بقلم: فضيلة الشيخ الدكتور عبد الآخر حماد الغنيمي
شغل المدعو إبراهيم عيسى الناسَ في الأيام الماضية بكلامه الممجوج حول معراج الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وزعمِه أن الحكايات الواردة عن المعراج، دعائية وغير حقيقية، وأنها عبارة عن قصص وهمية اختلقها الشيوخ، على حد قوله.

ومن بين التعليقات الكثيرة على تلك التصريحات المسمومة، استوقفني كلامٌ أدلى به الدكتور سعد الدين الهلالي في مداخلة له مع عمرو أديب؛ حيث راح يتحدث عما زعمه اختلافاً بين الصحابة حول حقيقة الإسراء والمعراج، فذكر أن ابن عباس رضي الله عنهما كان يرى أن الإسراء والمعراج كانا بالروح والجسد، بينما كانت عائشة وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما يريان أنهما كانا بالروح فقط، وأن هناك رواية أخرى عن عائشة وبعض الصحابة بأنهما كانا مناماً. ثم أخذ الهلالي يعيد ويزيد فيما يسميه بالوصاية الدينية، وأن ديننا لا يحتاج إلى وصايةٍ من أحد، وهو يقصد بالوصاية ما قام به الغيورون من الإنكار على إبراهيم عيسى. ثم راح الهلالي يعلل هذا الذي زعمه بأن الله هو الذي يحمي دينه، ويقول: (إحنا ابتلينا لما ظهر الخطاب الديني الوصائي، وكأن الله يحتاج إلى من يُعينه). إلخ ما جاء في تلك المداخلة. وتعليقاً على ذلك أقول وبالله التوفيق:
- إن ما أنكره الهلالي، وأسماه “وصاية على الدين”، إنما هو نهجُ أهل العلم والدين منذ عصر الصحابة رضوان الله عليهم ومَن بعدهم من الأئمة الكرام، الذين تعلمنا منهم أن التصدي لشبهات المبطلين والرد على أباطيلهم، هو من أقرب القربات، بل هو نوع من الجهاد، وباب من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قال تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) [آل عمران: 110]. وقال صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان). [أخرجه مسلم]. وأيُّ منكر أعظم من التشكيك في ثوابت الدين، ومحاولة صرف الناس عنه بكل وسيلة ممكنة كما يفعل إبراهيم عيسى ومن على شاكلته؟!
- ثم إن ما أشار إليه الهلالي من الاختلاف بين الصحابة في الإسراء والمعراج، إنْ صحَّ – وهو لا يصح كما سيأتي – فإنَّ ذكْرَه في هذا الموقف لا بد أن يُوحي للسامعين بأن ما يزعمه إبراهيم عيسى وأمثاله، هو من جنس تلك الخلافات التي وقعت بين الصحابة ومن بعدهم من أهل العلم، والتي يسَعُنا فيها ما وسِعَهم. بينما الحقيقة التي لا أظن الهلالي يجهلها هي أن المدعو إبراهيم عيسى لا تهمه تلك الخلافات التي رويت عن الصحابة، ولا علاقة له بها. إنما هو شخص جيء به ليشكك الأمة في ثوابت دينها، وقد سبق له في عام (2019م) أن شكك في رحلة الإسراء كلها وزعم أن فيها أشياء غير منطقية، مثل البراق، وصلاته صلى الله عليه وسلم بالأنبياء في المسجد الأقصى، وتخيير جبريل له بين الخمر واللبن، وغير ذلك. كما سبق له الاستهزاء بالقرآن الكريم، حيث استهزأ بقوله تعالى: (هلك عني سلطانيه). وغير ذلك من سفالاته وبذاءاته، وحرصه على إشاعة الفاحشة، كادعائه كذباً وبهتاناً أن أمهاتنا وأخواتنا كن يرتدين “المايوه” و” الكات”. فهل مثل هذا السفيه يعتبر خلافه خلافاً، ويُقرن الحديث عنه بما روي من الخلاف بين الصحابة؟
- ثم إن الذي يجب أن نعلمه جميعاً أن القول الصحيح المعروف عن سلف هذه الأمة وأئمتها المعتبرين، هو أن الإسراء والمعراج كانا بالروح والجسد، يقظةً لا مناماً، بل نقل بعض أهل العلم الإجماع على ذلك. وحتى إن وُجِد خلافٌ في ذلك، فهو خلاف ضعيف، ترده الأدلة الصحيحة من كتاب الله تعالى وسنة رسوله، كما قال القاضي عياض في كتابه الشفا (1/193): ( والحق من هذا والصحيح – إن شاء الله تعالى- أنه إسراء بالجسد والروح في القصة كلها –أي في الإسراء والمعراج معاً -، وعليه تدل الآية، وصحيح الأخبار والاعتبار، ولا يُعْدَل عن الظاهر والحقيقة إلى التأويل إلا عند الاستحالة، وليس في الإسراء بجسده وحال يقظته استحالة، إذْ لو كان مناماً لقال: “بروح عبده” ،ولم يقل :”بعبده، وقوله تعالى (ما زاغ البصر وما طغى) ولو كان مناماً لما كانت فيه آية ولا معجزة، ولما استبعده الكفار ولا كذبوه فيه، ولا ارتد به ضعفاء من أسلم وافتتنوا به، إذ مثل هذا من المنامات لا يُنْكَر، بل لم يكن ذلك منهم إلا وقد علموا أن خبره إنما كان عن جسمه وحال يقظته).
