فتوى لفضيلة الشيخ الدكتور عبد الآخر حماد الغنيمي – عضو رابطة علماء المسلمين
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: فقد وردت إلي عدة أسئلة من إخواننا وأبنائنا المقيمين في ألمانيا، ومفادها أن السلطات المسؤولة هناك قد أذنت مؤخراً بافتتاح المساجد بعد أن كانت مغلقة بسبب أزمة كورونا، وصرحت بإقامة صلاة الجماعة فيها مع الالتزام ببعض ضوابط الوقاية الصحية والتي أهما التباعد بين المصلين بحيث نكون المسافة بين كل مصل وآخر حوالي متر واحد، وهم يتساءلون عن صحة الصلاة مع هذا التباعد بين المصلين.
وجواباً على ذلك أقول: إن الصلاة بهذه الصورة صحيحة إن شاء الله، ولا شيء فيها، وبخاصة إذا كان الداعي إلى هذا التباعد هو الأخذ بأسباب الوقاية من هذا الوباء. وبيان ذلك في النقاط الآتية:
1-لا شك أن الشارع الحكيم قد ندب في صلاة الجماعة إلى تسوية الصفوف ،وسد الفرج بين المصلين كما في حديث أنس بنِ مَالِكٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (سَوُّوا صُفُوفَكُمْ، فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصُّفُوفِ مِنْ إِقَامَةِ الصَّلاَةِ). [أخرجه البخاري (723) واللفظ له، ومسلم (433)]. وفي سنن أبي داود (666) من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أقيموا الصُّفوفَ وحاذُوا بينَ المناكبِ وسُدُّوا الخللَ ولينوا بأيدي إخوانِكم ولا تذَروا فرُجاتٍ للشَّيطانِ ومَن وصَلَ صفًّا وصَلَه اللَّهُ ومن قطعَ صفًّا قطعَه اللَّهُ). [صححه النووي في المجموع (4/ 226) والألباني في صحيح سنن أبي داود].
ولكن هذا الأمر بتسوية الصفوف وسد الفرج مستحب، وليس بواجب في قول أكثر أهل العلم. قال الإمام النووي رحمه الله في المجموع (4/ 302): (اتفق أصحابنا وغيرهم على استحباب الصف الأول والحث عليه، وجاءت فيه أحاديث كثيرة في الصحيح، وعلى استحباب يمين الإمام، وسد الفرج في الصفوف، وإتمام الصف الأول ثم الذي يليه إلى آخرها، ولا يَشرع في صف حتى يتم ما قبله). وقال الخطيب الشربيني: (يُسنُّ سد فُرَج الصفوف، وألا يُشرع في صف حتى يَتِمَّ الأولُ، وأن يُفسح لمن يريده، وهذا كله مستحب لا شرط؛ فلو خالفوا صحَّت صلاتهم مع الكراهة) [مغني المحتاج (1/ 493)].
وذهب بعض أهل العلم إلى وجوب تسوية الصفوف في الصلاة، وأنه يقع الإثم بترك ذلك، مستدلين بما أخرجه البخاري (724) عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أنه قدم المدينة فقيل له: ما أنكرت منا منذ عهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال:( ما أنكرت شيئاً إلا أنكم لا تقيمون الصفوف). لكن حتى هؤلاء لا يظهر من قولهم أنهم يقولون ببطلان الصلاة؛ فقد بوب الإمام البخاري على هذا الحديث بقوله: (باب إثم من لا يتم الصفوف)، وقد بين الحافظ ابن حجر في فتح الباري: (2/ 210) أن صنيع البخاري يدل على أنه يرى وجوب تسوية الصفوف، لكن قال الحافظ رحمه الله: (ومع القول بأن التسوية واجبة فصلاة من خالف ولم يسوِّ صحيحة، لاختلاف الجهتين، ويؤيد ذلك أن أنساً مع إنكاره عليهم لم يأمرهم بإعادة الصلاة).
وكذلك رجح الشيخ ابن عثيمين أن تسوية الصفوف واجبة، وأن الجماعة إذا لم يسوُّوا الصَّفَّ فهم آثمون، لكنه استظهر عدم بطلان الصلاة بترك التسوية؛ وذلك (لأن التسويةَ واجبةٌ للصلاةِ لا واجبة فيها، يعني أنها خارج عن هيئتها، والواجبُ للصَّلاةِ يأثمُ الإِنسانُ بتَرْكِه، ولا تبطلُ الصَّلاةُ به، كالأذان مثلاً، فإنه واجبٌ للصَّلاةِ، ولا تبطل الصَّلاةُ بتَرْكِه). [الشرح الممتع (3/ 10)].
