بقلم: فضيلة الشيخ عبد الآخر حماد الغنيمي
مكة بلد الله الأمين الذي أقسم الله به في موضعين من كتابه الكريم ،وفيها الكعبة المشرفة بيت الله الحرام، ومهوى أفئدة أهل الإيمان.
وهذا حديث سريع حول ذلك المكان الطيب الطاهر، من حيث كونُه مثالاً لاتساق الخلق مع الأمر، ونموذجاً للتوافق بين ما سنَّه الله تعالى في كونه، وما أمر به وشرعه للناس، مصداقاً لقوله تعالى: (ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين). [الأعراف :54 ].
وقد جاء هذا النص الحكيم تعقيباً على ما ذكر قبله من آيات الله تعالى في كونه وما سنَّه من تعاقب الليل والنهار وكون الشمس والقمر والكواكب مُسيَّرةً بأمره تعالى حيث قال عز وجل: (إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين). فالخلق يتضمن كما يقول الشيخ السعدي في تفسيره: (أحكامه الكونية القدرية، والأمر يتضمن أحكامه الدينية الشرعية).
وما دام الكل من عند الله فلن يكون بينهما تناقض ولا تضاد. بل لابد أن يكون بينهما من التناسق والارتباط الوثيق ما يزداد معه إيمان أهل الإيمان، ويكون حجة على أهل الشرك والكفران..
1- وإن من أهم ما يتعلق بما نحن بصدده ما ذكره كثير من الباحثين من أن مكة تقع في مركز متوسط من اليابسة. وقد نشر عالم مسلم هو الدكتور حسين كمال الدين رحمه الله في سبعينيات القرن الماضي بحثاً أكد فيه أن مكة تقع في مركز اليابسة، وأنه يستطيع أن يرسم دائرة يكون مركزها مكة، ومحيطها يدور مع حدود القارات الخارجية. وقد ذكر الدكتور زغلول النجار في بعض مقالاته أن هناك من العلماء الغربيين من أثبت صحة هذه الحقيقة أيضاً. ولكني من باب الأمانة العلمية لا بد أن أشير إلى أن من الباحثين مَن يشكك في دقة ما توصل إليه الدكتور حسين كمال الدين، فقد ذكر بعضهم أنه قام بتعيين المسافات الحقيقية باستخدام برنامج “جوجل إرث” بين مكة المكرمة وبين أبعد نقاط على اليابسة في القارات المختلفة، فجاءت النتائج مختلفة. ولو كان ما ذكره الدكتور حسين كمال الدين صحيحاً لكانت المسافة بين مكة وبين تلك النقاط ثابتة. وعلى كل حال فإنه ليس مقصودنا هنا أن نثبت صحة الفرضية القائلة بأن مكة مركز اليابسة، وإنما فقط نشير إلى أن مكة في موقع متوسط من الكرة الأرضية، وهذا أمر يمكن ملاحظته بسهولة لكل من ينظر إلى خريطة العالم وموقع مكة منها. وقد راجعت ما ذكره الباحث المشار إليه من مسافات بين مكة وبين النقاط التي أشار إليها فوجدتها، وإن لم تكن متطابقة فإنها متقاربة. وتأتي هذه الوسطية المكانية للكعبة متسقة مع ما هو معلوم من كون الأمة المسلمة هي الأمة الوسط كما قال تعالى (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً ). (البقرة :143) ولما كانت ملة الإسلام هي الملة الوسط عقيدةً وشريعةً، فقد ناسب ذلك أن تكون قبلة تلك الأمة في المركز الوسط من الكرة الأرضية.
ولعل في ذلك ما يفسر -والله أعلم- كون النص القرآني الذي يتحدث عن وسطية هذه الأمة، قد جاء في سياق الحديث عن القبلة وتحويلها من بيت المقدس إلى البيت الحرام بمكة؛حيث قال الله تعالى: (سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) [البقرة 142]. ثم قال بعد ذلك مباشرة: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً..) ثم نجد الحديث في بقية الآية والآية التي بعدها عن القبلة أيضاً حيث قال تعالى: (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه..) إلى قوله تعالى: (قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام..) إلخ الآيات. والعجيب أن وسطية الكعبة كانت معروفة لدى بعض أهل العلم من قديم، وقد أشار القرطبي رحمه الله إلى العلاقة بين ذلك وبين وسطية الأمة حيث قال في تفسير أية الوسطية: ((المعنى: وكما أن الكعبة وسط الأرض كذلك جعلناكم أمة وسطاً، أي جعلناكم دون الأنبياء وفوق الأمم) .[ الجامع لأحكام القرآن(2/153)]. ومن اللافت للنظر أيضاً أن قوله تعالى (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً ) قد جاء في الآية الثالثة والأربعين بعد المئة من سورة البقرة، فإذا علمنا أن عددَ آيات سورة البقرة ست وثمانون ومئتان، فإن معنى ذلك أن آية الوسطية قد جاءت في منتصف السورة تأكيداً لمعنى الوسطية والله أعلم.
