بقلم: فضيلة الشيخ الدكتور عبد الآخر حماد الغنيمي
في واحدة من المضحكات المبكيات خرج علينا الدكتور أسامة الأزهري في أحد البرامج التلفزيونية بمقولةٍ عجيبة، مفادها أن الفوائد البنكية التي تعطيها البنوك التجارية لعملائها قد صارت حلالاً ابتداءً من عام 1971م، وأن مشايخ الأزهر الذين كانوا يفتون قبل تلك السنة بحُرمتها صاروا يفتون بإباحتها. أمَّا لماذا عام 1971 تحديداً؟ فلأنَّ ذلك العام هو العام الذي قرر فيه الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون فكَّ الارتباط بين الدولار والذهب، فقد كان كل دولار يصدر قبل ذلك التاريخ لابد أن يكون له غطاء ذهبي، أي رصيد يقابله من الذهب، وأما بعد عام 1971 فقد صار الدولار يصدر بغير غطاء ذهبي، وبناء عليه فالعملات الورقية فقدت -في زعمه -قيمتها الذهبية التي كان العلماء على أساسها يحرمون التعامل بالربا فيها.

وقبل الدخول في رد هذا الكلام أشير باختصار إلى حقيقة القرار الأمريكي الذي أشار إليه الأزهري فأقول: إنه قرار معروف عند دارسي الاقتصاد باسم ” صدمة نيكسون “، وهو متعلق بما كان يعرف قديماً ب “قاعدة الذهب “؛ حيث كانت الدول لا تُصْدِر من عملتها الورقية إلا بقدر ما لديها من رصيد الذهب. ولكن لم تستطع غالبية الدول الاستمرار في تلك القاعدة بسبب الحروب وغيرها، فكان أن وقَّعت الولايات المتحدة عام 1944م مع 43 دولة أخرى ما سمي باتفاقية ” بريتون وودز”، التي نصت على أن يكون الدولار الأمريكي هو العملة الوحيدة على مستوى العالم المُغطاة بالذهب. وتلتزم الولايات المتحدة الأمريكية بتحويل ما يقدم اليها من دولارات الى ذهب عند معدل صرف 35 دولارا للأوقية من الذهب لكل من يطلب ذلك من دول العالم. واستمر العمل بتلك الاتفاقية حتى 15 أغسطس 1971م، عندما أعلن نيكسون وقف قابلية تبديل الدولار إلى ذهب، وبحلول عام 1973 تم تغيير نظام “بريتون وودز” بحكم الأمر الواقع إلى نظام تعويم العملات الورقية الذي أنهى تماماً فكرة الرصيد الذهبي للعملات. هذا بيان سريع للمقصود من قرار نيكسون المشار إليه. لكن لا صحة لما زعمه أسامة الأزهري من تأثير ذلك القرار على الحكم الشرعي لفوائد البنوك، وإنما هو قول مرسَل لا يسنده دليل شرعي، ولا علاقة له بالتحقيق العلمي.. وبيان ذلك على النحو التالي:
1-ما ذكره الأزهري من أنَّ عام 1971م كان عاماً فاصلاً في فتاوى فوائد البنوك ، وأن الفتاوى بعده صارت غير الفتاوى التي كانت قبله ،هو قول باطل ،بل هو كذب صريح. وذلك لأن الفتاوى المعتمدة في الأزهر ومجمع البحوث الإسلامية التابع له ظلت ثابتة على تحريم تلك الفوائد حتى عام 1996 (عام وفاة شيخ الأزهر الشيخ جاد الحق رحمه الله). وقد صدر عن مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر كتاب يتضمن الأبحاث التي قدمت لمؤتمره السابع المنعقد في سبتمبر 1972م، وفيه بحث موسع للشيخ عبد الرحمن تاج رحمه الله بعنوان: “حكم الربا في الشريعة الإسلامية”، يتضمن الرد الواضح على من أجاز تعاملات البنوك، واعتبرها من المضاربة المشروعة. وكذلك ظلت دار الإفتاء المصرية تفتي بالتحريم إلى شهر سبتمبر 1989م ، حيث أفتى الشيخ سيد طنطاوي المفتي آنذاك بإباحة تلك الفوائد ،مع أنه كان -وإلى ما قبل ذلك بشهور قليلة -يفتي بالتحريم كمن سبقه من المفتين .ويومها ردَّ عليه أكثر من مائة عالم من علماء الأزهر وغيرهم مبينين خطأه في تلك الفتوى .وظل كثير من أفاضل العلماء يفتون بالفتوى الأصلية ،منهم الشيخ عطية صقر رحمه الله الرئيس السابق للجنة الفتوى بالأزهر المتوفى عام 2006م ، ومنهم شيخ المالكية الدكتور أحمد طه ريان رحمه الله المتوفى عام 2021م ، وغيرهما.
