القائمة إغلاق

سلسلة التعريف بالدكتور عمر عبد الرحمن – من 15 إلى 21 – بقلم: د. عبد الله عمر

بقلم: د. عبد الله عمر عبد الرحمن

الحلقة (15):

في سلسلة التعريف بالدكتور/ عمر عبد الرحمن -رحمه الله-:

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.. أما بعد،

سبب مؤامرة وزير الداخلية/ زكي بدر لاغتيال الدكتور/ عمر عبد الرحمن -رحمه الله-:

لقد كان الدكتور/ عمر عبد الرحمن في عام 1989م يوضع تحت حراسة مشددة في منزله، فقد كان عند المنزل ثكنة عسكرية على مدار الـ 24 ساعة، تتكون من عربتين كبيرتين من الأمن المركزي، وسيارتين للشرطة بهما ضابطان، يتمّ تغيير ورديتهما كل 8 ساعات، فضلا عن عشرات المخبريين المعلنين والسريين، كل ذلك لضمان عدم تنقل الدكتور/ عمر عبد الرحمن من منزله إلا تحت هذه الحراسة المشددة، وذلك في أضيق الحدود الممكنة، وتحديدا يكون بالذهاب لمسجده المسمى بمسجد “الشهداء” فقط بمحافظة الفيوم دون غيره، ولكنَّ الدكتور/ عمر عبد الرحمن لم يؤثر السلامة، ولم يرضى بالسكوت والخنوع والخضوع لأوامرهم، وأبى إلا أن يواصل دعوة ربه عالية خفاقة، في كل مكان، وانطلاقا من هذه العقيدة.. فحينما ذهب الدكتور/ عمر عبد الرحمن مرة لمسجده بالفيوم  يعطي درسه الأسبوعي هناك، وبعد أن فرغ من الدرس، كان كالعادة يلتف حوله الناس ومحبيه ويظلوا معه حتى يوصلوه للبيت، وكانت عادة الشرطة أن تراقب الشيخ/ عمر عن بُعد، ويذهبون أينما ذهب الشيخ، وكان من أهم ما يميز الدكتور/ عمر عبد الرحمن عن غيره من إخوانه لباسه الأزهري، وهو ما يسمى بـ “العمة، والكَـكُولا”، ومن ثم فحراسة الشيخ من الشرطة أهم شيء يحرصون عليه -في خضم هذا الزحام الشديد من الناس الذين يلازمون الشيخ حتى وصوله لمنزله -أن يروا عن بُعد عمة الشيخ الأزهرية، فحيثما وجدوا العمة تحركوا، وحيثما لا يجدوها توقفوا، وبناء على ذلك حاول الدكتور/ عمر عبد الرحمن مخادعتهم بأن قام أحد الإخوة بارتداء ملابسه الأزهرية، ووضع الدقيق على لحيته حتي تصير لحيته بيضاء، واختار الإخوة شخصا قريبا من هيئة الشيخ في جسمه ومشيته،  والتفَّ الناس حوله، وخرج الجميع من المسجد كي يوصلوا هذا الشيخ “الوهمي”، وكالعادة حينما رأوا ضباط الشرطة والحراسة المخولة بمتابعة الشيخ أن العمة الأزهرية قد خرجت من المسجد، فسارعوا بالتحرك معها، حتى وصل الشيخ/ عمر “الوهمي” للبيت، وأدخلناه داخل البيت، وقام بخلع ملابسه الأزهرية، وتنظيف لحيته من الدقيق، وخرج من المنزل بثياب عادية باعتباره أحد الإخوة الذين أوصلوا الشيخ للمنزل، ثم أخذ الزي الأزهري في حقيبة وانصرف كي يعطيه للشيخ عمر (الحقيقي)، وظلت الحراسة المشددة تحت المنزل، باعتبار أن الدكتور/ عمر عبد الرحمن في المنزل، ولكنّ الشيخ في حقيقة الأمر لم يخرج من المسجد، وظل فيه هو وبعض الإخوة القليلين جدا حتى تأكدوا تمامًا من انصراف كل الحراسة، عند ذلك: أحضروا على الفور سيارة للشيخ، وسافر إلى محافظة أسيوط لإعطاء محاضرة هناك بدون علم رجال الشرطة، ولكن فوجئ وزير الداخلية/ زكي بدر بأن الدكتور/ عمر عبد الرحمن يعطي محاضرة بأسيوط، عندما أخبرته الجهات الأمنية هناك، فاتصل فورا على أثرها وزير الداخلية بمدير أمن الفيوم، ليسأله: أين الشيخ/ عمر عبد الرحمن؟ فقال له: مدير الأمن: “في المنزل معاليك تحت الحراسة..”، هنالك.. قام زكي بدر بسبه بأفظع الشتائم والسباب، وأمر بإقالة مدير الأمن، وكان هذا هو السبب الرئيسي في السعي للتخلص من الدكتور/ عمر عبد الرحمن في أقرب فرصة ممكنة، فما هي الخطة التي وضعت للتخلص من الدكتور/ عمر عبد الرحمن ومحاولة تصفيته جسديا؟ هذا ما سنتعرف عليه في الحلقة القادمة بمشيئة الله تعالى.