2- والوسطية من ناحية البناء الصرفي مصدر صناعي من الوسط وهي تعني الخيرية، قال في القاموس: (الوسط محركة من كل شيء أعدله)، وقال في النهاية: ((يقال هو من أوسط قومه أي من خيارهم)، ومنه قول الصديق رضي الله عنه يوم السقيفة عن قريش: (هم أوسط العرب نسباً وداراً). [أخرجه البخاري (6830)]. وفي الصحيح عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يجيء نوح وأمته، فيقول الله تعالى: هل بلغت؟ فيقول نعم أي رب. فيقول لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: لا ما جاءنا من نبي. فيقول لنوح :من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته. فنشهد أنه قد بلَّغ، وهو قوله جل ذكره (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس). والوسط العدل). [أخرجه البخاري والترمذي وابن ماجه وأحمد] وقال الحافظ ابن كثير في تفسير هذه الآية: (والوسط ههنا الخيار والأجود كما يقال قريش أوسط العرب نسباً وداراً أي خيرها، وكان رسول الله وسطاً في قومه، أي أشرفهم نسباً). وأمة الوسط هي خير الأمم كما قال تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس). وإذا كانت هذه الأمة بشرائعها وأحكامها هي خير الأمم فإن قبلتها هي خير بقاع الأرض، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم مخاطباً مكة. (والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إليَّ، ولولا أني أُخرجت منك ما خرجت). [أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه، من حديث عبد الله بن عدي بن الحمراء، وقال الترمذي حسن صحيح، وصححه ابن حبان والحاكم]. وهذا توافق ثانٍ بين الخلق والأمر والله أعلم.
3- وتوافق ثالث يتعلق بقضية الأولية الزمانية فمكة هي مبدأ الشرع، منها بدأت دعوة الحق وانتشر نور الإسلام. وقد ورد في بعض الآثار ما يفيد بأن مكة هي مبدأ الخلق أيضاً، وأن الأرض إنما دحيت -أي مدت- من تحت موضع البيت الحرام، روى ذلك الطبري وغيره عن عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمرو بأسانيد لا بأس بها، [تفسير الطبري (2/265)، (6/20)]، وهذا أحد الوجوه في سبب تسمية مكة بأم القرى أي لأجل أن خلق الأرض قد بدأ منها، قال شيخ الإسلام ابن تيميه: ((وقد دل الكتاب والسنة وما روي عن الأنبياء المتقدمين عليهم السلام مع ما علم بالحس والعقل وكشوفات العارفين أن الخلق والأمر ابتدآ من مكة أم القرى فهي أم الخلق، وفيها ابتدئت الرسالة المحمدية التي طبق نورها الأرض)). [مجموع الفتاوى: (27/43)]. وفي السنة الصحيحة ما يفيد أن مكة وما حولها كانت موطناً للإنسان الأول وهو آدم عليه السلام؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم بنَعمان -يعني عرفة- وأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها، فنثرهم بين يديه، ثم كلمهم قبلاً، قال: “ألست بربكم؟ قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين (*) أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون). [أخرجه أحمد والحاكم، وقال صحيح الإسناد، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (7/25) وقال: رجاله رجال الصحيح. كما صححه الشيخ أحمد شاكر في شرحه على المسند (2/151)]. وقد رأيت بعض المعاصرين يستدل بهذا الحديث على أن أخذ الميثاق من ظهر آدم عليه السلام كان في يوم عرفة، وليس في الحديث والله أعلم ما يدل على ذلك، وإنما فيه بيان المكان الذي أخذ فيه الميثاق، فنَعمان من أسماء عرفة كما هو ظاهر الحديث وفي القاموس المحيط: (نعمان وادٍ وراء عرفة، وهو نعمان الأراك). وإذن فالأولية الزمانية ليست مقتصرة على كون خلق الأرض بدأ من مكة، بل كانت لمكة وما حولها الأولية في الاستيطان البشري، ولذلك علل ابن الجوزي توقان النفوس إلى مكة واشتياقها إليها بكونها موطن الإنسان الأول؛ فقد قال بعد أن ذكر حديث أخذ الذرية من ظهر آدم: (وهذا الحديث يدل على أن ذلك المكان أول وطن، والنفس أبداً تنازع إلى الوطن). [تهذيب مثير الغرام الساكن إلى أشرف الأماكن ص:49].
4- وتوافق رابع يتعلق بعبادة الطواف، فنحن نعلم أن المسلم حين يطوف بالبيت الحرام فإنه يجعل الكعبة عن يساره ثم يبدأ الطواف، ومعنى ذلك أن دورانه حول الكعبة يكون في عكس حركة عقارب الساعة. فإذا علمنا أن الالكترونات في الذرة تدور حول نواتها في عكس حركة عقارب الساعة، وكذلك تدور كواكب المجموعة الشمسية حول الشمس في عكس عقارب الساعة، فإنه تتجلى لنا صورة أخرى من صور التوافق بين الخلق والأمر. هذا ومما ينبغي أن يعلم أن السبب في كون عقارب الساعة تسير بطريقتها التي نعرفها، هو أن الساعات الحديثة اختراع غربي، وبالتالي فحركة العقارب فيها تابعة لطريقة الكتابة عندهم والتي تتجه من الشمال إلى اليمين، بخلاف الكتابة العربية التي تتجه من اليمين إلى الشمال. فلو كُتبت أرقام الساعة من اليمين إلى الشمال لسارت عقارب الساعة بنفس طريقة الطواف حول الكعبة الموافقة لحركة الكواكب والالكترونات. وكم في خلق الله وشرعه من حكم وأسرار، فسبحان الخلاق العظيم الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى.
عبد الآخر حماد
عضو رابطة علماء المسلمين
7/ 12/ 1442هـ- 17/ 7/ 2021م