كما أنه لا يجوز لنا أن نغفل عن قرارات المجامع الفقهية الأخرى التي نصت على حرمة تلك الفوائد. فإن تلك المجامع ظلت بعد عام 1971م بكثير تفتي بحرمة فوائد البنوك، فقد أصدر مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة التعاون الإسلامي في دور انعقاده الثاني في ربيع الآخر سنة 1406هـ (ديسمبر 1985) قراراً بشأن التعامل مع المصارف بالفوائد يتضمن أن ذلك من الربا المحرم. وكذا ناقش مجلس المجمع الفقهي برابطة العالم الإسلامي في دورته التاسعة المنعقدة في رجب 1406هـ (مارس 1986م)، وانتهى إلى حرمة تلك الفوائد. وظل العلماء المعتبرون في العالم الإسلامي كله يفتون باعتبار تلك الفوائد ربا محرم.
2-قرار نيكسون بفض الارتباط بين الدولار والذهب لا علاقة له بإباحة فوائد البنوك أو حرمتها ، وذلك لأن قرارات المجامع الفقهية – وأولها قرار مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر عام 1965م- التي نصت على حرمة تلك الفوائد واعتبارها ربا ،لم تعلِّل ذلك بكون النقود الحالية مغطاةً بغطاء من ذهب أو غيرَ مغطاةٍ ، وإنما كان ذلك على أساس أن النقود الورقية قد تحققت فيها نفس العلة التي من أجلها جرى الربا في الذهب والفضة ، ألا وهي علة “الثَّمَنية”. فسواء كانت النقود الورقية مغطاةً بالذهب أو بالفضة، أو غير مغطاة، فهي في نفسها أثمان. ويظهر ذلك من كونها تؤدي وظائف النقود المقررة في علم الاقتصاد، (وهي كونها وسيلةً للتبادل، وكونها معياراً للقيم، وكونها مخزناً للقيمة). ومن أجل ذلك نجد تلك النقود تحظى بالقبول العام الذي يجعل الناس يرغبون في اقتنائها لكونهم يمكنهم في أي لحظة تحويلها إلى سلع وخدمات يرغبون في الحصول عليها. وهذا يكفي في إلحاق تلك النقود بالذهب والفضة في جريان أحكام الربا عليها. ولذا أفتى الإمام مالك رحمه الله بأنَّ أيَّ شيءٍ يتعارف الناس فيما بينهم على أنه نقود يشترون به السلع فإنه يأخذ حكم الذهب والفضة في جريان أحكام الربا فيه، وذلك حيث أفتى كما في المدونة (3/ 5) بأنه لا يجوز بيع الدراهم بالفلوس إلا يداً بيد -والفلوس هي عملات ضئيلة القيمة مضروبة من غير الذهب والفضة -، ثم قال: (ولو أن الناس أجازوا بينهم الجلود حتى تكون لها سِكَّةٌ، وعينٌ، لكرهتها أن تباع بالذهب والورِقِ نظِرَةً). يقصد أنه إذا صارت الجلود مقبولة عند الناس كنقود، بحيث تُسك منها العملة، فإنها تصير نقوداً صالحة للتعامل بها مثل الذهب والفضة، وتأخذ حكم الذهب والفضة في أنه لا يجوز بيعها بالذهب أو الفضة إلا يداً بيد، أي بدون تأخير أحد البدلين عن الآخر، وهذا معنى قوله: “نظِرةً”. وهذا الذي افترضه إمام دار الهجرة رحمه الله هو الواقع الآن، كلُّ ما في الأمر أنه افترض نقوداً من جلود، وهي الآن نقود من وَرَق، فسبحان مَن ألهمه ذلك المثال.