الحلقة (16):

خطة وزير الداخلية/ زكي بدر للتخلص من الدكتور/ عمر عبد الرحمن -رحمه الله-:

لقد حاول وزير الداخلية زكي بدر آنذاك -عليه من الله ما يستحق- أن يتخلص من الدكتور/ عمر عبد الرحمن بأية طريقة ممكنة، وتصفيته جسديا، وكان هذا في شهر رمضان من عام 1989 م، وكان يتابع وزير الداخلية هذا الأمر بنفسه لحظة بلحظة، وقد خطط أن يخرج الدكتور/ عمر عبد الرحمن لأداء خطبة الجمعة في مسجد الشهداء الذي هو المسجد المعتاد فيه خطبة الشيخ للجمعة بمحافظة الفيوم، وذلك بعد أن حدد له -كما سبق وأن أشرت- الإقامة الجبرية في محافظة الفيوم، وعدم السماح له بالخروج خارج المحافظة.

 وقد أتى إلينا -كما سبق وأن أشرت في الحلقة قبل الماضية- في المنزل قبل خطبة الجمعة بقرابة الساعة مأمور قسم شرطة الفيوم، ونائبه يطلبان من الدكتور/ عمر عبد الرحمن أن يبدأ صفحة جديدة مع الجهات الأمنية، ولاسيما ونحن في شهر رمضان، وتعتبر هذه هي أول خطبة جمعة في شهر رمضان، مقابل أن الأيام القادمة -على حد قولهما- ستشهد انفراجة كبيرة للإفراج عن إخوة الجماعة الإسلامية، والمعتقلين السياسيين، وعودة المساجد إليكم للدعوة إلى الله فيها من جديد، وقالوا له المنبر معك، لو لم تحدث هذه الانفراجة كما وعدناك، وعودة المساجد إليكم، فعليك أن تهاجمنا في الخطبة التي بعدها بأشرس الهجوم وأشنعه.

وقد حاول الشيخ/ عمر عبد الرحمن، أن يلتزم بالاتفاق، وألا يهاجمهم كعادته في خطبة الجمعة، آملا في أن يصدقوا في وعدهم، من باب قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأبي هريرة -رضي الله عنه- حينما قابله الشيطان عدة مرات وهو يكذب عليه، ثم صدقه آخر مرة، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “أما إنه قد صدقك وهو كذوب.”

وإذا بوعدهم هذا كان وعدا كاذبا، ليس كوعد الشيطان مع أبي هريرة وكأنهم أرادوا من ذلك أن تكون خطبة الجمعة ليس فيها الحماس المنشود الذي كان يضعه الشيخ في قلوب الإخوة، حتى إذا ما قابلوا صخرة -بعد سماعهم لخطبته- أوقعوها بفضل الله تعالى ثم بفضل حماسة الشيخ في خطبه للجمعة، فهم خشوا عندما يحدث الصدام الذي كان مدبر بليل أن يضع الشيخ في قلوب الشباب الحماس ويوقظ في نفوسهم حب التضحية والفداء، حيث أن الشيخ كان  يقول كثيرا في خطبه: “لا تخافوهم وخافوا الله وحده، أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين، لا تتزلزلوا، ولا تتزعزعوا، وقولوا الحق ولو كان مرا.”

