القائمة إغلاق

الجانب الإسلامي في كتابات عبد الحميد جودة السحار

بقلم: فضيلة الشيخ الدكتور عبد الآخر حماد الغنيمي

كنت قد كتبت منذ فترة مشيداً بما ذكره الأديب المصري الراحل عبد الحميد جودة السحار (1913- 1974) في كتابه: (هذه حياتي)، عند حديثه عن زيارته لضـريح البدوي بطنطا، حيث عبر عن امتعاضه الشديد مما رآه في ذلك المكان، من تمسح العوام بالمقام وتقبيلهم للأعتاب، وغير ذلك من الممارسات التي وصفها بأنها “وثنيـاتٌ تمارَس علـى مرأىً ومسمعٍ من وزارة الأوقاف ورجال الـدين”. وعجبت من وجود هذا الفهم الصحيح لعقيدة الإسلام الصافية، عند أديب روائي غير متخصص في علوم الشريعة، في حين نجد بعض علمائنا الرسميين يدافعون عن تلك الممارسات الفاسدة، في خلطٍ متعمد بين تلك الشركيات التي لا يمكن أن يقرها شرع ولا دين، وبين الزيارة الشرعية للقبور التي ورد الحث عليها في السنة الصحيحة.  

وأريد اليوم أن أشير إلى أنه قد كان للأستاذ السحار رحمه الله إسهامات كثيرة في مجال الكتابات الإسلامية، وإن كان أكثر تلك الإسهامات قد جاء في صـورة قصصية روائية. ومن أشهرها كتابه (محمد رسول الله والذين معه)، وهو مجموعة مطوَّلة في عشرين جزءاً، تروي سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، بدءاً من قصة إبراهيم عليه السلام وحتى وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه المجموعة هي أصل المسلسل التليفزيوني الشهير (محمد رسول الله) الذي ظل يعرض لعدة سنوات خلال شهر رمضان، في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن الميلادي المنصرم.

ومما ينبغي ذكره هنا أن كثيراً من أدباء العربية في القرن الماضي قد تناولوا بالكتابة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، فكتب الدكتور محمد حسين هيكل: “حياة محمد”، وكتب العقاد: “عبقرية محمد “، وكتب طه حسين: “على هامش السيرة “، وكتب توفيق الحكيم: مسرحية “محمد “. وكتب غيرهم ما كتب. ولا شك أن لكل منهم ما له وعليه ما عليه. وليس ها هنا مجالُ تفصيل القول في مناهج أولئك الكتاب أو تفضيل بعضها على بعض. وإنما أردت فقط أن أشير إلى شيء من منهج الأستاذ السحار، في مجموعته المشار إليها، فإني قد لاحظت من خلال قراءتي لبعض أجزاء تلك المجموعة أن الحبكة الفنية القصصية عنده لم تكن تطغى على الحقـائق التاريخية، بل كان يرجع إلى الكتب المعتمدة في السيرة والتواريخ، ويمحص الروايات، ويرجح منها ما يترجح لديه، كما أشار هو نفسه إلى ذلك في نهـاية الجزء الأول من تلك المجموعة (1/ 262). ونحن وإن كنا قد لا نوافقه على بعض ترجيحـاته، لكنه على الأقل لم يكن يطلق لخياله العنان في اختلاق المواقف والأحداث، كما كان يفعل كثير من معاصريه، بل ما مِنْ رواية ذكرها إلا ولها أصل في كتب السنة والسيرة.