- إن ما نسبه سعد الدين الهلالي إلى ابن مسعود رضي الله عنه من أنه كان يرى أن الإسراء والمعراج كانا بالروح هو قول لا يصح، ولا أعلم فيه أثراً صحيحاً ولا حتى ضعيفاً، وكذلك ادعاؤه أن عائشة رضي الله عنها قالت في رواية: إن الإسراء كان مناماً، لا وجود له في شيء من كتب السنة. فإنْ كان صادقاً فليأتنا بشيء من كتب السنة يدل على ذلك. لكنَّ الأمانة العلمية تقتضي أن نذكر أنه قد روي عن عائشة رضي الله عنها أثر فيه أن الإسراء كان بالروح فقط، ولكنه أثر ضعيف الإسناد، وفيه أنها قالت: (مَا فُقِدَ جَسَدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَسْرَى بِرُوحِهِ). [أخرجه ابن اسحق كما في “السيرة النبوية” لابن هشام (2/46)] لكنه كما قلنا أثر ضعيف لا يثبت عن عائشة رضي الله عنها، فقد رواه ابن إسحاق بإسناد منقطع، حيث قال ابن إسحاق: (حَدَّثَنِي بَعْضُ آلِ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تَقُولُ:) فذكره. وقال ابن عبد البر في الأجوبة المستوعبة عن المسائل المستغربة (134-135): (وإنكار عائشة الإسراء بجسده: لا يصح عنها، ولا يثبت قولها: (ما فقدت جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن أسري بروحه)….. وهذا من الكذب الواضح؛ لأن عائشة لم تكن وقت الإسراء معه، وإنما ضمها بعد ذلك بسنين كثيرة بالمدينة). وقد روي مثل ذلك عن معاوية رضي الله عنه، ولكنه ضعيف أيضاً، وقد قال الشيخ الألباني في تحقيقه لشرح الطحاوية (ص: 264) عن أثر عائشة وأثر معاوية: (لم يصح ذلك عنهما). وكذا ضعفهما الشيخ رشيد رضا في مجلة المنار (14/ 49): (قد تجد حديثين عن عائشة ومعاوية، يُفْهِمان أن الإسراء لم يكن بجسده الشريف، وهما حديثان ليسا مما يحتج بمثلهما أهل العلم بالحديث، وقد رواهما ابن إسحاق في السيرة …. فإنهما خبران ضعيفان، ليس لهما إسناد صحيح، وقد أطلت البحث عنهما فلم أجد لهما إسنادًا غير ما ذكر ابن إسحاق. أما خبر معاوية، فإنه منقطع؛ لأن راويه يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس، لم يدرك معاوية، ولم يدرك أحدًا من الصحابة أصلاً، … وأما حديث عائشة فإنه كما ترون: لا إسناد له، لأن قول ابن إسحاق: حدثني بعض آل أبي بكر إبهام للراوي، فلا نعرف منه من الذي حدثه، وهل هو ثقة أو ليس بثقة؟ وهل أدرك عائشة أو لم يدركها؟ فكلا الحديثين منقطع الإسناد، مجهول الراوي، لا يحتج بمثله عند أهل العلم)
- ثم إن من أقوى الأدلة على أن عائشة رضي الله عنها كانت ترى كغيرها من الصحابة أن الإسراء والمعراج كانا يقظةً بالروح والجسد، اختلافها مع ابن عباس في مسألة رؤيته صلى الله عليه وسلم ربه ليلة المعراج، وأنها لما سألها مشروق رحمه الله: (يا أُمَّتاه، هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه؟) قالت له: (لقد قَفَّ شعري مما قلت، أين أنت من ثلاثٍ منْ حَدَّثَكَهُنَّ فقد كذَب: مَن حدَّثك أنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد كذب ثم قرأت: (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) …. إلخ الحديث) [أخرجه البخاري (4855) ومسلم (177)]. فاستدلالها رضي الله عنها بقوله تعالى: (لا تدركه الأبصار) يدل على أنها علمت أن الإسراء والمعراج كانا يقظة بالروح والجسد؛ لأن الرؤية البصرية لا يستقيم ذكرها إلا في حالة اليقظة وكونه كان بالروح والجسد معاً.
هذا والله تعالى أعلى وأعلم.
عبد الآخر حماد
عضو رابطة علماء المسلمين
21/ 7/ 1443هـ- 22/02/2022 م