كل هذا الكلام الحماسي، حرموا الشيخ عمر عبد الرحمن أن يقوله في خطبته، هذا الكلام الحماسي والذي يثبّت الشباب والمستمعين إذا ما حدث لهم مواجهة من قبل النظام.

وبالفعل فإن الشيخ/ عمر قد خطب الخطبة عن فضائل رمضان وواجب المسلم اتجاه هذا الشهر الكريم، حتى أن الكثير من الإخوة تعجبوا أيما تعجب من خطبة الشيخ بدون أن يكون فيها كلامه الحماسي المعهود والمنشود.

وإذا بأجهزة الأمن بعد الخطبة مباشرة تبدأ بإطلاق الرصاص الحي على المسجد، من مسافات قريبة، وكنت ساعتها أقوم بعد الجمعة ببيع أشرطة الوالد -رحمه الله- بثمن زهيد وأحمل كرتونة كبيرة بداخلها عدة كراتين صغيرة وبداخلها أشرطة الشيخ، وفيها القرآن الكريم كاملا في (30) شريط، وأحاديث البخاري في قرابة (27)شريط، وأحاديث مسلم في قرابة (11)شريط، فضلا عن بيع شريط الجمعة التي هي قبل الأخيرة -وكان عليها الإقبال الشديد- وكان الشيخ، يلخص لهم خطبة الجمعة التي هي في الغالب مقدارها ساعة ونصف، والدرس الذي بعد الخطبة والذي في الغالب يكون نصف ساعة، ثم كان الشيخ يحاول تلخيص الخطبة إلى شريط مقداره ساعة.

الشاهد في الأمر أنني فوجئت بطلقات نارية تخترق الكرتونة، ثم بعدها قنابل مسيلة للدموع، فوضعت مسرعا الكرتونة في المسجد، وقد أصيب بعض الإخوة من جراء هذه الطلقات النارية بجروح شديدة.

 وفي خضم هذه الأحداث الهائلة، والأجواء المتوترة، والأوضاع الساخنة، إذا بالشيخ يطلب من الإخوة طلبا عجيبا ما كنا نتوقعه أن يطلبه منهم في هذا الوقت العصيب.

والسؤال: ما هو هذا الطلب العجيب الذي طلبه الشيخ من الإخوة!؟ وكيف آلت حالة الشيخ في خضم هذه الأجواء المشتعلة، والأوضاع الملتهبة؟

هذا ما سنتعرف عليه في الحلقة القادمة -بمشيئة الله تعالى-.

الحلقة (17):

مناشدة الدكتور/ عمر عبد الرحمن -رحمه الله- لإخوانه بالانصراف لبيوتهم وعدم المواجهة:-

بالفعل فإن الدكتور/ عمر عبد الرحمن، على الرغم من أنه كان شعلة نشاط وطاقة وحيوية، فضلا عن كلماته المدوية، وثورته ضد الأنظمة المستبدة، لكنه كان صمام أمان لعدم الصدام مع الأجهزة الأمنية، ويوم ما أبعدوا الرأس عن الجسد ببعده عن الشباب -وذلك ما بين اعتقالاته المتعددة، وما بين الإقامة الجبرية التامة في منزله لمدة عام، ثم خروجه خارج البلاد، وبعد ذلك سجنه في أمريكا، والحكم عليه بالسجن مدى الحياة حتى رجع إلى مصر بعد أن مات في سجون الأمريكان، أحسبه شهيدا -رحمه الله- والله حسيبه، ولا أزكي على الله أحدا- وكان لذلك الأثر الخطير، وتداعيات جسيمة، وذلك بحمل الشباب بعدها للسلاح، والتعامل مع الأجهزة الأمنية في صدامات شديدة ومواجهات عنيفة، في السنوات التي تلت سفره خارج البلاد، والتي أسفرت عن مقتل العديد من الطرفين.

