال. [البحث عن الذات: ص: 217-218].
ومع ذلك ظلت البيانات العسكرية تذاع عبر الإذاعة المصرية بالطريقة التي أشرنا إليها آنفاً، وظللنا نصدقها، إلى أن كان اليوم الثالث للمعركة حيث سمعت رجلاً من عوام أهل بلدتنا، يقول وهو جالس على “مصطبة” قريبة من بيتنا: إنه سمع من إذاعة لندن أن كل ما يقوله المصريون كذب، وأن الحقيقة هي أن إسرائيل قد احتلت غزة ومعظم سيناء. وتوجست من هذا الكلام فذهبت إلى أبي رحمة الله عليه -وقد كنت وقتها صبياً صغيراً- لأخبره في خوف وحزن بما سمعته. فأوصاني في صوت خفيض بألا أتكلم بمثل هذا الكلام، وقال ما معناه إنَّ من يكرر مثل هذا الكلام ربما يصيبه مكروه، ويُعد خائناً للبلاد فالسلامة في الصمت. وصمتنا إلى أن تكشف الأمر بعد ذلك، واضطر الرئيس عبد الناصر يوم التاسع من يونيو 1967م في خطاب التنحي الشهير إلى الاعتراف بالهزيمة أو النكسة كما سماها، أو بالأحرى كما سماها كاتب ذلك الخطاب (محمد حسنين هيكل).
بعد ذلك بأكثر من ثلاثين عاماً وتحديداً في 20 مارس عام 2003م يتكرر نفس المشهد، ولكن بأسلوب مختلف. ففي ذلك التاريخ بدأ الغزو الأمريكي للعراق. وبدلاً من التجمع حول أجهزة الراديو. صرنا نجلس أمام أجهزة التلفاز -وكنا قد دخلنا عصر الفضائيات منذ سنوات- لنشاهد المؤتمرات الصحفية التي كان يعقدها يومياً وزير الإعلام العراقي محمد سعيد الصحاف الذي ظل ولمدة ثلاثة أسابيع تقريباً يتفنن في سرد الانتصارات الوهمية التي حققتها قوات بلاده، وما أوقعته من خسائر فادحة بـ “العلوج” وهو الوصف الذي كان يحلو له أن يطلقه على الأمريكان. حتى إنه في يوم الثامن من أبريل 2003 ذكر أن الجنود الأمريكيين الموجودين في بغداد محاصرون داخل دباباتهم، وأن القوات العراقية تستعد لسحقهم، وأن بقية الجنود الأمريكيين ينتحرون بالآلاف على أسوار بغداد. لكن الذي حدث أن بغداد سقطت بيد الأمريكان بعد أقل من أربع وعشرين ساعةً من هذا التصريح، ثم كان الصحاف من أوائل من سلموا أنفسهم للأميركيين عقب سقوط بغداد، لكنه لم يُحاكم بل أطلق سراحه وذهب ليعيش في دولة الإمارات.
العجيب أن أحمد شوقي رحمه الله كان قد صاغ في مسرحيته (مصرع كليوباترا) مشهداً يشابه هذين الموقفين اللذين أشرنا إليهما، وذلك حين تحدث عن هزيمة كليوباترا في موقعة أكتيوم البحرية، والتي كانت بين جيوش أوكتافيوس من جهة، وجيوش أنطونيو وكليوباترا من جهة أخرى. وفيها رجعت كليوباترا إلى مصر تجر أذيال الخيبة والهزيمة، ومع ذلك فإن هناك مِن حاشيتها مَنْ أَبَى إلا أن يصور للناس أن ملكتهم قد انتصرت، وأن الأسطول المصري قد أوقع بقوات أوكتافيوس هزيمة نكراء، وخرج الناس فرحين بهذا النصر العظيم يهتفون بحياة كليوباترا وأنطونيوس قائلين بحسب ما تخيل شوقي:
يومنا في أكتيوما *** ذكره في الأرض سار
اسألوا أسطول روما *** هل أذقناه الدمار
أحرز الأسطول نصراً *** هز أعطاف الديار
شرفاً أسطول مصرا *** حزت غايات الفخار
صارت الإسكندرية *** هي في البحر المنار
ولها تاج البرية *** ولها عرش البحار
إنه نفس المنطق العجيب: أنظمة وعروش، تصر على قلب الحقائق، وخداع الشعوب، والكذب عليها ابتغاء مصلحة آنية عاجلة. ولا يدري أولئك المخادِعون أنهم وإن حققوا في المدى القريب تلك المصلحة التي يبتغونها، إلا أنهم في الحقيقة قد ارتكبوا خطيئة كبرى، وذلك لما يترتب على كذبهم وتضليلهم على المدى البعيد، من المفاسد الخلقية والاجتماعية والاقتصادية ما لا ينكره إلا مكابر أو جاهل.
ولعله من أجل ذلك جاءت السنة المطهرة بالوعيد الشديد للحاكم الكذاب كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولا ينظر إليهم، ولهم عذاب أليم: شيخٌ زانٍ، وملِكٌ كذاب، وعائلٌ مستكبر) [أخرجه مسلم (107) من حديث أبي هريرة].
وما ذلك إلا لأنَّ كذبَ الراعي ليس ككذِبِ أحدٍ من رعيته، فبكذب الراعي تفسد البلاد، ويضل العباد، وتحاكي الرعيةُ الراعي في الكذب والتضليل؛ إذ الناس -كما قيل- على دين ملوكهم .
د. عبد الآخر حماد
عضو رابطة علماء المسلمين
14/ 10/ 1441هـ – 6/ 6/ 2020م