3-وقد جاء النص على تلك العلة صريحاً في قرارات المجامع الفقهية الإسلامية .ففي قرار المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي جاء ما يلي: ( إنه بناءً على أن الأصل في النقد هو الذهب والفضة ،وبناءً على أن علة جريان الربا فيهما هي مطلق الثمنية في أصح الأقوال عند فقهاء الشريعة ،وبما أن الثمنية لا تقتصر عند الفقهاء على الذهب والفضة، وإن كان معدنهما هو الأصل، وبما أن العملة الورقية قد أصبحت ثمناً ،وقامت مقام الذهب والفضة في التعامل بها، وبها تُقَوَّم الأشياء في هذا العصر لاختفاء التعامل بالذهب والفضة ،وتطمئن النفوس بتمولها وادخارها ،ويحصل الوفاء والإبراء العام بها، رغم أن قيمتها ليست في ذاتها وإنما في أمر خارج عنها ،وهو حصول الثقة بها كوسيط في التداول والتبادل ،وذلك هو سر مناطها بالثمنية. وحيث إن التحقيق في علة جريان الربا في الذهب والفضة هو مطلق الثمنية، وهي متحققة في العملة الورقية، لذلك كله فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي يقرر أن العملة الورقية نقدٌ قائمٌ بذاته له حكم النقدين من الذهب والفضة، فتجب الزكاة فيها، ويجري الربا عليها بنوعيه فضلاً ونسيئاً، كما يجري ذلك في النقدين من الذهب والفضة تماماً باعتبار الثمنية في العملة الورقية قياساً عليهما، وبذلك تأخذ العملة الورقية أحكام النقود في كل الالتزامات التي تفرضها الشريعة فيها). وجاء مثل ذلك في قرار مجمع الفقه المنبثق عن منظمة التعاون الإسلامي حيث قرر أنه: (بخصوص أحكام العملات الورقية: أنها نقود اعتبارية فيها صفة الثمنية كاملة، ولها الأحكام الشرعية المقررة للذهب والفضة من حيث أحكام الربا والزكاة، والسلم وسائر أحكامهما).
4-ثم إننا نقول لأسامة الأزهري ومَن على شاكلته: ما دمتم تقولون إن هذه النقود لا يجري فيها الربا ، لأنها غير مغطاة برصيد من الذهب أو الفضة ، فإنا نسألكم: هل تجب الزكاة فيها أم لا ؟. وذلك لأن العلة في وجوب الزكاة فيها هي نفس العلة في جريان أحكام الربا، وهي الثَّمَنية، فإذا كنتم لا تعتبرون تلك النقود أثماناً، لكونها غير مغطاة، فإنه ينبني على ذلك أنه لا زكاة فيها. وذلك لأن أهل العلم حين أوجبوا الزكاة في هذه النقود الورقية، إنما كان ذلك لكونها صارت أثماناً بديلة عن الذهب والفضة في التعامل. ولذلك وجدناهم يختلفون في مسألة النصاب الذي تجب فيه الزكاة بالنسبة لتلك النقود الورقية، هل يكون على حساب نصاب الذهب؟ أم نصاب الفضة؟. فهذا يعني أن الزكاة فيها مبنية على أنها أثمان تقوم مقام الذهب والفضة. وهي نفس العلة التي من أجلها جرى الربا فيها، فإن قلتم: إنه لا ربا فيها، فقولوا أيضاً إنه لا زكاة فيها، وإنه لو ملك المسلم ملياراتٍ من الجنيهات أو الدولارات، فإنه لا تجب عليه زكاة في شيء منها (إلا إذا كانت عروضاً للتجارة)، فهل تقولون بهذا؟
هدانا الله وإياكم إلى صراطه المستقيم.
عبد الآخر حماد
29/ 10/ 1443هـ- 30/ 5/ 2022م