فها هو الدكتور/ عمر عبد الرحمن يناشد إخوانه للحفاظ عليهم الذهاب إلى بيوتهم، وعدم الصدام مع الأجهزة الأمنية، ويؤثر إخوانه -كعادته- على نفسه وحياته، وإذا بالإخوة يستجيبوا لكلام الشيخ، وينصرفوا من أماكن متفرقة إلى بيوتهم، وطُلب مني الانصراف للبيت أنا وإخوتي، وكنت ساعتها عمري 13 عاما، وإخوتي الذين كانوا معي كانوا أصغر مني، حيث كان من يكبرني اثنين، هما: محمد -حفظه الله- الملقب بـ “أسد الله، وأحمد -رحمه الله- الملقب بـ “سيف الله”، وكانا ساعتها في الجهاد في أفغانستان.

وظل الشيخ ومعه بعض الإخوة القليلين جدا في المسجد لم يتحركوا منه.

ولولا حكمة الله التي هي فوق كل شيء، ثم بصيرة الشيخ عمر  في عدم الخروج من المسجد، ودعوته للناس بالانصراف إلى بيوتهم -والتي كانت لها عامل قوي في عدم تعرض الشيخ لأي أذى -بفضل الله تعالى- وكذا عامة الناس- لحدث ما لا يحمد عقباه من القتلى والجرحى بين الطرفين.

 ولقد ظلت القنابل المسيلة للدموع تقذف على المسجد بشكل مكثف، وتتقدم الشرطة خطوة تلو خطوة نحو الشيخ والمسجد، والإخوة قد أغلقوا باب المسجد من الداخل، وكان الحوار بين الشيخ والإخوة القليلين الذين بقوا معه: “هل نفتح المسجد أمام الشرطة أم نظل متمسكين بإغلاقه؟”

لكن رائحة القنابل المسيلة للدموع قد ملئت أركان الشوارع المحيطة بالمسجد، فضلا عن المسجد نفسه، ولكن في النهاية قرر الشيخ والإخوة أن يتوكلوا على الله ويفتحوا المسجد.

والسؤال: ما الذي فعلته الشرطة مع الشيخ عند اقتحامهم للمسجد ومواجهته شخصيا؟ وهل تم محاولة إطلاق النار عليه مباشرة وهو في المسجد؟

هذا ما سنتعرف عليه في الحلقة القادمة -بمشيئة الله تعالى-.

الحلقة (18):

تدخل مدير أمن الفيوم الجديد لضمان سلامة الدكتور/ عمر عبد الرحمن -رحمه الله-:

قال تعالى: (ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى).

الحقيقة ما نقع فيه من كارثة كمسلمين بصفة عامة، وفي عالمنا المعاصر بصفة خاصة أنه بمجرد اختلافك مع أحد أو جهة معينة، يتحول هذا الأمر من الاختلاف إلى خلاف، وبعدها معاداة، والأخطر من ذلك أنك لا تنصفه في أي أمر كان حتى ولو كان هذا الأمر على أفضل ما يكون.

ولذا جاء القرآن يحذرنا من هذا الفعل المشين بأننا كأهل إسلام يجب علينا أن ننظر إلى أي قضية بإيجابياتها وسلبياتها.

ومن ثم فإحقاقا للحق إذا كنا قد ذكرنا الكثير في السابق من محن الشيخ، وكثرة اعتقالاته، ومحاكماته لعدة مرات، والتضييق عليه في الدعوة إلى الله، لكن لا يمنع هذا أن نذكر أن هناك مواقف نبيلة قد حدثت من الجهات الأمنية في التعامل مع الشيخ، وإعطائه مكانته كعالم أزهري، فالتعميم في المواقف خطأ فادح، وفعل مشين.    

