بقلم: المهندس أسامه حافظ
على كثرة ما اختلف الفقهاء في اجتهاداتهم في مسائل الفروع.. وعلى قدر تنازع أتباعهم حول هذه المسائل واشتجارهم بل واحترابهم في بعض الأصول تعصبا لأئمتهم بقدر ما كره أولئك الأئمة الأعلام هذا الخلاف وندبوا للخروج منه إيثارا لوحدة الأمة وكراهة للاختلاف .. وقد أكثر أولئك الأئمة العظام من مراعاة الخلاف في اجتهاداتهم بل وعدّه بعضهم من مصادرهم في الفتوى وامتلأت كتاباتهم وفتاواهم ترجيحا للقدر المتفق عليه بينهم أو اختيارا للوجه المشتمل على الاحتياط تحرزا للدين واطمئنانا لثمرة الاجتهاد.
ونقصد بمراعاة الخلاف: (اعتبار المجتهد لخلاف غيره من المجتهدين عند قوة مأخذهم بامتثال مقتضى ما اختلف فيه), والمقصود بامتثال مقتضى ما اختلف فيه فعل ما اختلف في وجوبه وترك ما اختلف في تحريمه ويشمل أيضا ترتيب آثار التصرف وإن حكم بعدم المشروعية.. وقد زعم بعض العلماء الإجماع على اعتبار الخلاف وإن كان في هذه الدعوى نظرا إلا أنها تدل على انتشار هذا المعنى عند الفقهاء انتشارا يقارب الإجماع.
فهذا الإمام الشاطبي من المالكية يقول في الاعتصام” وهو أصل في مذهب مالك – يعني مراعاة الخلاف – يبنى عليه مسائل كثيرة “
وهذا الزركشي من الشافعية يقول: يستحب الخروج منه – يعني الخلاف – باجتناب ما أختلف في تحريمه وفعل ما أختلف في وجوبه
وجعل ابن السبكي أطراح الخلاف بالخروج منه أفضل.. واعتماده منه الورع المطلوب
أما ابن عابدين – الحنفي – فقد أفرد له مطلبا مخصوصا في حاشيته الشهيرة تحت عنوان: (مطلب في ندب مراعاة الخلاف), وقد صلى أبو يوسف بالناس الجمعة وقد توضأ من بئر فيها فأر ميت أخذا بقول أخوانه من الحجاز كما قال.رغم أن الاحناف لايصححون ذلك الا أن يتم تطهير البئر بنزحه ان كان صغيرا أو نزح كمية كبيرة من مائه ان كان كبيرا
وقد أخذ الحنابلة في هذا الباب بتوسع كبير تستطيع أن تجده منتشرا في كتبهم مثل قول ابن قدامة في وقت الجمعة وفي باب شروط من تقبل شهادته وغير ذلك.
وقد استدل الأئمة الأعلام على ذلك باستدلالات كثيرة منها حديث: (الولد للفراش وللعاهر الحجر), ثم قال لسودة احتجبي منه باعتباره غريبا رغم اثبات النسب لما رأى من شبه الولد من أبي وقاص فراعى الحكمين معا حكم الفراش وحكم الشبه
واستدلوا بصلاة ابن مسعود خلف عثمان لما أتم بمنى رغم مخالفته في اجتهاده وأجاب من سأله بأن (الاختلاف شر) وقد ساق الشاطبي أدلة أخرى في اعتصامه لمن أراد الرجوع إليها.
هذا وقد اجتمعت كلمة القائلين بمراعاة الخلاف على أنه تصرف مستحب يقول ملا علي القاري: (الخروج من الخلاف مستحب بالإجماع)
بقى أن نقول أن لمراعاة الخلاف شروط أشترطها الفقهاء لضبطه وتحديده وإلا افقد هذا الباب الاجتهاد دوره وحوّله إلى مجموعة من الأحاويط بالحق أو بالباطل وأهم هذه الشروط:
1. أن يكون الخلاف قوي المدرك وليس شذوذا أو نقيضا للأدلة الشرعية الثابتة فلا يراعى مثلا خلاف أبي حنيفة في قوله ببطلان الصلاة برفع اليدين فيها لمناقضته للنصوص الشرعية الثابتة أو مخالفة عطاء بقوله بإباحة وطء الجارية بالعارية لشذوذه ومخالفته ما تعارف عليه الفقهاء بل والناس جميعا.
2. ألا تؤدي إلى صورة تخالف الإجماع كمن تزوج بدون ولي – قول الأحناف – وبدون شهود – قول المالكية – إذ أن هذه صورة لا يجيزها أحد فلا يجوز تصحيح هذا الزواج مراعاة لخلاف من ذكرنا.
3. ألا يترك المراعي للخلاف مذهبه بالكلية – وهو ما ذهب إليه المالكية -.
4. أن يكون الجمع بين المذاهب ممكنا وإلا فلا ينبغي أن يترك الراجح حسب رأيه لما يراه مرجوحا مراعاة للخلاف كمن ذهب إلى أن قراءة الفاتحة مرتين مبطل للصلاة.. فإنه يستحيل أن يأخذ بقول الشافعي أن من سبق إلى قراءة الفاتحة فإن قراءته باطلة تستلزم الإعادة.
5. وهو إن لم ينص عليه إلا أن مقتضى كلامهم يستلزمه إذ أن من جزم بصحة الحكم المنتزع من دليله فلا معنى لأن يصير إلى قول مخالفة مراعاة له لعدم وجود المسوغ الشرعي لأطراح الدليل الصحيح إذ أن عبادة الله بمؤدي الاجتهاد التام أولى من عبادته بالاحتياط إلا في حالة التورع بالترك لأنه ليس في حاجة لدليل على الترك هنا مادام في حالة الاعتدال.
وفي النهاية..
لا شك أن مراعاة الخلاف من أعظم العناصر التي انتبه لها الفقهاء لعلاج حالات التفكك والتمزق التي تعانيها الأمة وتحقق الائتلاف والاجتماع مادام الأمر مناط الاجتهاد المقبول وأن الحوار البناء المبني على الرغبة في الخروج من الخلاف هو أحد مفاتيح الخلاص من أزمتنا الراهنة وتمزق شملنا.
والتأصيل لمثل هذه المعارف الكلية هو البداية للدعوة إليها ونشرها بين الناس حتى تصير من المسلمات وتأخذ مكانها في الوجدان العام للأمة ليسهل عليها تنفيذها ورأب الصدوع الناتجة عن تنوع الاجتهادات وتعصب كل ذي رأي لرأيه.. والله نسأل أن يجمع أمتنا ويزيل عنها فرقتها.. إنه سميع مجيب.
مختصر بتصرف من كتاب ” اعتبار المآلات “