بقلم: فضيلة الشيخ عبد الآخر حماد

لما دخل شيخ الإسلام ابن تيمية على “قازان” قائد التتار، أغلظ له القول، وطلب من الترجمان أن يقول له: ” أنت تزعم أنك مسلم، ومعك مؤذنون وقاضٍ وإمام وشيخ على ما بلغنا، فغزوتنا وبلغت بلادنا على ماذا؟”. ثم بيَّن له أن أباه وجدَّه كانا كافريْن ومع ذلك لم يفعلا مثل فعلِه، بل عاهدا فوفيا، ” وأنت عاهدتَ فغدرتَ، وقلتَ فما وفيتَ “.
نقل ذلك الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (14/ 91) عن الشيخ الزاهد محمد بن قَوَّام البالسي، الذي كان في جملة من كان مع ابن تيمية عند دخوله على قازان.
ومما جاء في رواية ابن قوام رحمه الله: أن التتار قرَّبوا للجماعة طعاماً فأكلوا منه، إلا ابن تيمية. فقيل له ألا تأكل؟ فقال: ” كيف آكل من طعامكم، وكلُّه مما نهبتم من أغنام الناس، وطبختموه بما قطعتم من أشجار الناس”.
ثم إن قازان طلب من ابن تيمية أن يدعوَ له، فقال في دعائه: ” اللهم إن كان هذا عبدك محمود إنما يقاتل لتكون كلمتك هي العليا، وليكون الدين كله لك فانصره، وأيده وملِّكْه البلاد والعباد، وإن كان إنما قام رياءً وسمعةً وطلباً للدنيا، ولتكون كلمته هي العليا، وليُذلَّ الإسلام وأهلَه فاخذله، وزلزله، ودمره، واقطع دابره”. قال ابن قوام: ” وقازان يؤمن على دعائه، ويرفع يديه”. قال: ” فجعلنا نجمع ثيابنا خوفاً من أن تتلوث بدمه إذا أمر بقتله.
وقد كان مع ابن تيمية جماعة من المشايخ منهم قاضي القضاة نجم الدين بن صَصْرَى. وكعادة أصحاب المناصب والرياسات الدينية في كون أكثرهم يؤثرون السلامة ويُحجِمون عن الصدع بالحق، فإنَّ القاضي ابن صصرى ومن معه لم يَرضَوْا عن كلام ابن تيمية مع ” قازان”. ولذا فإنهم لما خرجوا من عنده قالوا لابن تيمية: ” كدت أن تهلكنا وتهلك نفسك، والله لا نصحبك من هنا، فقال: وأنا والله لا أصحبكم “.
فانطلق أولئك القوم وتأخر ابن تيمية، ومعه جماعة من أصحابه. منهم ابن قوام راوي القصة الذي كان محباً لابن تيمية، وكان -كما ذكر عنه ابن كثير- حسنَ العقيدة، وطويته صحيحة محباً للحديث وآثار السلف، ولم يكن له مرتب لا من الدولة ولا من غيرها، ولم يكن لزاويته مرتب ولا وقف، وقد عُرض عليه ذلك غيرَ مرةٍ فلم يقبل.
قال ابن قوام متحدثاً عن ابن تيمية بعد خروجه من عند قازان: ” فتسامعت به الخواقين والأمراء من أصحاب قازان، فأتوه يتبركون بدعائه، وهو سائر إلى دمشق، وينظرون إليه. قال: والله ما وصل إلى دمشق إلا في نحو ثلاثمائة فارس في ركابه، وكنت أنا من جملة من كان معه. وأما أولئك الذي أبوا أن يصحبوه فخرج عليهم جماعه من التتر فشلحوهم عن آخرهم”. أي سطَوْا عليهم فسلبوا ما معهم من مال ومتاع.
قلت: فانظر إلى حكمة الله وتدبيره، وكيف نجى عبده الصادع بالحق، وألقى مهابته وإجلاله حتى في قلوب أعدائه؛ فجاؤوا ينظرون إليه ويطلبون منه الدعاء. في حين وقع الضر والأذى بأولئك الذين ظنوا أن السلامة والنجاة تكون بمداهنة أهل الباطل، وعدم إنكار منكراتهم. فهل من معتبر؟