فعندما فتح الإخوة باب المسجد، وجدوا أن الشرطة تحيط بالمسجد من كل مكان، وفي هذا التوقيت قد تم عزل مدير الأمن، بسبب سفر الشيخ في وقت سابق خارج محافظة الفيوم لإلقاء ندوة في أسيوط بدون علمهم، وتعيين مديرا جديدا للأمن يسمى “عبد الرزاق” خلفا لمدير الأمن المقال .

ولقد حضر مدير الأمن الجديد بنفسه هذا اليوم، وأعطى تعليماته بعدم إطلاق النار نهائيا على الشيخ وإخوانه، وقد طلب مدير الأمن من الشيخ عمر وإخوانه بالاستجابة السريعة للتقدم نحو الباب، وبالفعل يستجيب الشيخ لهذا النداء العاقل، ومن سرعة التحرك ووجود الجو الملغم بالقنابل المسيلة للدموع، فإذا بالشيخ يقع على وجهه وهو يتخطى عتبة باب المسجد حيث كانت مرتفعة بعض الشيء، وإذا بمدير الأمن يسارع في سحب الشيخ بسرعة إلى عربة الشرطة خوفا من تعرضه لأي أذى أو مكروه، وهذا موقف يجب أن نشكره عليه.

 وقد ظل الشيخ يعاني لفترة طويلة من تعب جراء هذه الوقعة التي وقعها على الأرض.

ولقد وضعوا باقي الأخوة الذين كانوا معه في عربة خاصة، واقتادوهم لسجن خاص بالأمن المركزي، في منطقة تسمى ب “العَزَب” بمحافظة الفيوم.

وبعد فترة من الزمن كانت الأسرة قد علمت بمكانه، وذهبتُ أنا ووالدتي -حفظها الله- وأحد المحامين بعد قرابة الأسبوعين لزيارته في هذا المكان، وبعد الإلحاح المتكرر منّا للمسئولين هناك للدخول لزيارة الشيخ، وافقوا فقط على دخولي عنده داخل زنزانته، وهناك كانت الصدمة الشديدة التي حدثت معي.

والسؤال: ما هذه الصدمة التي حدثت لي؟ وكيف كانت حالة الشيخ في محبسه؟

هذا ما سنتعرف عليه في الحلقة القادمة -بمشيئة الله تعالى-.

الحلقة (19):

صدمتي عندما رأيت الشيخ/ عمر عبد الرحمن في محبسه:

لقد سمح لي الأمن بالدخول على والدي -رحمه الله- في زنزانته التي كانت في سجن “العَزَب” بمحافظة الفيوم، ويعتبر هذا السجن خاص بالشرطة والأمن المركزي، وكان عمري آنذاك قرابة (13) عاما.

وعندما دخلت على الشيخ، وجدته -رحمه الله- معصب رأسه بمنديل قماش، لأن عادة الشيخ دائما أن يلبس غطاء على رأسه، وحينما تم القبض عليه، أخذ من المسجد مباشرة، ولم يكن معه ما يعرف بـ “الطاقية”، وإنما كان يلبس في خطبة الجمعة لباس الأزهر المشهور باسم “العِمَّة” -طربوش أحمر ملفوف عليه شال أبيض بشكل معين-، و “الكَـكُولا” -لباس مشابه لما يعرف بـ “البالطو.”

الشاهد.. أنني وجدته جالس خلف باب الزنزانة مباشرة حتى يجد أكبر قدر ممكن من التهوية، نظرا لوجود “حساسية على صدره” تحتاج إلى هواء نقي، وكان ممسك بمنديل آخر يهش به الناموس، والذي كان شكله غريبا وعجيبا،  يبدو أنه نما وترعرع من وجوده بين قوات الأمن المركزي.

فوجدت الشيخ وقد امتلئ جميع جسده -الذي كان مكشوف أمامي- من وجهه، ويديه حتى مرفقيه، وقدميه حتى ساقيه كلها تكاد تكون متفحمة باللون الأحمر الشديد، فحدث لي انهيار عصبي، وبكاء هيستيري أن أجد والدي على هذه الصورة، وهو جالس على الأرض يهش في هذا الناموس المزعج، ومعصب رأسه بهذا الشكل، وفي هذه الزنزانة الموحشة في عدم نظافتها، وسوء تهويتها، وكثرة حشراتها، وهو العالم الأزهري -نابغة عصره- والذي لو أراد الدنيا لحبت تحت قدميه، فكان للدكتور/ عمر عبد الرحمن كلمة مشهورة يقول فيها: “إن المناصب تحبو تحت أقدامنا، وندوسها بنعالنا.”