ومما يذكر له أيضاً أنه ناقش ما يردده بعض المشتغلين بتـاريخ الأديان، من القول بتطور العقائد والـديانات، وأن البشـرية ترقـت في الـديانات كمـا ترقت في العلوم والصناعات، ويبنون على ذلك أن البشرية بدأت بتعدد الآلهة ثم مرت بمرحلة التمييـز والترجيح بين تلك الآلهة، ثم انتهت إلى طور الوحدانية أي الاعتقاد بوجود إله واحد. هذه النظرية التي كان يتبناها بعض المفكرين المعاصرين للسحار، ومنهم الأستاذ العقاد كما صرح بذلك في كتابه (الله)، وقد رد الأستاذ السحار هذه النظرية الباطلة في نهاية الجزء الأول من مجموعته المشار إليها (1/ 263)؛ إذ استند إلى الأدلة القرآنية الصريحة الدالة على أن آدم عليه السلام نزل إلى الأرض وهو على التوحيد الذي تلقَّاه من ربه سبحانه، وأن بنيه قد تلقَّوا ذلك منـه، وبقيت البشرية على ذلك زمناً، فلما طال عليهم الأمد وقست قلوبهم وأشركوا بربهم، بعث لهم – سبحانه – رسله يدعونهم إلى التوحيد. ولا شك أن هذا الذي ذكره السحار هو الحق الذي تؤيده الأدلة الشرعية القطعية.

ومن إسهامات الأستاذ السحار أيضاً أنه كتب عدة مجموعات قصصية للأطفال تتناول موضوعات إسلامية متنوعة بأسلوب سهل مبسط. وقد جاءت في أربع مجموعات أو حلقات كما سماها هو، كل حلقة منها تضم حوالي عشرين قصة. وكانت أولى تلك الحلقات بعنوان قصص الأنبياء، وقد كتبها بالاشتراك مع الأستاذ سيد قطب رحمه الله. وكانت الحلقة الثانية بعنوان قصص السيرة، والحلقة الثالثة بعنوان: قصص الخلفاء الراشدين، وأما الحلقة الرابعة والأخيرة فكانت بعنوان العرب في أوربا، وهي تتناول تاريخ المسلمين في الأندلس حتى سقوط آخر ممالك المسلمين بها. ولقد كانت تلك القصص وأمثالها من أهم الروافد الثقافية والتاريخية التي استفدنا منها في صغرنا، وتربى عليها جيلنا، وبعض الأجيال السابقة واللاحقة.   

وأخيراً : أحب أن أشير إلى موقف نبيلٍ للأستاذ السحار، يتعلق بالأستاذ (سيد قطب) رحمه الله، ذكره الدكتور صلاح الخالدي في كتـابه: مدخل إلى ظلال القرآن (ص: 9)، وكذا في كتابه: سيد قطب من الميلاد إلى الاستشهاد (ص: 535) نقلاً عن الأستاذ محمد قطب رحمه الله، وخلاصة ذلك الموقف: أن السحار -كان كما أسلفنا – قد كتب بالاشتراك مع سيد قطب سلسلة قصصية في قصص الأنبياء للأطفال، فلما نفدت نسخ تلك السلسة، أراد الأستاذ السحار أن يعيد طبعها، وكان سيد في ذلك الوقت مسجوناً في محنة 1965م، فتوجه السحار إلى شمس بدران مدير مكتب المشير عبد الحكيم عامر ليأخذ منه إذناً بإعادة الطبع، فوافق شمس بدران، لكن بشرط أن يسقط اسم سيد قطب من كتب السلسلة، فاستغرب السحار ذلك الشرط، وحمَلَه وفاؤه لزميله على رفض الاستجابة لمطلب شمس بدران.

قلت: ولكني اطلعت على بعض قصص تلك المجموعة، وهي صادرة عن مكتبة مصر بالفجالة، بلا تاريخ، ومكتوب عليها اسم السحار وحده، لكن على الغلاف الأخير لكل قصة منها يوجد بيان بأسماء قصص تلك السلسلة، وقد كتب أمام ذلك البيان عبارة: (بالاشتراك مع سيد قطب). فالذي يظهر أن السحار قد وافق على شرط شمس بدران، فأسقط اسم سيد من على الغلاف الأمامي، لكنه تحايل على هذا الشرط، بأن ذكر اسمه على الغلاف الأخير منها. رحمه الله وغفر له.

عبد الآخر حماد

5/ 1/ 1442هـ – 24/ 8/ 2020م

التعليقات

موضوعات ذات صلة