لكن يلاحظ هنا أن الإثم إنما يكون إذا تركنا التسوية من غير عذر، وأما مع وجود العذر فالذي يظهر عدم وجود الإثم أصلاً، لأن الله تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها، وكل واجب يسقط بالعجز عنه كما سيأتي تقريره بعد قليل في كلام ابن تيمية رحمه الله، والذي يظهر أن خوف الإصابة بهذا الوباء يعد من أعذار ترك التسوية وعدم سد الفرج والله أعلم.
2-وإن مما يُقرَّب ذلك أن نعلم أن صلاة المصلي متباعداً عن جاره في الصف غاية ما فيها أنها تشبه صلاة الرجل منفرداً خلف الصلاة ، بل هي في الحقيقة أخف من ذلك كما سيأتي ، ونحن نعلم اختلاف الفقهاء من قديم في حكم صلاة من صلى منفرداً خلف الصف ، وأن جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية على صحة صلاته ، وانفرد الحنابلة بالقول ببطلان صلاة من صلى ركعة كاملة منفرداً ، كما في المغني لابن قدامة ( 2/ 43) ، واستدل الجمهور بحديث أبي بكرة الذي في صحيح البخاري (783) لما ركع دون الصف فلم يأمره النبي بالإعادة . واستدل الحنابلة بحديث وابصة بن معبد أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلي خلف الصف وحده فأمره أن يعيد). [أخرجه أبو داود (682)]. لكن حمل الجمهور الأمر بالإعادة هنا على سبيل الاستحباب؛ جمعا بين الدليلين.
وتوسط شيح الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (23/ 396). فاختار أن من صلى منفرداً خلف الصلاة إذا لم يجد موضعاً في الصف فإنه لا تبطل صلاته، إذ هو معذور في ذلك، لأن جميع واجبات الصلاة تسقط بالعجز.
فإذا كان وقوف الشخص في صف وحده منفرداً فيه هذا الخلاف، وأن قول الجمهور هو عدم بطلان صلاته، فلا شك أن وقوف الجماعة في صف واحد –وإن كانوا متباعدين- هو أخف من ذلك وأهون. فكيف مع هذا العذر الذي نحن فيه؟
3- ومما يمكن الاستئناس به في هذا الخصوص أيضاً ما ورد في الصلاة بين السواري ، أي صف المصلين في صلاة الجماعة بين أعمدة المسجد، وما في ذلك من قطع العمود للصف. وقد أخرج الترمذي في سننه (229) عن عبد الحميد بن محمود قال: (صلينا خلف أمير من الأمراء، فاضطرنا الناس فصلينا بين الساريتين، فلما صلينا قال: أنس بن مالك: (كُنَّا نَتَّقِي هَذَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) [صححه الألباني في صحيح الترمذي]. وقد فسر جمهور أهل العلم ما جاء في قول أنس، وما يشبهه من الآثار على أن الصلاة بين السواري مكروهة فقط، بدليل قوله: (كنا نتقي) ولأنه لم يأمرهم بالإعادة. وقد بوب الترمذي على حديث أنس هذا بقوله: (باب ما جاء في كراهية الصف بين السواري). ثم قال عقب إيراده الحديث: (وقد كره قوم من أهل العلم أن يصف بين السواري وبه يقول أحمد وإسحق وقد رخص قوم من أهل العلم في ذلك). كما أن تلك الكراهة إنما تكون فقط في حال السعة والاختيار، أما في حال ضيق المسجد فلا تكره، قال القاضي أبو بكر بن العربي في عارضة الأحوذي: (1/ 26) عن حكم الصلاة بين السواري: (ولا خلاف في جوازه عند الضيق، وأما عند السعة فهو مكروه للجماعة، فأما الواحد فلا بأس به). وأقول: إنَّ ترك مسافة بين مصلٍ وآخر هو أشبه شيء بالصلاة بين السواري، فكلاهما لا تتصل به الصفوف، وقد رأينا أنه لا تبطل الصلاة إذا قطعت السواري الصف، بل لا يُكره ذلك إذا كان هناك حاجة لقطع الصفوف، فكذلك في حالتنا لا تبطل الصلاة بالتباعد، بل ولا تكره لما نحن فيه من الحاجة أو الضرورة
هذا والله تعالى أعلى وأعلم.
د. عبد الآخر حماد الغنيمي
عضو رابطة علماء المسلمين
14 رمضان 1441هـ -7/ 5/ 2020م