فجلست تحت قدمَي والدي -رحمه الله- أقبلها، وأقبل يديه، وهو مبتسم يسعى لتهدئتي، ولما وجدت الحراسة حالتي بهذه الصدمة الشديدة، طلبوا مني المغادرة بعد قرابة الخمس دقائق، وعندما غادرت من عند والدي ذهبت إلى والدتي -حفظها الله- أجهش بالبكاء من شدة ما رأيت، وظلت هذه الحالة لا تفارقني لفترة من الزمن، وكلما تذكرتها تأثرت بها تأثرا شديدا.

وظل والدي -رحمه الله- قرابة الشهرين أو الثلاث في محبسه، وفي هذه الفترة تم القبض على عدد من الإخوة، حتى يتحول هذا الاعتقال إلى قضية.

وبالفعل في أثناء فترة اعتقال الشيخ، أخذوا عددا كبيرا ممن كانوا بجوار المسجد، فضلا عن الاعتقالات الليلية حتى يجمعوا أكبر عدد ممكن لتلفيق قضية لهم.

وكانت هناك طرفة مضحكة في هذه القضية.

والسؤال: ما هي طبيعة هذه القضية؟ وما هي الطرفة المضحكة التي فيها؟

هذا ما سنتعرف عليه في الحلقة القادمة -بمشيئة الله تعالى-.

الحلقة (20):

الدكتور/ عمر عبد الرحمن والدعوة للانقلاب على الحاكم:

بعد أن قامت الجهات الأمنية بالقبض على الدكتور/ عمر عبد الرحمن بعد خطبته للجمعة في مسجد الشهداء بمحافظة الفيوم في أول يوم من شهر رمضان في عام 1989 م، قامت في يومها بالقبض على العشرات من المسلمين سواء من  كانوا مع الشيخ في المسجد أو خارجه أو من البيوت.

وبدلا من أن يكرم الشيخ وإخوانه بعد أدائه لخطبة الجمعة -ولاسيما في شهر رمضان- وهو العالم الأزهري، والأستاذ الجامعي؛ إذا بهم يعتقلونه، ويضعونه في قضية ملفقة هو وإخوانه، تعرف ب بقضية “الشغب أو التجمهر”، وكان فحوى الاتهام: هو خروج الدكتور/ عمر عبد الرحمن بعد أدائه لخطبة الجمعة في مسيرة مناهضة لنظام الحكم، وتدعو للتظاهر والانقلاب على الحاكم، وفي الحقيقة الشيخ لم يخرج ابتداء من عتبة المسجد إلا وهو مقبوض عليه.

وحينما عرض الشيخ وإخوانه على القاضي المستشار/ رئيس محكمة أمن الدولة العليا طوارئ، وبعد اطلاعه على القضية، أمر بإخلاء سبيل الشيخ وجميع المتهمين على ذمة القضية، وأن يكون حضورهم يوم جلسة المحاكمة، وفي المقابل كان الدكتور/ عمر عبد الرحمن حريص كل الحرص هو وإخوانه على الحضور وقت جلسة المحاكمة من باب قول الله تعالى: (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان).

وهنا يجب أن يشار في هذا المقام إلى أن التعميم في الأحكام على جهات بعينها ليس مشروعا -كما سبق وأن أشرت- فكما وجهنا الشكر والتقدير لمدير أمن الفيوم “عبدالرزاق”، أيضا يجب أن نقدم التقدير والعرفان لهذا القاضي المستشار الذي قام بإخلاء سبيل الشيخ وجميع الإخوة المتهمين في القضية.

وظلت محاكمة الشيخ قرابة التسع شهور ثم صدر الحكم ب “البراءة” للدكتور/ عمر، وجميع الإخوة.

العجيب والطريف المضحك في القضية: أنه كان يوجد رجل بائع لأحد الموالح المعروفة باسم “الليمون”، وأذكر -والله أعلم- أنه من قرية تسمى “مطرطارس” بمحافظة الفيوم، وهذه القرية تبعد عن الفيوم قرابة 10 كيلو، وكان هذا الرجل أخبره أحد الناس أنه يوجد رجل في محافظة الفيوم يخطب خطبة الجمعة، ويحضر عنده المئات من المصلين، وتستطيع في هذا الجمع أن تبيع كمية كبيرة من “الليمون”، وكان هذا الرجل حليق، وله يدٌ مشلولة -عافاه الله- ويرتدي جلباب وطاقية لها زي خاص يلبسها أصحاب الريف، فهو في الحقيقة لا يعرف شيئا عن الشيخ/ عمر عبد الرحمن من قريب أو بعيد، ولا متابع جيد لخطبه، فكل ما يعرفه عنه أن هذا الشيخ أكثر خطيب في الفيوم يحضر عنده مصلين، ومن ثم يستطيع من خلال هذا الجمع أن يبيع أكبر كمية ممكنة من “الليمون”؛ ويشاء القدر أن يجد نفسه في هذه الأحداث الملتهبة، وأنه من بين المقبوض عليهم، فيستصرخ ويستغيث لرجال الشرطة أنني لا أعرف عنهم شيئا، وأنني بائع ليمون، ويدي مشلولة، ولكن لا حياة لمن تنادي، ويجد بائع الليمون نفسه في قضية مع الشيخ/ عمر عبد الرحمن وإخوانه، ويقلب وجهه يمينا ويسارا فيجد نفسه في مكان ليس مكانه، ومع إخوة كثيفي اللحية، لهم سمات معينة، ويقودهم الشيخ/ عمر عبد الرحمن، وهو الحليق الوحيد بينهم، فإذا بالشيخ والإخوة يهونون عليه أمره، ويحثونه على المحافظة على الصلاة في أوقاتها، وقراءة القرآن، وإطلاق لحيته، وهو حزين على مفارقته للليمون، وأن هذا الليمون هو الذي جنى له كل هذا المرار.

وظل مع الإخوة عدة شهور حتى المحاكمة، ثم إطلاق سراحه، ثم البراءة.

والسؤال: ما الذي حدث بعد محاكمة الشيخ/ عمر عبد الرحمن وبرائته من هذه القضية؟

الحلقة (21):

قرار سيادي بالإقامة الجبرية التامة في المنزل للدكتور/ عمر عبد الرحمن -رحمه الله-:

لقد ظل الدكتور/ عمر عبد الرحمن في إقامة جبرية تامة في منزله قرابة التسع شهور حتى شهر رمضان عام 1990م، وذلك بعد أن تم القبض عليه من مسجد الشهداء بالفيوم في شهر رمضان عام 1989م، وحبسه قرابة 3 شهور حتى تم تحويل هذا الاعتقال إلى قضية، والتي أمر القاضي المستشار بإخلاء سبيل الدكتور/ عمر وجميع الإخوة على ذمة القضية، فحينها بدأ التضييق يزداد على الشيخ يوما بعد يوم.

ففي أول الأمر كان التضييق بكثرة الاعتقالات والتعذيب، ثم انتقل التضييق إلى تعدد القضايا والمحاكمات، ثم انتقل التضييق إلى منعه من التحرك في المحافظات، والاقتصار على المحافظة التي يعيش فيها فقط وهي محافظة الفيوم، ومراكزها وقراها ونجوعها، ثم انتقل التضييق إلى المحافظة فقط ومنعه من التحرك إلى مراكز وقرى الفيوم.

وأتذكر موقفا للشيخ في آخر أيام منعه من التحرك للقرى والمراكز المختلفة داخل المحافظة، أن الشيخ/ عمر كان عنده محاضرة يلقيها في قرية بالفيوم تسمى “العدوة”، وكان دائما الشيخ يصاحبه عربات شرطة متعددة، سيارة تتحرك من أمامه تسمى “البوكس” القديمة وهي عبارة عن كابينة فيها سائق وبجواره ضابط أو اثنين، وخلف الكابينة تكون العربة مفتوحة وممتلئة بالعساكر والمخبرين، وكذلك عربة أو عربتين من خلفه على نفس الشاكلة، ولقد أتى أحد الإخوة بسيارته المتواضعة ليأخذ الشيخ من المنزل إلى المسجد الذي سيلقي فيه المحاضرة بقرية “العدوة” بالفيوم، وكنت في هذه الفترة ملازما لوالدي -رحمه الله- وأنا ابن الثالثة عشرة من عمري، وعند سيرنا في الطريق من مكان السكن في منطقة تسمى “الحادقة” -وهي عبارة عن مساكن شعبية تتكون كل بناية من أربع طوابق منهم الطابق الأرضي، وكنا نسكن في الطابق الثاني، أو ما يعرف بالأول بعد الأرضي- وأثناء الطريق استوقفنا كمين للشرطة، وطلب من السائق الرخصة والوقوف على جانب الطريق بعض الشيء حيث أن الجهات الأمنية تقوم بالاتصال بالقيادات العليا، والتي قررت منع الشيخ/ عمر من الذهاب إلى المسجد الذي هو بقرية “العدوة” والتي تبعد عن محافظة الفيوم قرابة 5-6 كيلو، فقرر الشيخ على الفور النزول من السيارة والتوجه نحو المسجد سيرا على الأقدام، فتعجبت الشرطة من هذا القرار الذي فعله الشيخ، وبالتالي بدأنا نتجاوز هذا الكمين، لأن القرار الذي صدر من الجهات العليا منع السيارة من إكمال مسيرتها، وليس السير على الأقدام، ولذا تُركنا نسير على الأقدام لفترة، حتى يرفع هذا التصور الجديد الذي قرره الشيخ من التحول للذهاب إلى المسجد بالسيارة إلى السير على الأقدام، ومن ثم ونحن في الطريق بدأت الاتصالات من رجال الشرطة بالفيوم إلى القيادات العليا بالقاهرة لإخبارهم بالقرارات الجديدة التي اتخذها الشيخ/ عمر عبد الرحمن، وهي نزوله من السيارة والسير على الأقدام متوجها إلى المسجد، فلذا صدر قرار آخر بمنع الشيخ/ عمر عبد الرحمن مطلقا من التحرك خارج المحافظة -والبقاء في الخطبة والدروس داخل المحافظة فقط- وقاموا بإغلاق الطريق كاملا بوضع حواجز حديدية في الطريق كاملا لضمان عدم وجود أي منفذ ليس للسيارة فحسب بل حتى للسير على الأقدام، وذلك بعد أن قطعنا قرابة الكيلو والنصف سيرا، مما اضطر الشيخ للرجوع.

ثم انتقل التضييق من التحرك في المحافظة نفسها إلى الإقامة الجبرية التامة في منزله، ولا يسمح له بالتحرك مطلقا إلا لأداء الصلوات الخمس في المسجد القريب من المنزل وكمأموم فقط، ويمنع منعا باتا أن يقترب منه أحد أو يسلم عليه، ومن تجرأ على فعل ذلك أخذ نصيبه سريعا بالقبض عليه.

ومما أتذكره أن هناك موقفا عجيبا وغريبا حدث من أحد مخبري أمن الدولة وكان ممن يراقبون الشيخ عند منزله، والموقف جدير بأن يذكر ويعرف.

والسؤال: ما هو هذا الموقف العجيب والغريب الذي حدث من أحد مخبري أمن الدولة مع الشيخ؟

 وكيف كان حال الشيخ في الفترة التي قضاها في منزله تحت الإقامة الجبرية التامة؟

وهل هناك كرامات حدثت له في هذه الفترة؟

هذا ما سنتعرف عليه في الحلقة القادمة -بمشيئة الله تعالى-.

التعليقات

موضوعات ذات صلة